اعتقالات وحظر للنشر.. هل يصمد الإعلام التونسي المستقل أمام قمع قيس سعيد للحريات؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2023/06/18 الساعة 16:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/06/18 الساعة 16:52 بتوقيت غرينتش
عشرات الصحفيين التونسيين، يجتجون دفاعاً عن حرية الصحافة بعد أيام من اعتقال مدير إذاعة محلية خاصة ضمن حملة اعتقالات/ الأناضول، أرشيفية

يفقد الإعلام التونسي بوتيرة متسارعة الحريات الثمينة التي نالها بعد ثورة 2011، وأصبح شبح الاعتقال وتلفيق الاتهامات يطارد الإعلاميين، بينما المواطنون مشغولون بمحاولة الحصول على احتياجاتهم الأساسية.

تبث "موزاييك إف إم"، المحطة الإذاعية الأكثر شعبية في تونس، البرنامج السياسي "انتبه آش قال"، الذي أرّخ لتعثُّر الديمقراطية الشابة في البلاد وتحولها مؤخراً نحو الاستبداد.

وقالت مقدمة البرنامج، هاجر التليلي، إنها متخصصة في رصد السلوكيات المتناقضة والمنافقة الصادرة من السياسيين. لكن في الآونة الأخيرة، كان عليها أن تتوخى الحذر فيما تقوله.

إذ سُجِن مدير محطة موزاييك المستقلة من فبراير/شباط إلى مايو/أيار. وحُكِم على أحد مراسليها بالسجن خمس سنوات، وخضع اثنان آخران للاستجواب بشأن انتقاد الحكومة، حسبما ورد في تقرير صحيفة The New York Times الأمريكية.

وقالت هاجر: "كنت أفكر يومياً أنني قد أكون التالية. لكنني واصلت عملي كالمعتاد؛ فلا يمكنني العودة إلى الديكتاتورية مرة أخرى".

وأشارت إلى أنها كانت المرة الأولى التي تشعر فيها بهذه الطريقة، منذ بداية حياتها المهنية في الصحافة، التي انطلقت مباشرةً بعدما أطاحت تونس بديكتاتورها زين العابدين بن علي الذي حكم لفترة طويلة في عام 2011؛ مما ألهم موجة من الانتفاضات في جميع أنحاء العالم العربي.

واستهلت تلك الأحداث تجربة ديمقراطية دامت عقداً من الزمان وصفها الكثيرون بأنها أعظم إنجاز للربيع العربي. وتدفق الشباب التونسي، مثل هاجر التليلي، بحماس للانخراط في السياسة والنشاط المجتمعي والإعلام.

لكن السنوات التي لم تشهد استبداداً بدأت تبدو وكأنها لحظة خاطفة.

20 صحفياً يواجهون عقوبة السجن والكتب المنتقدة للرئيس سحبت من معرض الكتاب

فقد بدأ الرئيس قيس سعيد بتهميش المؤسسات الديمقراطية في الدولة الواقعة في شمال إفريقيا منذ عامين، وأعاد ترسيخ حكم الرجل الواحد. ويواجه أكثر من 20 صحفياً الآن عقوبة السجن، وسُجِن تونسيون آخرون بسبب منشورات معادية للحكومة على الشبكة الاجتماعية فيسبوك.

وفي أبريل/نيسان، سُحِبَت الكتب التي تنتقد الرئيس سعيد من معرض الكتاب الذي ترعاه الحكومة. وفي مايو/أيار، أُلقِي القبض على مغني راب شاب بسبب أغنية ساخرة عن قوانين المخدرات وفساد الشرطة.

وتجاوزت حملة الرئيس القمعية على مكاسب ما بعد الثورة نطاق حرية التعبير.

القضاء جرد من استقلاليته ومغنٍّ يعتقل بسبب أغنية ساخرة

فقد جرّد سعيد القضاء من جزء كبير من استقلاليته، واعتقل شخصيات معارضة وأعاد كتابة الدستور لزيادة السلطات الممنوحة له بموجب منصبه.

لكن القمع التدريجي لحرية التعبير هو الأبرز؛ لأنه عندما يُطلَب من التونسيين تقييم ثورتهم، غالباً ما يقولون إنَّ حرية التعبير كانت الإنجاز الملموس الوحيد الذي نتج عنها.

الإعلام التونسي
الرئيس التونسي قيس سعيد/رويترز

وقال يوسف شلبي، مغني الراب البالغ من العمر 27 عاماً، الذي اعتُقِل بسبب الأغنية الساخرة: "لقد نشأت وسط حرية، وتلقيت تشجيعاً على ممارستها. حرية التعبير هي الشيء الوحيد الذي خرجنا به من الثورة. لا أعرف ما الخطأ الذي ارتكبته".

وأمر الرئيس سعيد بالإفراج عنه بعد احتجاج جماهيري. ومع ذلك، لا يزال الخوف يخيم؛ إذ صار المزيد من التونسيين يشعرون بعدم الارتياح عند مناقشة السياسة، وفقاً لاستطلاعات الرأي الأخيرة.

المواطنون يهتمون بالخبز أكثر من الإعلام

ومع ذلك، حتى المذيعة هاجر التليلي وزملاؤها في المحطات الإذاعية يُقرّون بأنَّ العديد من المستمعين قد لا يهتمون بالقدرة على التحدث بصراحة أكثر من اهتمامهم بوضع الخبز على الطاولة. وإذا كانت هناك حرية كافية للشكوى من إخفاقات الديمقراطية، فسيقول التونسيون إنَّ سنوات الديمقراطية أدت في الغالب إلى نكسات اقتصادية واختلالات في الدولة.

ويقول إلياس غربي، مقدم برنامج "ميدي شو" الشهير في إذاعة موزاييك، الذي يقدم تعليقات سياسية: "عندما تولى سعيد الرئاسة عام 2021، ابتهج العديد من التونسيين. لكن الآن، مع تأرجح الاقتصاد، ضاع الناس بين أي الأمرين أهم: تناول الطعام أم حرية الفكر".

وسبق أكد نقيب الصحفيين في تونس، محمد ياسين الجلاصي، في حوار خاصّ مع "عربي بوست"، أن ضغوطاتٍ تُمارَس على الإعلام للترويج وخدمة صوت الرئيس قيس سعيّد، وتهديدات جدية تُحيط بحرية التعبير في تونس، بعد 25 يوليو/تموز 2021، تاريخ تجميد البرلمان وجمع السلطات بين يدي الرئيس.

وفي مارس/آذار 2023، أعلنت منظمة مراقبة دولية تخفيض تصنيف تونس إلى "دولة قمعية"، بسبب ما شهدته البلاد من تدهور سريع ومتزايد في حرية التجمع السلمي والتعبير وتكوين الجمعيات.

موقع إعلامي يعتذر عن مشاركة الصحفيين في المؤامرة في عهد زين العابدين

أي شخص نشأ خلال ديكتاتورية زين العابدين بن علي قبل 2011 يتذكر كيف كانت الحياة العامة. فقد التزم التونسيون الصمت بشأن السياسة، حتى حول الأصدقاء. ووقّعت المنافذ الإخبارية تعهدات بعدم تغطية السياسة. وكانت الصحف التجارية أكثر حكمة من أن تكتب عن كيفية نهب عائلة بن علي للأصول الاقتصادية. إضافة إلى ذلك، كان الدين من المحظورات.

وبعد 3 أيام من إسقاط زين العابدين بن علي في 2011، نشر موقع Business News، اعترافاً حماسياً اعتذر فيه عن "مشاركة الصحفيين التونسيين في مؤامرة الصمت وممارسة الرقابة الذاتية والخنوع. يجب أن نأمل في المستقبل ألا يحني الصحفيون ووسائل الإعلام التونسية ظهورهم لأي سلطة".

ولكن الإعلام التونسي أصبح حراً بعد الثورة

وبين عشية وضحاها تقريباً، خيّمت السياسة على برامج إذاعة موزاييك، التي خصَّصَت ساعات من التغطية لآخر الجهود المبذولة لإجراء انتخابات وطنية وتشكيل الأحزاب السياسية وصياغة دستور جديد.

وانضمت هاجر التليلي إلى موزاييك في العام الذي سبق الانتفاضة، ومع ذلك لم يكن كبار زملائها أكثر خبرة في الصحافة السياسية. لكن بعد الثورة، ملأوا جداولهم ببرامج تدريبية مدفوعين بشغف التعلم.

وقالت هاجر: "فجأة، صارت هناك دولة جديدة".

أما اليوم فممنوع دعوة المعارضين

لكن ما لبث الوضع يتراجع بمجرد استيلاء سعيد على السلطة الكاملة في عام 2021، كما لو أنَّ ذاكرة ممارسات ما قبل الثورة بدأت في العودة. وسرعان ما توقفت المنافذ الإعلامية عن دعوة السياسيين المعارضين والناقدين للظهور. وتوقف وزراء الحكومة عن الرد على أسئلة الصحفيين. وقال نزار بهلول، رئيس تحرير Business News، إنَّ مراسلي الموقع بدأوا في ممارسة الرقابة على أنفسهم.

الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي/ Getty image

لكن كان هناك شيء جديد هذه المرة؛ وهو تسمم الشبكات الاجتماعية.

إذ هاجم أنصار سعيد بشراسة كل من ينتقد الرئيس ونشروا معلومات شخصية عن المعارضين السياسيين. وقالت زينة الماجري، مُؤَسِّسة منصة Falso التونسية لتقصي الحقائق، إنَّ صفحات فيسبوك وحسابات التصيًّد (البوتات) المرتبطة بدائرة الرئيس شنت حملات تشهير مُنَسّقة ضد المنتقدين.

ولم يرد مكتب الرئيس على طلب للتعليق.

والصحفيون يتهمون بالفاسدين

ووصف أنصار سعيد صحافيي موزاييك، على صفحات الإنترنت، بـ"الفاسدين". وتصاعد الشعور بالحصار في إحدى ليالي فبراير/شباط عندما ألقى ضباط الأمن القبض على مدير المحطة نور الدين بوطار.

وقال صحفيوه إنهم شعروا بالمسؤولية الشخصية؛ وتركزت التهم  المُوجَّهة إليه على مخالفات مالية، لكن محامييه قالوا إنه استُهدِف بسبب التغطية السياسية للمحطة.

وبعد أيام من الاعتقال، وفي اجتماع كئيب للموظفين، سلّم محامو بوطار رسالة من رئيس المحطة قال فيها: "استمروا في أداء وظائفكم". إذ بناءً على أعداد جمهور المحطة، كان التعليق المستقل عملاً جيداً.

ولكن البعض ما زال يتضامن معهم

وتظل موزاييك المحطة الأولى في تونس؛ ففي بلد يبلغ عدد سكانه نحو 11 مليون نسمة، يستمع أكثر من مليون يومياً إلى برنامج "ميدي شو"، وهو أحد البرامج القليلة في تونس بأكملها الذي يناقش باستمرار تراجع البلاد نحو الاستبداد.

وعندما استجوبت الأجهزة الأمنية مقدم البرنامج إلياس غربي، والمُعلّق هيثم المكي الشهر الماضي بعد انتقاد أساليب تجنيد الشرطة على الهواء، ظهر بعض المستمعين خارج مقر استجوابهما تعبيراً عن التضامن، بحسب الصحفيين غربي والمكي.

وقال المكي: "إذا كان لا يزال لدينا هذا العدد الكبير من الناس يتابعوننا، فهذا دليل على الثقة".

وفي هذه الأثناء، شعر الصحفيون بالأمل.

فبرغم استمرار خطر تعرضهم للملاحقة القضائية، صدر أمر بالإفراج عن بوطار بعد ثلاثة أشهر في السجن.

تحميل المزيد