صباح الإثنين 12 يونيو/حزيران 2023 توفي رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني، تاركاً وراءه إرثاً من العلاقات والأزمات في منطقة الشرق الأوسط.
توفي برلسكوني الذي بدأ مسيرته السياسية عام 1994، والتي تعد الأطول بتاريخ إيطاليا، في ميلانو في أبريل/نيسان، أثناء علاجه من عدوى رئوية مرتبطة بابيضاض الدم النقوي المزمن.
واتسمت الفترة التي قضاها في المنصب بسياسات وخطابات شعبوية، وزلات وحماقات، وعدد من الفضائح الجنسية ومزاعم ارتكاب مخالفات، انتهى الكثير منها بدعاوى قضائية، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
ومن إلغاء لقاء مع العاهل الأردني الملك عبد الله "لحضور حفل مع فلاديمير بوتين"، إلى تقبيل يد الرئيس الليبي معمر القذافي، كانت لبرلسكوني علاقات مثيرة للجدل مع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خلال فترات توليه منصب رئيس الوزراء.
ويسلط موقع Middle East Eye الضوء على بعض أبرز المواقف في تعاملات برلسكوني مع المنطقة.
القذافي
بعد أن تولى القذافي السلطة في انقلاب عام 1969، لم يتوقف عن مهاجمة إيطاليا وحكمها الاستعماري القمعي لليبيا في الفترة من 1911 إلى 1943.
ولذلك كانت زيارته إلى روما عام 2009 تاريخية على عدة مستويات.
أحدها أن القذافي كان برفقة ابن عمر المختار، البطل الثوري الليبي الذي أعدمته السلطات الإيطالية عام 1931، لقيادته حركة المقاومة ضد القوات الاستعمارية الإيطالية.
وعُرض الفيلم الملحمي الذي موله القذافي "أسد الصحراء" عن حياة مختار على شاشة التلفزيون الإيطالي أثناء زيارة الزعيم الليبي، بعد حظره منذ عام 1982 لأنه "يسيء" إلى الجيش الإيطالي.
وأحضر القذافي معه 300 مرافق، نصبوا خيمة على الطراز البدوي في قصر يعود للقرن السابع عشر في العاصمة الإيطالية.
وكانت رحلة القذافي -التي كانت الأولى لروما- تجسيداً للعلاقة الوثيقة بين برلسكوني والحاكم الليبي.
وقبلها بعام، اتفق الاثنان على صفقة تعوض فيها إيطاليا ليبيا عن فظائع الاستعمار بما يصل إلى 5 مليارات دولار في مشاريع بنية تحتية، مقابل أن تمنع طرابلس من يحاولون عبور الحدود إلى إيطاليا.
وخلال اجتماع في قمة جامعة الدول العربية، قبّل برلسكوني يد نظيره الليبي، وعرّضه هذا التصرف لانتقادات عنيفة في إيطاليا.
وكانت العلاقة بينهما أكثر من مجرد علاقة رمزية، فعام 2004، افتتح الزعيمان خط أنابيب غاز غرين ستريم، الذي يمتد من حقل الوفاء في ليبيا إلى صقلية في إيطاليا. وهو لا يزال أطول خط أنابيب تحت الماء في البحر المتوسط.
وحين كانت العلاقات الوثيقة بين القائدين في ذروتها، امتلكت الحكومة الليبية أسهماً في البورصة الإيطالية والعديد من الشركات الكبرى، بل وكانت تمتلك جزءاً من نادي يوفنتوس لكرة القدم. وفي الوقت نفسه، كانت ليبيا أكبر موردي النفط لإيطاليا.
إلا أن هذه العلاقات الوثيقة انهارت خلال الثورة الليبية عام 2011 التي أطاحت بالقذافي.
ففي البداية، زعم برلسكوني أنه يستطيع "إقناعه بالذهاب إلى المنفى" والتفاوض على "خروج مشرّف من المشهد".
وقال برلسكوني في مارس/آذار عام 2011: "أنا حزين على القذافي، وما يحدث في ليبيا يؤلمني بصفة شخصية".
على أن حزنه وأسفه لم يمنعاه من السماح بإطلاق منطقة حظر طيران على ليبيا عام 2011 من الأراضي الإيطالية في قاعدة الناتو في نابولي.
وبحسب تقارير، بعث القذافي برسالة إلى برلسكوني يطلب فيها مساعدة إيطاليا في شهوره الأخيرة.
وجاء في هذه الرسالة: "فوجئت بموقف صديق أبرمت معه معاهدة صداقة تعود بالنفع على بلدينا. وكنت أتمنى أن تتأكد من الحقائق وتسعى إلى التوسط على الأقل قبل أن تمنح دعمك لهذه الحرب".
وبعد الإمساك بالقذافي وقتله وسحله في الشوارع، علق برلسكوني بالعبارة اللاتينية الشهيرة: "Sic Transit gloria mundi" التي تعني "وهكذا يزول مجد العالم".
دعم حرب العراق
دعم برلسكوني الغزو الذي قادته الولايات المتحدة على العراق عام 2003، رغم معارضة أغلب الإيطاليين له.
ورغم هذه الانتقادات المحلية، دافع برلسكوني بحماسة عما تفعله الولايات المتحدة في العراق، بل وتعلل بدفاع أمريكا عن أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية.
وقال إنه "لا يبدو معقولاً" له أن يرفض طلب بوش بحضور عسكري إيطالي في العراق.
وقال: "على الجميع أن يشعروا بالامتنان للديمقراطية الأمريكية العظيمة".
ولم ترسل إيطاليا جنودها للغزو في بدايته في مارس/آذار عام 2003، لكنها أرسلت 3000 جندي بعدها بأسابيع حين سقطت بغداد.
لكن عام 2005، زعم برلسكوني أنه حاول إقناع بوش غير مرة باجتناب هذا الغزو.
وقال: "لم أقتنع يوماً بأن الحرب هي أفضل طريقة لتحويل دولة إلى الديمقراطية وانتزاعها من نظام ديكتاتوري وإن كان دموياً. وحاولت مرات عدة إقناع الرئيس الأمريكي بالامتناع عن شن هذه الحرب".
وسخرت المعارضة الإيطالية حينذاك من هذه التصريحات، واعتبرتها تكتيكًا سخيفاً لتجديد انتخابه في ظل ظروف اقتصادية متدهورة وهجوم عنيف على سياسته الخارجية.
دعم إسرائيل
كان برلسكوني أحد أشد القادة تأييداً لإسرائيل في أوروبا خلال فترة ولايته، حتى إنه كان يروّج لعضوية إسرائيل في الاتحاد الأوروبي.
وفي الثمانينيات، كانت الحكومة الإيطالية مؤيدة نسبياً للفلسطينيين.
إذ تحدث الرئيس السابق ساندو برتيني في خطابه نهاية عام 1982 عن وفاة اللاجئين الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا خلال الحرب الأهلية اللبنانية، فيما دافع رئيس الوزراء الاشتراكي السابق بيتينو كراكسي عن النضال الفلسطيني المسلح عام 1985.
لكن برلسكوني أيّد إسرائيل بقوة، واصفاً إياها بأنها "ليست فقط أكبر مثال للديمقراطية والحرية في الشرق الأوسط، وإنما المثال الوحيد أيضاً".
وعام 2010 قال إنه يعتبر إسرائيل دولة أوروبية، و"يحلم" بضمّها إلى الاتحاد الأوروبي.
وقال: "مادمت أنا أحد صانعي السياسة، فحلمي الأكبر هو ضم إسرائيل إلى دول الاتحاد الأوروبي".
وعارض محاولات "الاعتراف بفلسطين من جانب واحد" ما لم تندد حكومة فلسطينية موحدة بالإرهاب، وتقبل حق إسرائيل في الوجود، وتعهد بمحاربة هذه المحاولات في أوروبا.
لكنه كان يتعرض لانتقادات من بعض الأوساط الإسرائيلية أيضاً، لا سيما بسبب تصريحاته عن الفاشية في الثلاثينيات.
ففي البرلمان الأوروبي عام 2003، قال لسياسي ألماني إنه سيؤدي دور حارس معسكر اعتقال "ببراعة".
وأشاد أيضاً بالزعيم الفاشي بينيتو موسوليني، وزعم أنه "لم يقتل أحداً"، وذلك رغم ما تشير إليه البيانات التي جمعتها المؤرخة ليليانا بيتشيتو فارجيون بترحيل الآلاف من اليهود الإيطاليين خلال الهولوكوست، وقتل الكثير منهم في معسكرات الاعتقال.
"روبي غيت"
كانت الراقصة المغربية كريمة المحروقي، التي اشتهرت باسم روبي، واحدة من أكبر فضائح برلسكوني خلال وجوده في السلطة.
إذ اتُّهم برلسكوني بالدفع لكريمة مقابل إقامة علاقة معها أوائل عام 2010، حين كانت تبلغ من العمر 17 عاماً فقط.
وأدين برلسكوني عام 2013 وحكم عليه بالسجن 7 سنوات ومُنع من تولي المناصب العامة، لكنه استأنف القضية بعد عام، وأصبح مؤهلاً مرة أخرى للترشح للمناصب العامة.
وقد واجه العديد من القضايا القانونية المرتبطة بحفلات "البونغا بونغا" التي اشتهر بها، ووجهت له اتهامات من ضمنها الفساد والاحتيال الضريبي ودعارة القُصَّر، لكن جميعها رُفضت أو ألغيت بعد الطعن عليها.