اتفقت دول الاتحاد الأوروبي أخيراً على قواعد جديدة تنظم ملف الهجرة واللجوء، بعد انقسام استمر منذ عام 2015، فما تفاصيل الاتفاق الذي "يغلق الباب" تقريباً في وجه المهاجرين؟
ومنذ صعود أحزاب اليمين المتطرف إلى قمة هرم السلطة في كثير من الدول الأوروبية، أصبح ملف الهجرة يحتل صدارة القضايا في القارة العجوز وتنامت بشكل لافت المشاعر المعادية للمهاجرين وطالبي اللجوء. وفي هذا السياق، أصبحت أوروبا تواجه مأزقاً ضخماً بين ما ترفعه من شعارات أخلاقية وبين سعي السياسيين إلى كسب أصوات اليمين المتطرف.
إذ إن السمة الرئيسية الغالبة على الجماعات والأحزاب المنضوية في إطار اليمين بشكل عام، سواء أكانت أحزاباً متطرفة تعمل في إطار عملية ديمقراطية أم أخرى معارضة لها، هي الخطاب الذي يتحدث باستمرار عن وجود تهديد عرقي أو ثقافي ضد مجموعة "أصلية" من قبل مجموعات تعتبر دخيلة على المجتمع، وعن ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية، ومن ثم تأتي معارضة اليمين المتطرف للهجرة.
ما بنود الاتفاق الأوروبي الجديد بشأن اللجوء؟
بعد مفاوضات استمرت يوماً كاملاً، الخميس 8 يونيو/حزيران، اتفق وزراء الشؤون الداخلية بالاتحاد الأوروبي على كيفية تقاسم المسؤولية عن الاعتناء بالمهاجرين واللاجئين، على أمل إنهاء سنوات من الانقسام الذي يعود إلى العام 2015 عندما وصل أكثر من مليون شخص، معظمهم فروا من الحرب في سوريا، إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.
وخلال تلك السنوات، تمثلت المشكلة في مطالبة البلدان الواقعة على الحافة الجنوبية للاتحاد الأوروبي، ومنها إيطاليا واليونان، بمزيد من المساعدة حتى تستطيع التعامل مع من يصلون إلى شواطئها، بينما رفضت دول بشرق الاتحاد الأوروبي، مثل بولندا والمجر، استضافة أي شخص من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ذات الأغلبية المسلمة.
وتفاقمت الأزمة مع شحن الأحزاب اليمينية والشعبوية في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، البالغ عدد أعضائه 27 دولة، الجدل بخطابها المناهض للهجرة.
وكانت رئيسة مجلس الاتحاد الأوروبي، السويدية ماريا مالمر ستينرغارد، قد علقت اجتماع الخميس ثلاث مرات وتم تعديل نصوص الاتفاق عدة مرات بعد البيانات الرافضة من الوفود المختلفة فيما بينها على عدة نقاط.
وفي النهاية وافقت ألمانيا وإيطاليا على مشروع الإصلاحات، بينما رفضته بولندا والمجر، أي أن القرار لم يحظ بالإجماع، إلا أنه حصل على أغلبية مؤهلة من الدول الأعضاء، التي تمثل 65% على الأقل من سكان الاتحاد الأوروبي. وترفض بولندا والمجر الامتثال لقواعد الهجرة المشتركة في الاتحاد الأوروبي، والتي تم إقرارها عام 2015.
وحسب الإجراءات الحدودية الجديدة التي تم الاتفاق عليها، سيجري فرز طالبي اللجوء الذين ليس لديهم فرصة للحصول على الحماية نظراً لأنهم ينحدرون من دول آمنة نسبياً في غضون 12 أسبوعاً كحد أقصى، ومن ثم العمل على ترحيلهم، على عكس ما كان يحدث من استمرار طالبي اللجوء لسنوات حتى يتم البت في طلب اللجوء.
وينطبق هذا الأمر على جميع البلدان التي يقل معدل الاعتراف بلجوء مواطنيها في الاتحاد الأوروبي عن 20% كباكستان وألبانيا وبعض دول إفريقيا، بحسب تقرير لشبكة DW الألمانية.
ووفق القواعد الجديدة، يمكن إرجاع طالبي اللجوء المرفوضين من الحدود الخارجية للاتحاد بسرعة إلى بلدانهم الأصلية أو إلى بلد ثالث. وفي المستقبل، يتعين أن تكون الدول المُرحِّلة، أي اليونان وإيطاليا، قادرة على أن تقرر بنفسها ما إذا كان الوضع في الدول التي يتعين الترحيل إليها مناسبة أم لا، وبهذا ينتهي العمل بالقائمة الموحدة للدول الآمنة التي يقرها الاتحاد الأوروبي وتنطبق على جميع دوله.
وستنطبق الإجراءات الجديدة التي تم الاتفاق عليها على الأطفال والقصر غير المصحوبين بذويهم، أي إنه حتى الأطفال أو القصر يمكن ترحيلهم إلى بلدانهم على الفور، وهو تغيير جذري في سياسات الاتحاد الأوروبي.
ماذا تعني تلك التغييرات الجذرية؟
كانت صحيفة الغارديان البريطانية قد نشرت تقريراً عنوانه "صعود اليمين المتطرف.. هل تشهد أوروبا مهرجان انتخاب الزعماء الشعبويين؟"، رصد ما يعنيه صعود أحزاب اليمين المتطرف إلى قمة السلطة في القارة العجوز. وفي إشارة إلى هذا التحول الذي يلوّن المشهد السياسي في أوروبا، استخدم رئيس المفوضية الأوروبية السابق جون كلود يونكر آخر خطاباته حول حالة الاتحاد (عام 2018) لانتقاد ما وصفها بـ"القومية غير الصحية" في القارة، مضيفاً أن "حب الوطن فضيلة. ولكن النزعة القومية الخارجة عن السيطرة مليئة بالسم والخداع".
إذ تشترك جماعات اليمين المتطرف في بعض السمات الرئيسية، كالنزعة القومية، أو ما يمكن وصفه بالشعور بأن بلداً ما وشعب هذا البلد أرقى من غيره. ولدى تلك الجماعات شعور قوي بالهوية الوطنية والثقافية إلى درجة اعتبار أن اندماج ثقافات أخرى يشكل تهديداً على تلك الهوية، ومن ثم فإنها ترفض فكرة التنوع.
وعادة ما يستميل زعماء تلك الجماعات الأفراد من خلال إعطائهم شعوراً بالانتماء والفخر. وكثيراً ما يكون ذلك أداة دعائية قوية، ولا سيما في المناطق الفقيرة التي تعاني من نسبة بطالة مرتفعة، والتي يشعر سكانها بالتهميش من قبل المؤسسة السياسية.
أما السمة الأخرى التي تميز اليمين المتطرف فهي تتعلق بالتحيزات الدينية، إذ يعتبر أعضاء اليمين المتطرف أنفسهم مدافعين عن الدين المسيحي، ويستخدمون ذريعة الحفاظ على القيم المسيحية لإثارة صراعات مع أديان أخرى، وبصفة خاصة الإسلام
لكن هناك أحزاب أوروبية يسارية ترفض تلك السياسات المتطرفة، فما موقف تلك الأحزاب التي يشارك بعضها في ائتلافات حكومية، مثل حزب الخضر في ألمانيا؟ وزيرة الشؤون الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، أشادت بالاتفاق ووصفته بأنه "تاريخي". وقالت مفوضة الشؤون الداخلية بالاتحاد الأوروبي، إيلفا جوهانسون لرويترز: "هذا إنجاز عظيم، يُظهر أنه من الممكن أن نعمل معا في مجال الهجرة. إننا نكون أقوى بكثير عندما نعمل معاً".
لكن حزب الخضر، الشريك في الائتلاف الحاكم في برلين، انتقد الاتفاق، وبخاصة ترحيل الأطفال والقصر والتوسع في "معسكرات فرز المهاجرين وطالبي اللجوء" في اليونان وإيطاليا، لكن الوزيرة فيزر ردت في بيان على الانتقادات بالقول إنها ستستمر في الدفاع عن حقوق الأطفال واستثناء بعض الحالات الصعبة من الإجراءات. ومن غير الواضح ما إذا كان هذا سيرضي حزب الخضر.
فوفق إجراءات اللجوء المقرة، يجب إنشاء "مراكز استقبال" جديدة مغلقة في بلدي الدخول الأولين، اليونان وإيطاليا. وتعتبر المنظمات المدافعة عن حقوق اللاجئين وحزب الخضر وأجنحة في الحزب الاشتراكي الديمقراطي تلك المراكز "مراكز احتجاز" غير مقبولة. ولم توافق إيطاليا على الاتفاق إلا بعد عدد خفض من ستشملهم الإجراءات اللجوء السريع بشكل كبير خلال المشاورات.
في بداية المفاوضات، كانت الرئاسة السويدية للاتحاد الأوروبي قد اقترحت أن تتم إجراءات اللجوء في تلك المراكز لـ 120.000 طالب لجوء في كل عام، لكن معارضة إيطاليا واليونان الشرسة قلصت العدد الإجمالي إلى الثلث فقط، أي 40 ألفاً كل عام.
وبذلك ينخفض عدد الأشخاص الذين يتعين نقلهم من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى أو إيطاليا أو اليونان كجزء من "إعادة التوزيع" من "مراكز الاحتجاز". وحتى الآن لم تبد غير ألمانيا والبرتغال وأيرلندا ولوكسمبورغ الاستعداد لاستقبال طالبي اللجوء الذين يمكن أن تنطبق عليهم الشروط الجديدة، بينما ترفض باقي دول الاتحاد استقبال أي من هؤلاء.
لا أحد مرحب به إلا الأوكرانيين!
باقي دول الاتحاد الأوروبي التي ترفض استقبال أي من طالبي اللجوء أو المهاجرين سيتعين عليها دفع تعويضات إلى صندوق للاتحاد الأوروبي لتغطية تكاليف حماية الحدود وغيرها من النفقات لمنع الهجرة، قيمتها 20 ألف دولار سنوياً عن كل شخص، لكن هناك دول أوروبية ترفض أيضاً دفع أي مبالغ لذلك الصندوق.
فقد أعلن وزير الداخلية البولندي القومي المحافظ ماريوس كامينسكي، أن بلاده لن تدفع أي تعويض في صندوق الاتحاد الأوروبي لطالبي اللجوء الذين لن تستقبلهم بلاده. وهذا التعويض يجب دفعه بموجب قواعد التضامن الجديدة، إذا لم تستقبل دولة ما العدد الذي يتناسب مع عدد سكانها من طالبي اللجوء.
وفي هذا السياق كشفت الخبيرة في الهجرة هيلينا هان من مركز أبحاث "مركز السياسة الأوروبية" (European Policy Centre) أن الشكوك تساورها من أن الاتفاق سيجري تطبيقه بسلاسة: "لقد رأينا أن الاتفاق قوبل حتى لحظة إقراره بمقاومة من قبل بعض الدول الأعضاء، بما في ذلك بولندا. وتقول الدول المعارضة إن التكاليف باهظة للغاية، لذلك يمكننا توقع مزيد من المعارضة".
فعلى الرغم من المعارضة الشديدة لـ "التضامن الإلزامي" مع اليونان وإيطاليا وقبرص ومالطا، وهي دول الاتحاد التي يدخلها في البدء معظم طالبي اللجوء، إلا أن ألمانيا وافقت على إجراءات اللجوء السريع على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، والتي كانت مثيرة للجدل في الائتلاف الحاكم في برلين.
ويفتح الاتفاق المجال أمام مفاوضات في البرلمان الأوروبي بغية تبني التعديلات رسمياً قبل الانتخابات الأوروبية المقررة في يونيو/حزيران العام المقبل 2024، وإذا حظي الاتفاق بموافقة البرلمان الأوروبي، فيمكن أن يدخل حيز التنفيذ في العام المقبل.
ماذا عن طالبي اللجوء الأوكرانيين؟ لن يتأثر هؤلاء بالقواعد الجديدة، فهم يتمتعون بوضع حماية استثنائي. بينما يؤكد منتقدون ليبراليون للاتفاق أن الإجراء الحدودي المعجل يهدد بتكرار مشاهد مأساوية حدثت في الجزر اليونانية قبل عدة سنوات من خلال إنشاء المزيد من مخيمات المهاجرين المكتظة وغير الملائمة على أطراف الاتحاد الأوروبي.
ويرى البعض أن طالبي اللجوء من سوريا أو أفغانستان، وهم الكتلة الرئيسية من المهاجرين إلى الاتحاد الأوروبي، لن يتأثروا كثيراً بالقواعد الجديدة لأن معدل الاعتراف بطلباتهم يبلغ حوالي 50%. وسينطبق الإجراء "الطبيعي" على السوريين والأفغان. هذا يعني أنهم سيسجلون في اليونان أو إيطاليا ثم يتابع في الغالب طريقهم نحو ألمانيا.
هذه "الهجرة الثانوية"، التي لا يُسمح بها في الواقع بموجب قانون الاتحاد الأوروبي ولكنها ممارسة شائعة، لن تتأثر بالكاد بالقواعد الجديدة التي تم التوصل إليها بشق الأنفس. ولا تعد دول الاتحاد الأوروبي -كما كان الحال في كثير من الأحيان من قبل- إلا باستعادة طالبي اللجوء الذين دخلوها كأول دول في التكتل الأوروبي.
وقالت باحثة الهجرة هيلينا هان لـ DW: "تحتاج الدول الأعضاء التي تدخلها أعداد كبيرة من الوافدين الجدد إلى الاتحاد الأوروبي (اليونان وإيطاليا) إلى زيادة قدراتها بشكل كبير حتى تتمكن من التعامل مع هذه الإجراءات الحدودية بشكل صحيح".
الخلاصة هنا هي أن الهدف من الاتفاق هو تقليل عدد الوافدين وطالبي اللجوء في الاتحاد الأوروبي، الذي ارتفع بشكل حاد في السنوات الأخيرة. ففي عام 2022، قدم 850 ألف شخص طلب لجوء. وقال دبلوماسيون من الاتحاد الأوروبي إن القواعد الجديدة تهدف إلى زيادة الردع.
لكن وزير الداخلية المجري، ساندور بينتر، لا يزال يشكك في الاتفاق، ويرى أنه لن يكون له تأثير "الردع" المطلوب، وأوضح مؤخراً أنه يجب حماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي بشكل أفضل، بحيث لا يستطيع المهاجرون اختراقها. بينما قالت نظيرته الألمانية، نانسي فيزر، في لوكسمبورغ: "أريد أن أبقي الحدود مفتوحة".
وتوصي الخبيرة في الهجرة هيلينا هان من مركز أبحاث "مركز السياسة الأوروبية" الدول الأعضاء بمواصلة الجهود وعلى وجه السرعة بغية التوصل لتوافق في الآراء وتحسين التنسيق: "إذا لم يحدث ذلك، فربما تتفاقم الأمور أكثر منها اليوم: إجراءات غير منظمة، وأعداد متزايدة". واشتكى وزير الداخلية النمساوي، غيرهارد كارنر، من أن "منظومة اللجوء الحالية لا تعمل".