تواصل إسرائيل هجومها على مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، فكيف يأتي الذكاء الاصطناعي القاتل في صدارة المشهد؟ وإلى أين وصل توظيف جيش الاحتلال للتقنية الخطيرة؟
كان جيش الاحتلال قد شن، الإثنين 3 يوليو/ تموز، هجوماً عنيفاً، هو الأكبر منذ أكثر من عشرين عاماً، على مدينة جنين ومخيمها المكتظ بالسكان، مما أدى إلى استشهاد 10 فلسطينيين وإصابة 200 آخرين، ولا يزال العدوان الإسرائيلي مستمراً وسط صمت دولي وإقليمي ومناشدات من السلطة بتوفير حماية دولية للفلسطينيين.
إسرائيل والذكاء الاصطناعي القاتل
جاءت الطائرات بدون طيار (المسيرات) في طليعة العدوان الإسرائيلي على جنين، وهو ما أثار تساؤلات متجددة بشأن توظيف الجيش الإسرائيلي لتقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل مكثف.
وكان جيش الاحتلال قد أطلق، العام الماضي، استراتيجية جديدة لدمج أسلحة وتقنيات الذكاء الاصطناعي في جميع الأفرع العسكرية، وهو التحول الاستراتيجي الأضخم منذ عقود. والشهر الماضي، تفاخرت وزارة الدفاع الإسرائيلية بأن الجيش يسعى إلى أن يصبح "قوة عظمى" في مجالات تطبيق الذكاء الاصطناعي عسكرياً، بحسب ما جاء في مقال لموقع ميدل إيست آي البريطاني.
وقال إيال زامير، جنرال متقاعد في جيش الاحتلال، أمام مؤتمر هيرتسيليا السنوي للأمن، إن هناك من يرون "الذكاء الاصطناعي هو الثورة القادمة في مجال الحروب"، مضيفاً أن "التطبيقات العسكرية يمكن أن تشمل قدرة المنصات على الضرب بشكل جماعي أو أن تعمل الأنظمة الهجومية بشكل مستقل وأحادي، إضافة إلى المساعدة في اتخاذ القرارات السريعة وذلك على مستوى ضخم بصورة غير مسبوقة".
وفي هذا السياق تنتج الآلة العسكرية الإسرائيلية حالياً مركبات عسكرية ذاتية القيادة والعمل، منها "عربة روبوت مسلحة بالكامل" توصف بأنها "منصة ذاتية وقاتلة تتعرف بنفسها على الأهداف وتقوم بتصفيتها". وهناك أيضاً غواصة ذاتية القيادة تعمل على "جمع المعلومات الاستخبارية" تطلق عليها إسرائيل "الحوت الأزرق"، ودخلت مرحلة التجارب.
وبطبيعة الحال تجرب إسرائيل أسلحتها الفتاكة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وتقوم بتقديم النتائج للمشترين المحتملين لتلك الأسلحة كأدلة على "نجاحها" في ساحة المعارك. إسرائيل الآن لا تنتج وحشاً آلياً واحداً، بل وحوشاً متنوعة تعمل بالذكاء الاصطناعي وتتخذ القرارات القاتلة وتنفذها بشكل مستقل ودون الحاجة لتدخل بشري. وإذا كانت هذه النوعية من التوظيف العسكري للذكاء الاصطناعي تتم تجربتها الآن ضد الفلسطينيين، فإنها أيضاً متاحة لمن يمكنه شراؤها من الإسرائيليين، ومن ثم فهذه الأسلحة ذاتية القرار تمثل خطراً داهماً على أي شخص وفي أي مكان، بحسب تحذيرات المنظمات الحقوقية وكثير من خبراء الذكاء الاصطناعي.
وفي السياق ذاته، طورت إسرائيل تقنية أخرى تعمل أيضاً بالذكاء الاصطناعي وتسميها "المعرفة المحسنة"، لا تقوم فقط بمراقبة أماكن إطلاق الصواريخ من جانب حركات المقاومة الفلسطينية بل أيضاً بتوقع أماكن الإطلاق المستقبلية لتلك الصواريخ.
وبطبيعة الحال، قد تعني تلك التقنية توفير حماية للإسرائيليين من الأسلحة الفلسطينية لكنها في الوقت نفسه تطلق يد الاحتلال وتحوله إلى "آلة قتل تعمل بالذكاء الاصطناعي" مطلقة العنان تماماً للاعتداء على الفلسطينيين تحت الاحتلال ومتوقعة الحد الأدنى من المقاومة، أو هذا ما تسعى إسرائيل للوصول إليه على أية حال.
مدفع رشاش "ذكي"!
وزارة الدفاع الإسرائيلية لا تقدم إحصاءات أو تقارير تفصيلية عن حجم تمويل الذكاء الاصطناعي، لكن جيش الاحتلال نفسه يكشف النقاب أحياناً عن بعض الأنظمة القتالية ذاتية القيادة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، والتي تم نشرها بالفعل. وفي عام 2021، قال الجيش إن مركبات مراقبة روبوتية ستساعد في دوريات الحراسة على حدود قطاع غزة.
وفي هذا السياق، تعتبر عملية اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده عام 2020، أحد "إنجازات" الذكاء الاصطناعي العسكري الإسرائيلي، حيث كشف تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عن كيفية تنفيذ الموساد (جهاز الاستخبارات الإسرائيلي) لعملية الاغتيال في قلب العاصمة الإيرانية.
"قام عملاء إيرانيون يعملون مع الموساد بإيقاف سيارة في جانب الطريق (الذي يسلكه محسن فخري زاده).. وفي أرضية تلك السيارة كان يوجد مدفع رشاش للقنص عيار 7.62 ملم. وتموضع منفذ عملية الاغتيال، وهو قناص متمرس، وأعد زاوية إطلاق النار استعداداً لساعة الصفر، ثم ضغط على زر الإطلاق"، بحسب الصحيفة الأمريكية.
"لكن ذلك القناص الذي ضغط على الزناد لم يكن قريباً من منطقة أبسارد (في إيران، حيث وقعت عملية الاغتيال)؛ بل كان يدقق النظر في شاشة كمبيوتر في موقع غير معلوم على بعد أكثر من ألف ميل… كانت تلك العملية هي الاختبار العملي الأول لمدفع قناصة دقيق للغاية يعمل بتقنية متطورة من تقنيات الذكاء الاصطناعي ومزود بعدسات تصوير متعددة ومتصل بالقمر الصناعي ويمكنه إطلاق 600 رصاصة في الدقيقة الواحدة".
وتقول الصحيفة الأمريكية أيضاً إن هذا المدفع "الذكي" تم اعتماده الآن كأحد الأسلحة التي تحملها المسيرات العسكرية، ضمن ترسانة كاملة من الأسلحة الذاتية التي يمكنها التخفي والرصد والاستهداف والقتل من بعيد.
الذكاء الاصطناعي "آلة قتل" إسرائيلية
هذا التوسع غير المسبوق في توظيف الذكاء الاصطناعي من جانب إسرائيل وتحويله إلى "آلة قتل" بيد جيش الاحتلال يطرح تساؤلات خطيرة بطبيعة الحال، لكن أولاً كيف تدافع إسرائيل عن هذا التوظيف؟
يقول المسؤول الأول عن الذكاء الاصطناعي في جيش الاحتلال إن هذا التوظيف العسكري للذكاء الاصطناعي يختلف عما يحدث في القطاع الخاص؛ لأنه "يضفي معنى وقيمة على ما نقوم به". توظيف الذكاء الاصطناعي لقتل الفلسطينيين تحت الاحتلال "له معنى وقيمة"، كما يزعم الرجل.
لكن على أية حال، دعونا نتوقف هنا عند الأسئلة البديهية الأخرى: إذا كان البشر يرتكبون أخطاء بشعة في ساحة الحرب تتسبب في كوارث وفقدان أرواح بريئة دون مبرر، أليس وارداً وبصورة أكبر أن يرتكب الروبوت القاتل نفس الأخطاء ولكن على نطاق أكبر وبخسائر أفدح بكثير؟
أليس وارداً أن تكون برمجة تلك الأسلحة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي قائمة على أساس استهداف "أي فلسطيني" في الأراضي المحتلة؟ إذا كان جنود الاحتلال يستهدفون الصحفيين والكاميرات عمداً، كما حدث في اغتيال الصحفية الفلسطينية-الأمريكية الراحلة شيرين أبو عاقلة، فماذا يمكن توقعه من روبوت أو مدفع أو مسيرة أو مركبة ذاتية القرار وتعمل بالذكاء الاصطناعي؟
وفي هذا السياق، حذر ويحذر كثير من الباحثين وخبراء الذكاء الاصطناعي والناشطين المدافعين عن الخصوصية من مخاطر تطبيقات الذكاء الاصطناعي في أجهزة المراقبة المدنية وفي التطبيقات العسكرية والأسلحة. وتعتبر الروبوتات القاتلة أحد أبرز تلك التطبيقات التي يحذر منها الجميع، لكن إسرائيل تتباهى بأنها "قوة عظمى" في هذا المجال.
وقد طالبت منظمة هيومان رايتس ووتش الأممية مراراً بفرض حظر دولي تام على تلك التقنيات العسكرية، محذرة من أن "الآلات لا يمكنها أن تفهم قيمة الحياة البشرية"، لكن إسرائيل لا تهتم بمثل هذه التحذيرات، فمسؤولوها وجيشها يرون أن الفلسطينيين "لا يستحقون الحياة".
مخاطر التطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي ليست مجرد تحذيرات مبنية على تخوفات مستقبلية، فالحوادث القاتلة متعددة بالفعل. كانت عائلة أفغانية بأكملها قد دفعت حياتها ثمناً لهذه التطبيقات القائمة على الذكاء الاصطناعي، عندما نفذت مسيرة أمريكية عام 2021 ضربة قاتلة بسبب خطأ في تحديد هوية أحد أفراد الأسرة على أنه "إرهابي مطلوب"، بينما اتضح بعد الجريمة أن الأمر كله عبارة عن خطأ في "التعرف على الهوية".
والآن فلسطين هي أكثر أماكن الكرة الأرضية مراقبة بكاميرات وتطبيقات التعرف على الوجه زرعتها إسرائيل في كل مكان، وترسل بياناتها إلى أبراج الحراسة الإسرائيلية التي تتواجد فيها المدافع القاتلة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، فما نسبة الاحتمالات في ارتكاب الأخطاء؟
وفي هذا السياق، طورت ووظفت إسرائيل عدة منظومات رقمية تقوم على قدرات الذكاء الاصطناعي من أجل تشديد القبضة على الفلسطينيين على غرار برنامج "حزمة الذئب"، وكاميرات الكشف عن الملامح، وأجهزة التجسس السيبراني وغيرها، وتم تتويج كل ذلك مؤخراً بصفقة "نمبوس – Nimbus" التي أبرمتها تل أبيب مع عملاقي الإنترنت "جوجل وأمازون".
يهدف المشروع إلى دعم المؤسسات الرسمية في إسرائيل، بما فيها أجهزة الشرطة والأمن والجيش، بقدرات "جوجل وأمازون" السحابيتين بغية توحيد عمل هذه الهيئات وإفراغه في منصة واحدة تتميز بحدة الذكاء والاستجابة السريعة.
الصفقة تسببت في جدل كبير وشهدت اعتراضاً من قبل المئات من موظفي الشركتين؛ نظراً لمخالفتها أخلاقيات ومبادئ عمل الشركتين، أضف إلى ذلك اندراجها ضمن برنامج يهدف إلى دعم الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية.
لكن الاعتراضات ذهبت أدراج الرياح، وتم مؤخراً، في إطار "نمبوس"، إطلاق أول مركز للخدمات السحابية في إسرائيل من قبل شركة "جوجل الأم ألفابيت"، ويعد المركز أول خطوة في حياة مشروع "نمبوس".