أزمة مالية غير مسبوقة يمر بها ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا، بسبب السياسات التي ينتهجها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من بعد جائحة كورونا، التي تسببت في تراجع حاد في الاقتصادات العالمية.
وضع الاقتصاد الفرنسي لم يكن بالشكل الذي يسمح لماكرون بأن يلجأ إلى عدد من القرارات التي قد تبدو قاسية على الشعب الفرنسي بسبب تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا أيضاً، كما يذكر تقرير لصحيفة The Telegraph البريطانية.
ومن أجل البحث عن استثمارات جديدة تمكنه من المضي في القرارات الاقتصادية التي يتخذها، استقبل ماكرون الشهر الماضي الملياردير الأمريكي إيلون ماسك -مالك شركة تسلا الرائدة في صناعة السيارات الكهربائية- استقبالاً حافلاً، غلبت عليه أجواء الترحيب الرسمية، التي لم يخالفها سوى هيئة ماسك ،الذي لم يكلف نفسه عناء تهذيب شعره.
ويأمل الرئيس الفرنسي في أن يجتذب لبلاده مزيداً من الاستثمارات في صناعة السيارات الكهربائية، لا سيما من المليارديرات العاملين في تلك الصناعة، مثل رئيس شركة تسلا. وتأتي تلك الخطوة ضمن مساعي ماكرون للمضي قدماً في خطته الرامية إلى تيسير حركة الأعمال في البلاد، وزيادة سنوات العمل بعد إقراره لقانون إصلاح المعاش التقاعدي.
الحاجة إلى مزيد من الاستثمارات
وبحسب الصحيفة البريطانية، كان ماكرون في أمسّ الحاجة إلى هذه الدفعة الاستثمارية، وقد يحصل على استثمارات كبيرة من ماسك، لكن لجوء الرئيس الفرنسي إلى هذا المسار ينمُّ عن تدهور بازغ في أحوال الرجل، الذي شبَّه نفسه ذات يوم بإله السماء الروماني "جوبيتر".
يكافح ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا للتخلص من إدمانه المزمن على الإنفاق. فقد تعهد ماكرون بحماية العائلات الفرنسية من الأعباء المالية الناجمة عن تدابير الإغلاق الاقتصادي أثناء جائحة كورونا "مهما كان الثمن". لكن الغزو الروسي لأوكرانيا كبَّل خطواته مرة أخرى. ولما اضطرت البلاد إلى رفع أسعار الفائدة لاحتواء التضخم، عادت وطأة الأعباء الاقتصادية.
تحركت الحكومة الفرنسية لحماية الناس من آثار الارتفاع في أسعار فواتير الطاقة، فأجبرت شركة كهرباء فرنسا على تحديد سقف للأسعار، وإن تحملت بعض الخسائر في سبيل ذلك. ورفعت الشركة دعوى قضائية رفضاً لذلك، لكن المعركة انتهت بتأميم الحكومة لشركة الكهرباء الوطنية. وخفض ماكرون كذلك أسعار بنزين السيارات، وزادت المساعدات المخصصة للفقراء.
أفضت هذه التحركات إلى إنقاذ كثير من الأسر الفرنسية من المعاناة قصيرة المدى، لكنها ضيَّقت على البلاد سبل المناورة أمام الأعباء الاقتصادية المتزايدة. فمعدل التضخم في فرنسا هو الأعلى في أوروبا، إذ بلغت نسبة الإنفاق العام نحو 58.2% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022. والإنفاق على المزايا الاجتماعية مثل المعاشات التقاعدية وأجور القطاع العام أعلى بأكثر من 10% من نسبته في الدول الأوروبية المجاورة.
أكد صندوق النقد الدولي، في أحدث تقاريره عن الاقتصاد الفرنسي، أن تدابير الإنفاق العاجل التي تلجأ إليها الحكومة الفرنسية في الأزمات، لا يعقبها تخفيض في الإنفاق بعد تجاوز أوقات الشدة، ما أدى إلى "زيادة الدين العام على مدار العقود الأربعة الماضية".
ضربة اقتصادية أخرى لباريس
وتعرَّض اقتصاد فرنسا لضربة أخرى جاءت على أيدي وكالات التصنيف الكبرى. فقد خفضت وكالة "فيتش" في أبريل/نيسان التصنيف الائتماني لفرنسا إلى (AA-)، ووضعتها في التصنيف نفسه مع بريطانيا وجمهورية التشيك وإستونيا. ولم تكتفِ الوكالة بذلك، بل أشارت إلى أنها لا ترى حلاً قريباً لأزمة ارتفاع الدين العام في البلاد، لأن صناع القرار السياسي عاجزون عن كبح جماح الإنفاق.
وقالت "فيتش" في حيثيات خفضها لتصنيف فرنسا الائتماني إن "توقعات اقتراض الحكومة الفرنسية تضع الدين الحكومي العام في مسار تصاعدي ثابت، يصل به إلى نسبة 114.3% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية عام 2027، ما يعني زيادة الدين العام بنحو 17% عما كان عليه قبل جائحة كورونا". وقالت وكالة "ستاندرد آند بورز" الأسبوع الماضي إن فرنسا معرضة لخطر خفض التصنيف قبل نهاية العام، ما قد يزيد تكاليف الاقتراض على البلاد.
هذا التصنيف وتوقعات الأعباء المرتبطة به وضعت فرنسا ضمن مجموعة من البلدان الأوروبية -مثل اليونان وإيطاليا والبرتغال- التي كانت مضطرة منذ وقت قريب إلى الخضوع لعمليات إنقاذ تقشفية، وإملاءات الاتحاد الأوروبي بتقييد الإنفاق. أما الآن، فإن حصة فرنسا من الديون تزداد، في حين تذهب التوقعات إلى أن هذه الدول ستتمكن من تخفيض ديونها بالقياس إلى الناتج المحلي الإجمالي في اقتصادها.
وفي الوقت نفسه، جاءت رسالة صندوق النقد الدولي لباريس أكثر حدة ووضوحاً: إن استمرت البلاد في مسارها الحالي، فسوف يرتفع الدين فوق 120% من الناتج المحلي الإجمالي في 2030، بل سيواصل الارتفاع إلى أجل غير مسمى.
على أثر ذلك، اضطر ماكرون في أبريل/نيسان إلى استخدام سلطات دستورية استثنائية لرفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، لكن قراره قوبل باحتجاجات عارمة. وارتفعت أصوات السياسيين اليساريين الراديكاليين بترديد النشيد الوطني في البرلمان؛ ليحجبوا إعلان رئيسة الوزراء، إليزابيث بورن، عن الإصلاحات.
ومع ذلك، يزعم بعض المراقبين أن الاحتجاجات قد خفتت حدتها بعد ذلك، بل إن بعض الأوساط تقبلت قرار الإصلاحات، إقراراً بواقع الأزمة الاقتصادية، علاوة على صعوبة استمرار الاحتجاجات مع اقتراب العطلة الصيفية.
ما هي نتائج قرارات ماكرون؟
وبحسب الصحيفة البريطانية، أشار بعض الخبراء إلى أن الإصلاحات الفرنسية ساعدت في خفض معدلات البطالة خفضاً كبيراً في السنوات القليلة الماضية. وقال هولجر شميدنغ، كبير الاقتصاديين في بنك بيرنبرغ، إن هناك عاملين قد يساعدان الحكومة في تخفيض الدين العام:
أولاً، تعديل أسعار الغاز والكهرباء لتتماشى مع أسعار السوق. ويشمل ذلك تقليل التدخل الحكومي، ومن ثم تقليص التكلفة التي تدفعها الحكومة للحفاظ على أسعار استهلاك الطاقة عند حدود مقبولة سياسياً وشعبياً.
ثانياً، أن تجربة بعض البلدان -مثل ألمانيا بعد إصلاحات عام 2003- تُظهر أن المفتاح لاستعادة التوازن المالي هو زيادة التوظيف، ومن ثم زيادة الإيرادات بدلاً من خفض الإنفاق، والمقصود هنا أن "زيادة التوظيف يؤدي إلى تنامي القاعدة الضريبية، وهكذا تسير فرنسا على الطريق الصحيح" إلى خفض الدين العام.
في المقابل، يخالف خبراء آخرون هذا الرأي، ويشككون في قدرة فرنسا على اتخاذ هذا المسار، محتجين على ذلك بأن العالم يشهد تزايداً في معدلات الفائدة، وارتفاعاً في تكلفة خدمة الديون.
وفي هذا السياق، أشارت شارلوت دي مونبلييه، كبيرة الاقتصاديين في مؤسسة "أي إن جي" للخدمات المالية، إلى أن الزيادة الأخيرة في تكاليف الاقتراض الفرنسية يُتوقع أن تستمر، إذ "عندما ارتفعت فروق أسعار الفائدة على السندات السيادية ارتفاعاً هائلاً قبل 10 سنوات أثناء أزمة الديون السيادية الأوروبية، كان الشراء الأجنبي للسندات من أبرز العوامل التي أنقذت فرنسا من الانضمام إلى البلدان ذات الديون العالية والعجز الواسع الذي يحول دون الوصول إلى الأسواق".
لكن "هذا الدعم [المتمثل في الشراء الأجنبي للسندات الفرنسية] بدأ يتلاشى، وأحد الأدلة على ذلك أن صافي بيع اليابان للسندات الأجنبية قد تجاوز معدل الشراء العام الماضي. كذلك، فإن البنك المركزي الأوروبي كبح جماح نشاطه في جمع الديون الأوروبية على النحو الذي كان يتبعه في برنامج التسهيل الكمي".
ومع ذلك، فقد استدركت دي مونبلييه بالقول إن "هذا لا يعني أننا نتوقع تكرار الأزمة السيادية لليورو، لكننا نشير إلى أن جهتين من أكبر جهات الإقبال على شراء السندات قد اختفيا [اليابان والبنك المركزي الأوروبي]. وهذا من شأنه أن يجعل الديون السيادية، ومنها ديون فرنسا، أكثر حساسية لتدهور جودة الائتمان".
في تقرير وكالة "ستاندرد آند بورز" عن الاقتصاد الفرنسي، كاد ريمي كاراس، كبير المحللين بالوكالة، أن يتهم الحكومة الفرنسية بالعيش في عالم الأوهام، لكنه أحجم عن ذلك، وقال إن "سجل الإليزيه الضعيف في توحيد الميزانية على مدى خمسة عقود" يتحدث عن نفسه، و"ما زلنا نرى أن المخاطر الواقعة على المالية العامة كبيرة، سواء ما تكشف عنها توقعات الحكومة، أم توقعاتنا. وهذا هو السبب في أننا أبقينا على النظرة السلبية في بياناتنا".
وأضاف فرانك جيل، كبير المديرين في الوكالة إن طموحات فرنسا لخفض الإنفاق على الفوائد تبدو "خجولة" إذا قيست إلى الدول الأخرى. وقال: "إذا نظرت إلى بقية دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية -ما عدا الولايات المتحدة- فلن تجد دولة أخرى في الأسواق المتقدمة تكتفي بهذا التعديل البطيء والمعتدل في الميزانية من الآن وحتى عام 2026". ولذلك نتوقع أن يراقب المستثمرون خطوات ماكرون التالية باهتمام.