تتزايد المؤشرات على قرب تطبيع العلاقات بين مصر وإيران، خاصة من جانب طهران بينما تلتزم القاهرة الصمت، فهل تكون التحولات الإقليمية والضغوط الاقتصادية كلمة السر؟
فعلى مدار الأسابيع الماضية، تتوالى التصريحات الرسمية المرحبة بعودة العلاقات الدبلوماسية مع مصر، دون أن تصدر القاهرة أية ردود فعل علنية، سواء إيجابية أو سلبية، فإلى أين تتجه الأمور؟
رغبة معلنة من جانب إيران
تناولت منصة "أسباب" المتخصصة في التحليل السياسي والاستراتيجي، ملف تطبيع العلاقات بين مصر وإيران، في ظل التحولات الكبرى التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط من جهة، والضغوط الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها القاهرة وطهران من جهة أخرى.
كان المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، قد أعلن خلال اجتماعه مع سلطان عمان هيثم بن طارق آل سعيد، يوم 29 مايو/أيار الماضي، عن ترحيبه بتحسين العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران. وجاء ذلك الإعلان بعد أيام من محادثات جرت في القاهرة بين السلطان هيثم والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وأوضح خامنئي أن بلاده ليست لديها أي مشكلة في "عودة العلاقات بشكل كامل مع القاهرة في إطار التوسع في سياسات حُسن الجوار، واستغلال طاقات وإمكانات الدول الإسلامية لتعود بالفائدة على جميع شعوب ودول المنطقة".
المتحدث باسم الحكومة الإيرانية، علي بهادري جهرمي، بعد يوم واحد من تصريحات المرشد الأعلى، أعرب عن استعداد حكومة بلاده لتعزيز العلاقات مع مصر، مؤكداً أن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، لفت إلى أهمية اتخاذ الإجراءات اللازمة في هذا الشأن من جانب وزارة الخارجية.
وكانت وكالة أنباء مهر الإيرانية قد نقلت، قبل إطلاق تلك التصريحات، عن نواب إيرانيين تصريحات بشأن إمكانية إعادة فتح سفارتي إيران ومصر في كل من القاهرة وطهران قريباً.
وفي سياق متصل نقلت صحيفة ذا ناشيونال، في مايو/أيار الماضي، عن مسؤولين مصريين أن القاهرة وطهران تعتزمان تعيين سفيرين لهما خلال الأشهر المقبلة، في إطار مسار تطبيع العلاقات بعد عدة جولات من المحادثات الثنائية في الأشهر الأخيرة، بوساطة عُمان والعراق.
كانت العلاقات المصرية-الإيرانية قد مرت بمحطات تاريخية منذ عام 1928، وتفاوتت هذه العلاقة بين التقارب الذي بلغ حد المصاهرة بين الأسرتين الحاكمتين آنذاك، فاروق الأول ملك مصر والسودان وشاه إيران محمد رضا بهلوي.
ثم عرفت هذه العلاقات مراحل من التعامل الحذر ثم التوتر بعد قيام ثورة 1952 في مصر، لتصل في نهاية الستينيات إلى قطيعة تامة عقب قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، عندما استضاف الرئيس المصري الراحل أنور السادات شاهَ إيران السابق.
ما أسباب الرغبة الإيرانية في التطبيع مع مصر؟
تمثل مصر أهمية في رؤية إيران تجاه إعادة تشكيل البيئة الجيوسياسية في المنطقة، والتي تقوم على إعطاء الأولوية لإضعاف النفوذ الخارجي، وبصورة خاصةٍ النفوذ الأمريكي، والحد من تمدد النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، وذلك مقابل تعزيز التنسيق والتعاون بين أطراف الإقليم.
وتعتقد طهران أن التطبيع مع دول مجلس التعاون الخليجي يحد من مخاوف دول الخليج الأمنية ومن ثم يضعف مبررات تدخُّل الولايات المتحدة والحاجة لوجودها العسكري في منطقة الخليج، كما يكبح اتجاه تلك الدول إلى تطوير التعاون الأمني مع إسرائيل.
وفي هذا السياق، كانت السعودية وإيران قد أعلنتا في مارس/آذار الماضي، عن استئناف العلاقات بينهما بعد قطيعة استمرت 6 سنوات، وهددت الاستقرار والأمن بالخليج، وساعدت في تأجيج الصراعات بالشرق الأوسط من اليمن إلى سوريا.
وجاء الإعلان عن الاتفاق الذي توسطت فيه الصين بعد محادثات لم يعلن عنها من قبل، استمرت أربعة أيام في بكين، بين كبار مسؤولي الأمن من البلدين. وذكر بيان صادر عن إيران والسعودية والصين، أن طهران والرياض اتفقتا "على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدةٍ أقصاها شهران". وأضاف: "الاتفاق يتضمن تأكيدهما احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية".
وتسارعت خطوات تطبيع العلاقات بينهما منذ ذلك الوقت، فافتتحت إيران سفارتها في السعودية في الأسبوع الأول من يونيو/حزيران الجاري، وزار وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، طهران قبل أيام تمهيداً لإعادة افتتاح السفارة السعودية هناك، وهي أول زيارة لوزير خارجية سعودي لإيران منذ 10 سنوات.
ومن ناحية أخرى، تقوم رؤية إيران على أن التطبيع مع مصر سيمثل تحدياً لتمدد النفوذ الإسرائيلي في محور الشام، والذي يعوقه بالفعل العراق وسوريا، أو في المستوى الأدنى سيمهد هذا التطبيع لإيجاد توازن مضاد لعلاقات مصر مع إسرائيل.
كذلك؛ فإن تطوير العلاقات مع مصر يبدو ضرورة جيوسياسية لإيران في ظل تسارع وتيرة عودة العلاقات المصرية التركية، وهي علاقة تعزز من أوراق تركيا الإقليمية، في ظل تصاعد التنافس الجيوسياسي بين طهران وأنقرة.
ماذا عن موقف مصر؟
على الرغم الترحيب الرسمي الإيراني، لم تبد القاهرة أي رد فعل رسمي إزاء هذا الأمر، بل إن البيان الختامي الذي أعقب زيارة السلطان هيثم بن طارق للقاهرة، لم يتطرق إلى مسألة الوساطة العمانية بين مصر وإيران، وتحدث فقط عن العلاقات الثنائية مع سلطنة عمان.
ورغم الصمت الدبلوماسي، فإن الحكومة المصرية كانت قد أعلنت في مارس/آذار الماضي، أنها ستسمح للسائحين الإيرانيين باستئناف زياراتهم لمصر للمرة الأولى منذ عشر سنوات، لكنها قصرت وجودهم على مدن جنوب سيناء بتأشيرة عند الوصول وبكفالة شركات السياحة، ضمن خطوات أعلنتها الحكومة المصرية لإنعاش القطاع السياحي.
ويرى مراقبون أن القاهرة ما زالت في مرحلة دراسة الموقف الإيراني من دول المنطقة، وتداعيات الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين إيران والمملكة العربية السعودية برعاية صينية حول استعادة العلاقات الدبلوماسية والسياسية بشكل كامل، إضافة إلى تحسن الأجواء مع الإمارات العربية المتحدة وباقي دول المنطقة.
وطوال السنوات الماضية، تمسكت مصر بسياسة عدم التصعيد الإقليمي مع إيران، وتحفظت على مساعي السعودية لتوسيع المواجهة مع طهران، ومع ذلك؛ فإن مصر لديها مخاوف عميقة تجاه النفوذ الإيراني في سوريا والعراق والملف الفلسطيني ولبنان واليمن، ويبدو في الوقت الراهن أن إيران أكثر حماسة بشأن سرعة إعادة العلاقات، بينما تبدو مصر أكثر حذراً في التحرك باتجاه تطوير العلاقات مع إيران، ويعزو السلوك المصري إلى حرص القاهرة على بناء تفاهمات تدريجية مع طهران حول بعض الملفات؛ كي لا يمثل تطبيع العلاقات إقراراً مصرياً بـ"تدخلات إيران" في المجال العربي.
إضافة إلى أن القاهرة تحرص على الحد من تأثير التطبيع مع إيران على مسار علاقاتها القوية مع إسرائيل.
لكنّ في الوقت نفسه لا تمتلك القاهرة في الوقت الحالي أفضلية جيوسياسية تمكنها من انتزاع تنازلات مهمة من طهران، خاصة بعد أن سبقتها السعودية والإمارات، كل على حدة، في مسار التطبيع الفردي مع إيران، وهو الأمر الذي فوّت على هذا المحور العربي فرصة تبنّي مقاربة مشتركة تجاه إيران.
وبالنظر إلى اعتماد مصـر على التمويل الخليجي، فستكون القاهرة أكثر انسجاماً مع الجهود الخليجية لخفض التصعيد الإقليمي والمدفوعة بخلق بيئة مناسبة للطموحات الاقتصادية لدول الخليج. وكما كان التوجه السعودي والإماراتي نحو تحسين العلاقات مع تركيا وقطر دافعاً لمصـر لاتخاذ المسار نفسه، يبدو أن الأمر سيكون مشابهاً إلى حد ما، في حالة العلاقات مع إيران.
ويمكن لخفض التوترات الإقليمية عموماً المساهمة في تحقيق بعض الفوائد الاقتصادية للجانب المصري الذي يعاني من تأزم الأوضاع الاقتصادية؛ حيث سمح تعزيز علاقة مصر مع قطر وتركيا بجذب استثمارات وتمويلات قطرية للسوق المصرية، والاستفادة من الواردات التركية الرخيصة بسبب ضعف الليرة التركية، والاستفادة أيضاً من زيادة التدفقات السياحية من تركيا بعد أن سمحت القاهرة مؤخراً بدخول السياح الأتراك إلى البلاد من خلال منح تأشيرات دخول عند الوصول.
وعلى الرغم من أن العلاقات التجارية مع طهران ستظل بها إشكالية نتيجة العقوبات الأمريكية المفروضة على طهران، فإن القاهرة قد تتمكن من تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية، حتى وإن كانت بصورة غير مباشرة مثل عدم إعاقة خطط القاهرة للدخول إلى السوق العراقي.
ومن ناحية أخرى، تتعرض الحكومة الإيرانية لضغوط داخلية متزايدة بسبب الاضطرابات الاجتماعية والمقترنة بأوضاع اقتصادية متدهورة، نتيجة استمرار العقوبات الأمريكية والمساعي الدولية لفرض مزيد من العزلة على إيران بعد دعمها العسكري لروسيا في حرب أوكرانيا.
وبالتالي فإن طهران تراهن على أن تساهم عملية إعادة ضبط العلاقات مع جيرانها العرب في تخفيف آثار العزلة الدولية، خاصة في حالة مصـر التي تمثل سوقاً كبيراً في الشرق الأوسط، كما أن هذه العملية قد تكون بمثابة أحد العناصر المحفزة لاستئناف المفاوضات النووية بعيداً عن ضغوط دول الإقليم على واشنطن لتبنّي نه متشدد ضد إيران.