كان مشهد التخريب والسلب في قلب باريس المسماة بعاصمة النور الذي رافق احتجاجات الضواحي الني نشبت بعد مقتل الشاب ذي الأصول الجزائرية نائل، شهادة واضحة بفشل فرنسا الذريع في سياسة الدمج القسري تجاه الأقلية المسلمة العربية في البلاد وخاصة الجيل الثاني من المهاجرين.
أغلب من نفذ هذه الاحتجاجات على الأرجح من الشباب ذوي الأصول المهاجرة وليس مهاجرين، شباب خضعوا لعقود لسياسة باريس لإبعادهم عن هويتهم العربية والإسلامية وقطع علاقتهم ببلاد أجدادهم، أو بقيمهم الدينية بشكل قسري.
شباب لا يجيد العربية في الأغلب، وكثير منهم لا يذهب للمساجد التي تغلقها فرنسا، ويتبنى بعض القيم الغربية التي تنافي القيم الإسلامية بما في ذلك التي تضعف تأثير رجال الدين والأسر لديه، نفس الأسر الذي ناشدها ماكرون لمنع أبنائها من المشاركة في الاحتجاجات بينما هددها وزير داخليته بالسجن والغرامة إذا لم تمنع أبناءها قسراً من النزول للاحتجاجات، في حين أنها تعاقب لو علَّمت أبناءها أن المثلية تتنافى مع قيم الإسلام.
وفي احتجاجات عام 2005 التي نشبت رداً على مقتل شابين من أصول عربية صعقاً بالكهرباء بعد اختبائهما في مولد كهربائي، استعانت فرنسا ببعض رجال الدين المسلمين لتهدئة الاضطرابات، ثم استعانت برجال الدين المسلمين المعتدلين والتنظيمات الإسلامية بما في ذلك المحسوبة على دول المغرب العربي وتركيا وبعضها على الإخوان المسلمين، ضد الإرهاب، كما استمالهم ماكرون في انتخابات الرئاسة عام 2017، ثم انقلب عليهم عبر مجموعة من القيود الجديدة على حريات المسلمين، وتفكيك تنظيماتهم التي أيدته أغلبها في الانتخابات بل إنه طرد رجال دين وصفوا بأنهم حلفاء للحكومة الفرنسية.
لستم عرباً ولستم فرنسيين أيضاً
لعقود، حاولت فرنسا أن تجعل فرنسا الجيل الثاني من المهاجرين فرنسيين، وقامت سياستها على إنكار إمكانية أن يكون المرء فرنسياً مع حفاظه على قيمه الدينية والارتباط بوطنه الأصلي، وكانت تزعم أنها تمنع بذلك تشكيل غيتوات مسلمة وكي لا يكون المسلمون طائفة متماسكة معتزة بهويتها رغم أن أغلب زعامات المسلمين الذين تحاربهم فرنسا يؤكدون على ولائهم للبلاد وأنهم يريدون إسلاماً حداثياً يتفق مع القيم الفرنسية، ولكن المشكلة أن القيم الفرنسية هذه تزداد علمنة واضطهاداً لأي مظاهر للتدين الإسلامي (لا المسيحي)، وتزداد تطرفاً في تبني الأفكار الداعمة للحرية الجنسية والمثلية دون أي محاولة لمراعاة شعور المسلمين.
ما فعلته فرنسا أنها حاولت نزع هؤلاء الشباب من هويتهم التقليدية، بدعوى إدماجهم في التيار السائد للمجتمع الفرنسي، فأضعفت علاقة هؤلاء الشباب بجذورهم وهوياتهم الدينية والوطنية، وفي المقابل، لم تستوعبهم فرنسا العلمانية، فظلوا يتعرضون للتمييز والاضطهاد حتى ولو خلعوا الحجاب والتزموا بالقيود المفروضة على حرياتهم الدينية، وحتى لو مات آباؤهم من أجل تحرير فرنسا من النازية، أو كما قال سياسي فرنسي من أصول عربية إنها "فرنسا التي نحبها ولا تحبنا".
هذه السياسة سبق أن طبقت في مجال اللغة، ضد سكان أقاليم فرنسا، الذين يتحدثون لغات غير الفرنسية مثل بريتاني وأوكتانيا، حيث كانت نسبة كبيرة من سكان فرنسا تتحدث لغات أخرى حتى الحرب العالمية الأولى وأجبروا قسراً على تبني الفرنسية وتحقير لغاتهم وهوياتهم الإقليمية.
وها هي تواصل هذا النهج مع الجيل الثاني من المهاجرين القادمين من الدول العربية.
تزعم سياسة فرنسا أنه إذا تخلى المرء عن الهوية الثقافية العربية أو الأمازيغية اللغوية، وإذا أصبح علمانياً متبرئاً من كل مظاهر التدين، يشرب الخمر ويقيم علاقات جنسية خارج إطار الزواج ويتسامح مع المثلية فإنه سيصبح مواطناً فرنسياً كاملاً بغض النظر عن أصله ولونه.
ولكن كما أظهرت حادثة قتل نائل، وكما تقول حوادث أخرى وشهادات عرب يريدون الاندماج، فإن معاملة الشرطة الفرنسية تتوقف على لون البشرة والشعر والعينين وليس بدرجة تبرؤ المرء من قيمه الدينية وهويته الثقافية وجذوره العربية أو الأمازيغية.
المشكلة أن فرض العلمنة والفرنسة لم يؤدّ بالضرورة لخلق مواطن فرنسي، مثالي ومتحضر على النمط الأوروبي، فقد يكون الشاب ذو الأصول العربية المسلمة يجيد الفرنسية بطلاقة ولا يعرف العربية ويحب الخمر كأي فرنسي أصيل، وفي الوقت ذاته قد يتاجر في المخدرات، وقد يشارك في نهب المحلات احتجاجاً على العنصرية ضده، لو سمح لهذا الشاب بأن يستمع لنصائح رجل دين مسلم فقد يعلمه أن الإسلام يحرم السرقة حتى ولو كان غاضباً.
انتقادات واسعة لعنصرية فرنسا تمتد من مجلس حقوق الإنسان إلى الولايات المتحدة
والحقيقة أن الانتقادات بحق سياسة فرنسا تجاه مسلميها ليست صادرة فقط من مصادر عربية أو إسلامية بل صدرت كذلك من دول ومنظمات حقوقية وتجمعات دولية عدة.
فلقد سبق أن انتقدت برقيات دبلوماسية صادرة عن السفارة الأمريكية في العاصمة الفرنسية باريس نشرها موقع ويكيليس، ما سمته إقصاء المواطنين المسلمين في فرنسا، معتبرة أنه قد يضعف البلاد ويحولها إلى "حليف أقل نجاعة" للولايات المتحدة.
كما وجهت عدة دول، في مايو/أيار 2023، انتقادات إلى فرنسا، بشأن قضايا مرتبطة بهجمات ضد مهاجرين وتنميط عنصري، إضافة إلى عنف الشرطة، كما دعتها لمراجعة قوانينها بخصوص حرية اللباس للمرأة المسلمة، في إشارة إلى منع الحجاب وتغطية الوجه، وفق ما ذكرته وكالة الأنباء الفرنسية.
في ذلك الوقت، اعتبر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، خلال اجتماع للنظر في سجل فرنسا على صعيد الحقوق والحريات، أن باريس مطالبة ببذل المزيد من الجهود لمحاربة مجموعة من السلوكيات والظواهر المنافية لروح حقوق الإنسان.
ودعت دول عدة، من بينها الولايات المتحدة وتونس، فرنسا إلى تعزيز جهودها لمكافحة العنف والتمييز العنصري.
إذ قالت ممثلة الولايات المتحدة كيلي بيلينغسلي: "نوصي فرنسا بتعزيز جهودها على صعيد مكافحة الجرائم والتهديدات بالعنف بدافع الكراهية الدينية، على غرار معاداة السامية وكراهية المسلمين".
كما نددت البرازيل واليابان بـ"التنميط العنصري من جانب قوات الأمن"، في حين دعت جنوب إفريقيا باريس إلى "اتخاذ تدابير تضمن حيادية تحقيقات تجريها كيانات خارج نطاق الشرطة، في كل الحوادث العنصرية التي تتعلق بشرطيين".
كما سلطت وفود دول عدة، بينها السويد والنرويج والدنمارك، الضوء على عنف الشرطة خلال عمليات حفظ الأمن، وخصوصاً المظاهرات.
فقد دعا وفد ليختنشتاين إلى تحقيق مستقل في هذه التجاوزات، فيما دعت لوكسمبورغ باريس إلى "مراجعة سياستها على صعيد الحفاظ على النظام"، بينما طالبت ماليزيا بـ"معاقبة المسؤولين".
ماكرون وصل بأصوات المسلمين ثم انقلب عليهم
ساهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تفاقم الأزمة رغم أنه جاء عبر انتخابات عام 2017 عندما كان سياسياً نصف مغمور بأصوات المسلمين، بما فيهم منظمات مقربة للإخوان المسلمين.
فماكرون المرشح في 2017، كان يحمل "لواء الإسلام" على حد قول الكاتب الفرنسي "ميشال براسبارت"، بهدف استقطاب أصوات الناخبين الفرنسيين المسلمين، الذين يمثلون نحو 6% من الناخبين، والتي كان من المتوقع أن يتقاسمها كل من مرشح أقصى اليسار جان لوك ميلونشون، والمرشح الاشتراكي بونوا هامون، ولكن خطابه المتسامح جعل أصوات المسلمين تتجه إليه.
ولكنه أطلق بعد وصوله للسلطة حرباً ضد كل المنظمات الإسلامية في بلاده، بل سبق أن هاجم الإسلام نفسه، عندما صرح بأن "الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان بالعالم".
وشن ماكرون حرباً للتصدي لما وصفه بالانعزالية الإسلامية الساعية إلى إقامة نظام موازٍ وإنكار الجمهورية الفرنسية"، وفرض رقابة على العلاقة بين الآباء المسلمين وأبنائهم.
الآن، فإن نتائج الحرب على الانعزالية الإسلامية المزعومة، تدمير دور الآباء والكبار ورجال الدين، ليواجهوا بشباب ساخط على فرنسا، وليس لديه كبير ليهدئه ويستوعب غضبه.
آنذاك، قال ماكرون إن السلطات تتحمل جزءاً من المسؤولية في تطور ظاهرة "تحول الأحياء إلى مجتمعات منغلقة"، مضيفاً: "إنهم (الإسلاميين) بنوا مشروعهم على تراجعنا وتخاذلنا".
حارب المنظمات الإسلامية ليسلم الأحياء المهاجرة لرؤساء العصابات
أضعف ماكرون المنظمات الإسلامية التي كان أغلبها حليفاً للدولة ليترك الأحياء ذات الغالبية المهاجرة لزعماء العصابات ومروجي المخدرات الذين يتحدثون الفرنسية جيداً ولا يذهبون للمساجد أو ينقطعون عن العمل في عيدي الفطر والأضحى ولا يصومون رمضان؛ وبالتالي لا يوقفون العمل أو المباريات أثناء موعد الإفطار، كما تريد فرنسا الرسمية.
مثل هذه السياسات لم تضعف القوى التقليدية في المجتمع المسلم بفرنسا فقط، ولكنها بمثابة استفزاز إضافي للشباب حتى غير المتدين والمتفرنس من الجيل الثاني، الذي قد لا يريد أن يرتدي الحجاب، ولكن يشعر بالغضب؛ لأن والدته أو خالته ممنوع عليها الحجاب في العمل أو المؤسسات الحكومية.
أغلق ماكرون العديد من المساجد في المناطق المسلمة وقد يكون راهن على الحانات لتكون بديلاً، ولكن من يخرج من المساجد لن يشارك في الأغلب في أعمال السلب والنهب إذا شعر بالظلم، بينما من يخرج من الحانات قد يفعل ذلك.
ماكرون الذي جاء بأصوات المسلمين، وقدم نفسه على أنه الرجل الذي سيصالح فرنسا مع مسلميها ويتبرأ من تاريخها الاستعماري دخل في مواجهة عبثية مع ملياري مسلم، لن تفيد إلا المتطرفين على الجانبين.
هل تعمد ماكرون تأجيج أزمة المسلمين لأسباب انتخابية؟
ووصل الأمر بالرئيس إيمانويل ماكرون في توجهه نحو اليمين إلى أنه جاء في منتصف عام 2020، بوزير داخلية يميني متشدد هو جيرالد دارمانان جده لأمه من الحركيين الذين حاربوا مع فرنسا ضد استقلال الجزائر وأصوله من ناحية والده يهودي مالطي، وهو وزير مشغول بالعداء للثقافة الإسلامية؛ لدرجة أنه يخصص وقته الثمين للهجوم على بيع الطعام الحلال في محلات فرنسا.
استهداف ماكرون للمسلمين، حسب وصف زعيم اليسار الفرنسي الراديكالي جان لوك ميلينشون، تسبب في مزيد من الاعتداءات العنصرية ضدهم.
فخلال ذروة حملة ماكرون على المسلمين في بلاده في أكتوبر/تشرين الأول 2020 شهدت باريس اعتداء إرهابياً تعرضت له محجبتان من أصل جزائري، حيث تم طعنهما بسلاح أبيض أسفل برج إيفل.
واعترف وزير داخلية ماكرون متأخراً بتعرض المسلمين للمضايقات وأن الاعتداءات عليهم وصلت إلى المساجد.
وازدادت الاعتداءات على المسلمين في فرنسا بنسبة 53% خلال 2020، مقارنة بالعام الذي قبله، إذ أعلن رئيس المرصد الوطني ضد معاداة الإسلام بفرنسا عبد الله زكري، أن البلاد شهدت 235 اعتداء على المسلمين في 2020، مقابل 154 عام 2019.
والنتيجة واجه ماكرون تحدياً سياسياً داخلياً كبيراً في الانتخابات الرئاسة الأخيرة التي جرت في أبريل/نيسان 2022 بعد صعود شعبية المرشحة اليمينية ماريان لوبان.
وكان واضحاً أن ماكرون يريد بتوجهه نحو اليمين أن يضمن صوت الناخب الفرنسي بما فيه المسلم من جعل الخيار بينه وبين المتطرفة لوبان، رغم أنه ليس هناك فارق كبير بينهما.
وفي انتخابات الرئاسة 2022، انتقد المسلمون في فرنسا تجاهُل الرئيس إيمانويل ماكرون للجالية على مدار السنوات الماضية وقضاياهم، بعد محاولته التقرب منهم للحصول على أصواتهم، مع اقتراب الجولة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية التي يتنافس فيها على هزيمة المرشحة اليمينية المتطرفة مارين لوبان، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة The Daily Express البريطانية.
المشكلة في العلمانية الفرنسية
بلا ريب يتضح جلياً أن أزمة العلمانية الفرنسية هي رفض النظر للحقيقة الاجتماعية كما هي، فقد طرأت على المجتمع الفرنسي تغييرات كبيرة، أنتجت مجتمعاً متنوعاً يحمل ثقافات متعددة، وسرعان ما تمظهر تكلس العلمانية في مفاهيم قديمة جعلتها غير قادرة على أن تستوعب ثقافات مغايرة، صارت جزءاً أصيلاً من مجتمع فرنسي لم يعد أوروبياً أبيض بالمعنى العرقي، ولا علمانياً بالشكل المتنافر مع الدين الذي ساد قسراً بعد الثورة الفرنسية.
أخفقت فرنسا في التكيف لاحتواء ثقافات الهجرة العربية الإسلامية والإفريقية، القادمة من تلك الشعوب التي تختلف عقائدياً عنها، والتي يشكل الدين لديها عاملاً أساسياً في ثقافتها الخاصة والعامة داخل مجتمع علماني يعارض الدين من المنشأ والمنطلق، حتى صار لادينية تريد فرضها على الجميع، بعدما صار "الفرد دين نفسه".
إذ تختلف العلمانية الأوروبية، أو "العلمنة"، التي كانت تمارس في فرنسا وبلدان أوروبية أخرى، عن العلمانية الأمريكية، حسب معهد واشنطن.
كما ترفض فرنسا الاعتراف بوجود أقليات، وتدعي أن هذا تمييز، وفي الوقت ذاته فعلياً تمارس تمييزاً صارخاً بحق هذه الأقليات، بل إنها حظرت أبرز منظمة مناهضة للإسلاموفوبيا في البلاد.
إذ باتت فرنسا المثال الأكثر تطرفاً في محاربة الدين، ولكن يلاحظ أنه بينما بدأت تتصالح فرنسا مع الكاثوليكية (بعدما استغلتها طويلاً في سياستها الاستعمارية) فإن العلمانية الفرنسية تركز عداءها على الإسلام.
واللافت أن فرنسا التي استقبلت ملايين من العرب المغاربة في الأغلب الذين جاءوا بعد الاستقلال تعادي بشدة أي محاولة من هؤلاء العرب للحفاظ على هويتهم العربية الإسلامية، بينما فرنسا نفسها تدخل في شؤون دول المغرب العربي من خلال تشجيع النزعات الأمازيغية الانفصالية.
فالمفارقة أن ماكرون الذي اعتبر أن هناك أزمة في الإسلام، لم يظهر أي تعاطف أو يتحدث عن أي عنصرية تجاه المسلمين، في المقابل فإنه يغازل الكنيسة الكاثوليكية؛ إذ دعا إلى إصلاح العلاقة بين الدولة والكنيسة وفتح حوار بينهما، وكان ذلك في خطاب طويل ألقاه عام 2018 أمام المئات من القساوسة الفرنسيين، مدشناً بذلك حقبة جديدة في تاريخ الكنيسة والدولة منذ أن اعتمدت الدولة الفرنسية في العام 1905 القانون الشهير حول الفصل بين الطرفين، وتكريس عدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية والتزام الحياد.
الغريب أنه بينما تعترف الولايات المتحدة بوجود مشكلة عنصرية لدى الأقلية الأكبر لديها وهم الأمريكيون الأفارقة، فإن الرئيس الفرنسي وغيره من قادة أوروبا الذين يلقون على العالم دروساً في الليبرالية، يرفضون الاعتراف بأن مشكلة الأقلية الإسلامية في بلدانهم هي الأساس جراء العنصرية الغربية والتطرف العلماني الأوروبي.
كما تناسى ماكرون أن الإسلام الرافض للاندماج ليس الإسلام الذي يصفه بالسياسي، بل هو الإسلام المتطرف الذي رعاه حلفاؤه من الحكام العرب الذين لم نرَ ماكرون يتحدث يوماً عن دور استبدادهم في انتشار التطرف.
يتجاهل ماكرون حقيقة يعرفها كل مسؤولي فرنسا أن أفضل وسيلة لمحاربة الإرهاب والتطرف، وحتى المخدرات والعنف غير السياسي هي ترك مساحة لمسلمين معتدلين يؤمنون بالديمقراطية وقد لا يكون اعتدالهم بالضرورة متطابقاً مع تصور ماكرون لمفهوم الاعتدال الإسلامي.
فهذا الإسلام الذي يحاول أن يتعايش بدون التخلي عن الثوابت، هو الوحيد القادر على استيعاب طاقة مسلمي أوروبا الذين لن يقبلوا جميعاً بالضرورة الاندماج كما يريده قادة أوروبا بأن يكونوا مسلمين اسماً فقط، بل أنه حتى الأسماء قد نرى فرنسا يوماً قد تجبر المسلمين على تغييرها مثلما فعلت مع سكان منطقة بريتاني، وقد بدأت بعض السياسات التمييزية في هذا المجال على الأقل بشكل غير رسمي.
كما أن الحُكومات الفرنسيّة المُتعاقبة هي التي شجّعت سِياسات العزل للمُهاجرين المُسلمين عندما فرضت عليهم الإقامة في معازل و"غيتوهات" سكنية خاصة على أطراف العاصمة، حسب الجنسية، وعزلتهم كلِّياً عن نُظرائهم الفرنسيين حتى كأنهم "وباء" وظلّت تتعاطى معهم كمُواطنين من الدّرجةِ العاشرة بسبب لونهم وعقيدتهم، والآن تتّهمهم بعدم الاندِماج في المُجتمع الفرنسي.
سياسات العزل العُنصريّة هذه في السّكن والمدارس والمُستشفيات، لم تَكُن موجودةً في مُعظم الدول الأوروبيّة، فقد وعت بريطانيّا الجار لفرنسا لخُطورة سِياسات العزل هذه، وأقامت مساكن للفُقراء في أوساط الأحياء الراقية حتى لا يشعروا بالدونيّة والتّمييز، وحاربت الحُكومات البريطانيّة المُتعاقبة كُلّ أشكال العُنصريّة في المدارس والملاعب الرياضيّة، ليس حِرصاً على مشاعر المُهاجرين، وإنّما أيضاً للحِفاظ على أمن واستِقرار المجتمع، وتعزيز كُل أشكال التّعايش.
يقول الكاتب طاهر حليسي في مقال سابق بـ"عربي بوست" إن مشكلة فرنسا الأساسية هي وقوعها ضحية لأيديولوجيتها العلمانية التي حققت مكاسب جمة في وقت من الأوقات، من بينها احتضان مهاجرين، بيد أنها ترفض أن تتحمل تبعات ذلك، مثلما نبه إليه سيغموند باوند، والحل كما يراه مثقفون هو أن تجلس قليلاً في مدرسة الديمقراطية الأنجلوساكسونية، التي لا تعادي الديانات والهويات، بل تتأقلم معها باحترام القانون الجامع والمنظم للعلاقات بين الأفراد، باعتبار أن الديمقراطية الأمريكية والبريطانية نظام تحكيم تقني وسياسي وقانوني، لا نظام أحكام تتدخل بمضمون الهوية وشكلها في اللون والملبس والأسماء.