التشاؤم سيد الموقف.. بشروا العالم بأن “العولمة” هي الحل، فكيف انهار كل شيء خلال 30 عاماً فقط؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2023/06/20 الساعة 07:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/06/20 الساعة 07:33 بتوقيت غرينتش
الجوع يفتك بالعالم الذي كسر حاجز 8 مليارات إنسان، تعبيرية/ shutterstock

قبل 5 أعوام فقط كانت التوقعات الاقتصادية وردية تماماً، فماذا حدث لتنقلب الأوضاع ويصبح التشاؤم سيد الموقف؟ وما علاقة سياسات العولمة والسوق الحر بهذا الانهيار السريع؟

ففي عام 2018، حين اجتمع زعماء التجارة والسياسة في العالم خلال "المنتدى الاقتصادي السنوي في دافوس"، كان الاستبشار بالمستقبل سائداً بينهم، إذ كانت معدلات النمو في جميع الدول الكبرى في تصاعُد. وقالت كريستين لاغارد، المدير الإداري لصندوق النقد الدولي آنذاك، إن الاقتصاد العالمي "في حالة جيدة للغاية".

لكن اليوم، وبعد انقضاء خمس سنوات على هذا الاجتماع، لا شك أن الاستبشار القديم قد زال، وحل محله شيء آخر. وأنذر البنك الدولي دولَ العالم في تقرير حديث بأن "المحركات الاقتصادية التي كان لها الفضل في تعزيز التقدم والازدهار على مدى العقود الثلاثة الماضية توشك كلها على الانهيار"، وأن ذلك "قد يؤدي إلى ضياع عقد كامل (يتباطأ فيه النمو الاقتصادي العالمي)- ليس فقط لبعض البلدان ولا بعض المناطق كما حدث في الماضي- ولكن للعالم بأسره".

هل حققت "العولمة" أهدافها؟

صحيفة The New York Times الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه "لماذا يبدو أن كل ما كنا نعرفه عن الاقتصاد العالمي لم يعد صحيحاً"، رصد أسباباً رئيسية وراء هذا الانقلاب الاقتصادي الذي يعاني منه العالم، فقد حدثت أشياء كثيرة خلال هذه السنوات الخمس: جائحة عالمية، واندلاع الحرب في أوروبا، وتفاقم التوترات بين الولايات المتحدة والصين، فضلاً عن عودة الارتفاع في معدلات التضخم عالمياً.

لكن الأمر الثابت بعد انقشاع الغبار هو أن العالم وجد فجأة أن كل شيء كان يعتبر حقائق ثابتة بشأن الاقتصاد العالمي، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وترويج الغرب لمفهوم العولمة كان خاطئاً.

فقد ظهر أن قواعد الإجماع الاقتصادي التي اعتمد عليها صانعو السياسة في الغرب منذ سقوط جدار برلين في تسعينيات القرن الماضي- السيادة الراسخة للأسواق المفتوحة، والتجارة الحرة، والاستفادة القصوى من الموارد وكلها تحت عنوان "العولمة"- قد انحرفت عن طريقها وصارت عاجزة عن تحقيق المرجو منها.

ورأينا جميعاً خلال جائحة كورونا كيف أدى الإصرار الجامح على دمج الدول في الاقتصاد العالمي، وخفض الإنفاق العام، إلى ترك العاملين في مجال الرعاية الصحية بلا أقنعة وقاية وبلا قفازات طبية، وشركات صناعة السيارات بلا أشباه موصلات، ومناشر الخشب بلا خشب، ومستهلكي الأحذية الرياضية بلا منتجات يشترونها.

والزعم الذي لطالما تداوله كثيرون بأن التجارة الدولية والمصالح الاقتصادية المشتركة ستحول دون اشتعال الصراعات العسكرية بين دول العالم، اتضح أنه وهم كبير خلال العام الماضي، عندما بدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، والذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر".

العولمة
في عصر العولمة.. لماذا لا يسافر البشر بسرعة الأوبئة؟

ثم جاءت نوبات الطقس القاسية التي ما انفكت تدمر المحاصيل، وموجات النزوح القسري، وقطع الدول لإمدادات الطاقة عن دول أخرى، فأكَّدت أن "اليد الخفية للسوق" ليست كافية لحماية الكوكب كما كان يُزعم.

ومن الواضح لنا الآن أن العولمة- التي كانت توصف خلال العقود الماضية بأنها قوة كالجاذبية الأرضية لا يمكن لأحد أن يوقفها- قد تغيرت وباتت تأتي بتحولات غير متوقعة، أبرزها تزايد الابتعاد عن "التكامل الاقتصادي العالمي"، خلافاً لما تنبأ به كثيرون عن اتجاه العولمة.

والواقع أن المشكلات التي اعترضت التوافق الاقتصادي العالمي بدأت بالظهور قبل جائحة كورونا وتداعياتها، فقد أوشكت الأزمة المالية في عام 2008 على تدمير النظام المالي العالمي، وانسحبت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، وفرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تعريفات جمركية مشددة على الصين في عام 2017، فاشتعلت حروب تجارية صغيرة هنا وهناك.

ثم حلَّت الجائحة، فكشفت الغطاء عن مزيد من الأزمات المتوالية، وأزالت الستار عن ثغرات فادحة في النظام الاقتصادي العالمي. وفي هذا السياق خلصت شركة الاستشارات البريطانية EY في توقعاتها الجيواستراتيجية لعام 2023، إلى أن الابتعاد عن العولمة قد تسارع "بسبب جائحة كورونا، ثم الحرب في أوكرانيا".

هل كان انتصار الغرب "نهاية التاريخ" فعلاً؟

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أعلن منظرو الديمقراطية الليبرالية في الغرب أن سقوط الشيوعية يعني "نهاية التاريخ" [أي وصول البشرية إلى غاية تطورها الاجتماعي والثقافي، ونموذجها السياسي المتكامل، ومن ثم نهاية الحروب والصراعات والثورات الكبرى] والسيادة الشاملة لرأسمالية السوق الحرة في جميع أنحاء العالم، والتوافق على أن فتح الأسواق ووقف تدخل الحكومات والسعي الدؤوب لاستغلال الموارد هي أنجع السبل للازدهار والتقدم.

استند هذا الاستبشار إلى بعض الأسباب الوجيهة وقتها: فقد انخفض التضخم خلال التسعينيات، وزادت الوظائف، وارتفعت الأجور، وتعززت الإنتاجية، وتضاعفت التجارة العالمية تقريباً، وتزايدت الاستثمارات في البلدان النامية؛ وأسهمت التجارة الحرة في إنتاج ثروات هائلة، وانتشال مئات الملايين من الناس من براثن الفقر، وتحفيز التقدم التكنولوجي.

ومع ذلك، فقد كان هناك إخفاق فادح في قضايا أخرى، فقد سرَّعت العولمة من وتيرة التغير المناخي، وزادت من وطأة عدم المساواة، إذ راكم الأغنياء ثروات هائلة بينما ازداد الفقراء فقراً. واعتمدت أسواق الولايات المتحدة والدول الكبرى على العمالة ذات الأجور المنخفضة في جميع أنحاء العالم، بلا اهتمام بحماية حقوق العمال ولا الأضرار البيئية ولا الحقوق الديمقراطية المنتهكة في كثير من الدول التي قدَّمت تلك العمالة، مثل المكسيك وفيتنام والصين.

وعلى الرغم من أن التلفزيون والـ"تي شيرتات" وأطعمة التاكو المكسيكية صارت أرخص من أي وقت مضى، فإن الضروريات مثل الرعاية الصحية والإسكان والتعليم العالي ما فتئت تتحول إلى أماني بعيدة المنال لكثير من الناس في العالم.

التضخم
التضخم يرهق أجور العمال في العالم – صورة تعبيرية – Shutter Stock

أما نزوح الوظائف من الدول المتقدمة إلى دول العمالة الرخيصة، فقد أدى إلى خفض الأجور في دول العالم الغربي، وتقويض قدرة العمال على التفاوض من أجل حقوقهم؛ فزاد العداء للمهاجرين، وتنامت ظاهرة الزعماء الشعبويين لليمين المتطرف، مثل دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وفيكتور أوربان في المجر، ومارين لوبان في فرنسا.

علاوة على ذلك، فإن الزعماء السياسيين عجزوا أو تقاعسوا عن الضغط على الشركات الصناعية العملاقة لإعادة توزيع الأرباح وتقسيم الأعباء، وتهاونوا في كبح التداعيات البيئية الضارة، فزاد انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري؛ واستُنزفت الموارد الطبيعية، وتفاقم الصيد الجائر في جنوب شرق آسيا وإزالة الغابات في البرازيل، واستشرى التلوث في كثير من البلدان التي تفتقر إلى المعايير البيئية اللازمة.

والخلاصة أنه قد تبين أن الأسواق ليست قادرة ولن تحرص من تلقاء ذاتها على التوزيع العادل للمكاسب، ولا تحفيز البلدان النامية على النمو، ولا إنشاء مؤسسات ديمقراطية.

قال جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي، في خطاب ألقاه حديثاً إن أكبر وهم تمحورت حوله  السياسة الاقتصادية الأمريكية كان الافتراض بـ"أن الأسواق ستعمد دائماً إلى استخدام رأس المال استخداماً فعالاً ومنتجاً، مهما فعل المنافسون، ومهما تفاقمت المشكلات، ومهما انُتزعت حواجز الحماية".

الدول الفقيرة تدفع ثمن "العولمة"

جاءت العواقب وخيمة على البلدان النامية، فقد أدَّت الاضطرابات الاقتصادية الناجمة عن الجائحة -وبعدها الحرب في أوكرانيا- إلى ارتفاع شديد في أسعار الغذاء والوقود، وموجات متوالية من أزمات الديون. وتفاقمت تلك الأزمات بسبب ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية.

لكن "دورة التعثر في سداد الديون" لها أسباب أعمق، فقد ضغطت الدول الكبرى على الدول الفقيرة لرفع جميع القيود المفروضة على حركة رأس المال داخل البلاد وخارجها. وكانت الحجة أن المال، مثله مثل البضائع، يجب أن يتدفق بحرية بين الأمم، وأن السماح للحكومات والشركات والأفراد بالاستدانة من المقرضين الأجانب سيوفر الأموال اللازمة لتنمية الصناعة والبنية التحتية.

قال جياتي غوش، الخبير الاقتصادي بجامعة ماساتشوستس أمهرست الأمريكية، لصحيفة نيويورك تايمز إن "العولمة المالية كانت تبشر بارتفاع معدلات النمو وسيادة الاستقرار المالي في العالم النامي"، لكن الواقع أنها "أدت إلى عكس ذلك".

وأوضح غوش أن بعض المشروعات القائمة على القروض -سواء من مقرضي القطاع الخاص أو من المؤسسات، مثل البنك الدولي- لم تنتج عائدات كافية لسداد الديون. ووقع المدينون تحت وطأة الارتفاع في أسعار الفائدة وما تؤدي إليه من تضخيم مدفوعات الديون.

وأفضى الإقراض المتهور والاقتراض غير المسؤول، وفقاعات بيع الأصول، وتقلبات العملة، وسوء الإدارة الحكومية، إلى دورات متوالية من الازدهار القصير والكساد المتراكم في آسيا وروسيا وأمريكا اللاتينية وأماكن أخرى. ومثال ذلك سريلانكا، التي كانت مشروعاتها باهظة التكلفة -مثل الموانئ وملاعب الكريكيت- سبباً في  إفلاس البلاد العام الماضي.

المجاعة حول العالم الفقراء
نسبة الجوع حول العالم في ارتفاع/ Istock

وصف غوش هذه الدورة لتدفق القروض ثم التعثر فيها، بأنها شبيهة بـ"مخطط بونزي"، فمُقرضي القطاع الخاص فزعوا بمجرد أن تناهى إليهم أنهم قد لا يحصلوا على أموالهم، فسارعوا بإيقاف تدفق القروض، وتركوا البلاد في أزمة عصية على الحل.

ومن جهة أخرى، فإن التقشف الذي تفرضه برامج الإنقاذ التي يقدمها صندوق النقد الدولي -والذي يقضي بإجبار الحكومات على تقليل الإنفاق العام- زاد من معاناة الناس، بقطعِه الدعم عن المحتاجين، وتقليص المعاشات التقاعدية، وتخفيض الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية. وقد أقر صندوق النقد الدولي  في عام 2016 بأن هذه السياسات لم تحقق النمو المطلوب، وإنما "زادت من انعدام المساواة".

الإنتاج المحلي يحل محل الواردات الرخيصة

 إذا قلنا إن انهيار الاتحاد السوفييتي قد مهَّد طريق الهيمنة لعقيدة "السوق الحرة"، فإن الحرب في أوكرانيا قوضت الأركان التي استندت إليها تلك العقيدة. ويرى هنري فاريل، الأستاذ في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، أن العبرة المستخلصة مما يحدث في الاقتصاد العالمي اليوم هو أن "مصالح الجغرافيا السياسية ما انفكت تبتلع آثار العولمة المفرطة"، فقد فعلت سياسات القوى العظمى [النزاع الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين؛ والحرب الروسية في أوكرانيا] ما لم يفعله التغير المناخي، والاضطرابات الاجتماعية، وانتشار عدم المساواة؛ وهزت أركان النظام الاقتصادي العالمي.

وفي هذا السياق، قالت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين الربيع الماضي: "سلاسل توريدنا ليست آمنة، ولم تعد مرنة". ومن ثم ينبغي بناء العلاقات التجارية حول "شركاء موثوق بهم"، حتى لو أدى ذلك إلى "رفع التكلفة بقدرٍ ما، وتقليل فاعلية نظام الاستغلال الأقصى للموارد إلى حدٍّ ما".

حاولت روسيا -التي كانت تزود الاتحاد الأوروبي بنحو 40 % من احتياجاتها من الغاز الطبيعي- أن تستخدم هذا الاحتياج للضغط على الكتلة الأوروبية كي تسحب دعمها لأوكرانيا. واستخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها هيمنتها على النظام المالي العالمي لإزالة البنوك الروسية الكبرى من نظام المدفوعات الدولي. وانتقمت الصين من القيود التي فرضها عليها بعض الشركاء التجاريين بأن قيَّدت وصولهم إلى سوقها الهائل.

وتجلى الواقع الجديد في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية -التي كانت المهندس الأبرز لنظام الاقتصاد الحر، وتأسيس "منظمة التجارة العالمية"- فقد بدأت بالابتعاد عن الاتفاقيات الشاملة للتجارة الحرة، وخالفت أكثر من مرة قرارات منظمة التجارة العالمية.

وتذرَّعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بالمخاوف الأمنية لحظرِ الاستثمارات الصينية في الشركات الأمريكية؛ والحد من وصول الصين إلى بيانات المواطنين، والتقنيات المتقدمة.

تخلى العالم بالفعل عن بعض أركان العقيدة الاقتصادية القديمة للسوق الحرة، لكن لم يتضح بعد  النظام الذي سيحل محلها. وقد صار الارتجال هو النمط الغالب على كثير من دول العالم  اليوم. لكن الافتراض الوحيد الذي يمكن الميل إليه ببعض الثقة هو أن السير في طريق الازدهار الاقتصادي وتبادل المنافع السياسية والتجارية سيصبح أكثر وعورة وضبابية مما كان عليه خلال العقود الماضية.

تحميل المزيد