على مدار 8 عقود كان الجيش الباكستاني الفاعل الأول والمتحكم الأوحد في البلاد، وكانت المحاكم على وفاقٍ كبيرٍ معه، حيث منحوا موافقتهم القانونية لثلاثة انقلابات عسكرية، واستبعدوا عشرات الساسة الذين فقدوا حظوة الجنرالات، وغضوا الطرف عن اختفاء المعارضين السياسيين، لكن يبدو أن هذا القاعدة بدأت تتغير منذ أزمة رئيس الوزراء السابق عمران خان.
يقول محللون إن القضاء الباكستاني بدأ في معارضة الجيش علناً ليبرز كقوةٍ سياسية في حد ذاته؛ إذ شهدت الأشهر الأخيرة اندلاع الخلاف بين رئيس الوزراء السابق عمران خان وبين الجيش والحكومة المدنية القائمة، بينما أصدرت المحاكم قراراً تلو الآخر لإحباط ما يراها العديدون محاولات من الجيش لإبعاد خان عن السياسة، بحسب تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
وتجلّى ذلك التحدي مطلع الشهر الجاري، بعد وقتٍ قصير من اعتقال السلطات لخان في تحقيق فساد، حيث أعلنت المحاكم أن عملية اعتقاله ليست قانونية، ثم أمرت بالإفراج عنه بكفالة.
هل بدأت مرحلة الخلاف؟
ولا شك أنه تحول صادم داخل باكستان، التي لطالما لعب جيشها دور الوسيط الرئيسي للنفوذ السياسي، وحَكَم البلاد على مدار أكثر من نصف عمرها، ليؤدي دور السلطة المستترة وراء الحكومات المدنية. ومع اتخاذ المحاكم للقرارات من تلقاء نفسها، فقد أضافت المزيد من الشكوك إلى المناخ السياسي المتقلب بالفعل.
إذ قال ياسر قريشي، محاضر دراسات جنوب آسيا في جامعة أكسفورد: "تعتمد الكثير من جوانب السياسة على الجيش. وقد أصبحت المحكمة مركز نفوذٍ في حد ذاتها اليوم، حيث نجحت في تطوير قدرتها على التلاعب بالسياسة وتشكيلها لخدمة مصالحها".
ويقول المحللون إن قرارات المحكمة الأخيرة -التي عززت الفرص السياسية لخان- كانت بمثابة انعكاسٍ لعضلات القضاء الناشئة في السياسة، وكذلك انعكاساً لصورة الجيش الممزقة.
فمنذ الإطاحة به في تصويت برلماني لسحب الثقة العام الماضي، شن خان حملة هجومٍ قوية ضد الجنرالات واتهمهم بالتآمر عليه. وقد حذا أنصاره حذوه بالهجوم على قادة الجيش عبر الشبكات الاجتماعية، قبل اقتحام منشآت عسكرية في الآونة الأخيرة، وهي مشاهد لم يكن ليتصورها أحد من قبل داخل بلد لا يجرؤ الكثير من أبنائه على تحدي المؤسسة الأمنية.
ومع ذلك، فقد حذّر المراقبون من الاحتفاء بأحكام المحاكم الأخيرة على اعتبارها تحولاً نحو سياسات أكثر استقلالية أو ديمقراطية داخل باكستان. حيث يقول العديد من النقاد إن المحاكم لا تتصرف باعتبارها كياناً أكثر استقلالية يحاول كبح تدخلات الجيش، بل هي منغمسة في السياسة بنفسها، بينما يحمل بعض القضاة ولاءً كبيراً للسيد خان.
وقال علي قاسمي، المحاضر في جامعة لاهور للعلوم الإدارية: "يتمتع القضاء بمسحة من الاستقلال الآن، بعد أن أصبح قادراً على احتمال بعض ضغوطات المؤسسة. وفي الوقت ذاته، هناك نزعة واضحة مؤيدة لعمران خان داخل المحاكم أيضاً".
للقضاء نفوذ أيضاً
ويلعب كبار القضاة دوراً حيوياً في التعيينات القضائية داخل باكستان. إذ يقود رئيس المحكمة العليا لجنةً لترشيح القضاة في المحاكم الكبرى والعليا، قبل الموافقة على الترشيحات بواسطة لجنةٍ برلمانية.
وليس نفوذ القضاء قريباً من منافسة نفوذ الجيش حالياً. لكن الأسابيع الأخيرة شهدت استجابةً من القادة العسكريين لقلب الموازين في صالحهم بالقوة مرةً أخرى، مع إظهار هيمنتهم الكاملة على الأوضاع.
حيث أعلن المسؤولون العسكريون في الأسبوع الماضي أن المحتجين الذين هاجموا المنشآت العسكرية -رداً على اعتقال خان- سيُحاكمون أمام المحاكم العسكرية. كما قبضت الشرطة على عددٍ من القادة البارزين في حزب خان، وذلك بعد فترةٍ وجيزة من قرار الإفراج عنه بكفالة. ويقول المراقبون إن هذه الخطوات كانت محاولة من الحكومة لتخويف أنصار خان، وإظهار أن المحاكم لن تستطيع حمايتهم بمفردها.
ولطالما كان قضاء البلاد بمثابة شريكٍ أصغر للجيش طوال الشطر الأعظم من تاريخ باكستان المضطرب، بل وكان أداةً لإضفاء الشرعية على صولات الجيش المباشرة في عالم السياسة. إذ قدّم القضاء تبريراً قانونياً لاستيلاء جنرالات الجيش على سلطة الحكومة المدنية في أعوام 1958، و1977، و1999. كما وفروا غطاءً قانونياً عندما أقال الجيش حكومتين لرئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو في التسعينيات، بحسب الصحيفة الأمريكية.
وخلال العقد التالي، بدأ رئيس قضاة المحكمة العليا في تحدي طريقة استغلال الدولة لسلطتها. فأصدر الحاكم العسكري للبلاد، الجنرال برويز مشرف، قراراً بإيقاف القاضي عن عمله. لكن الخطوة أثارت السخط بطول البلاد وتسببت في إطلاق حركة وطنية لدعم القاضي، الذي أُعيد إلى منصبه في النهاية.
وكان يبدو أن مصالح المحاكم والجيش متداخلة آنذاك. ثم انطلقت المحاكم في حملة لاجتذاذ جذور الفساد المترسخ بين العائلات السياسية الباكستانية، بالتزامن مع فقدان تلك العائلات لحظوة قادة الجيش، وبدافع فكرة الدفاع عن مصالح الشعب. وساعدت المحاكم بتلك الخطوة في تمهيد الطريق أمام خان ليفوز بانتخابات 2018، بعد أن قاد حملته الانتخابية كمحاربٍ للفساد وكان يحظى بدعم الجيش.
الخلاف بين العسكريين والقضاة
وقال ساروب إيجاز، مستشار منظمة هيومن رايتس ووتش: "لقد حدث شيئان معاً في وقتٍ واحد، أولهما أن المحكمة صارت أكثر قوة"، بعد الحركة الشعبية المطالبة بإعادة رئيس القضاة المعزول. ثم أردف: "أما الشيء الثاني فهو أن الجيش أدرك أن المحكمة القوية ستكون شريكاً رائعاً للتأثير على النتائج السياسية، من أجل عزل رؤساء الوزراء دون تدخل عسكري مباشر".
ويقول المحللون إن العديد من القضاة حافظوا على نظرتهم لخان باعتباره شريكهم في حملة التطهير من الفساد، رغم أن قادة الجيش بدأوا يسحبون دعمهم لخان في مطلع العام الماضي على ما يبدو.
وظهر الخلاف المتزايد بين الجيش والمحاكم في أبريل/نيسان. إذ قضت المحكمة العليا، برئاسة عمر عطا بنديال، بعدم دستورية محاولة الحكومة لتأجيل الانتخابات المحلية في إقليمين، وبينهما إقليم البنجاب الأكبر من حيث السكان في البلاد. وكان الحكم الصادر آنذاك يُعتبر على نطاقٍ واسع بمثابة هديةٍ لحزب خان السياسي، وهو حزب حركة الإنصاف الباكستانية.
وبعد شهرٍ واحد، أمرت المحكمة العليا بالإفراج عن خان، وسرعان ما منحته محكمة إسلام أباد العليا كفالة استباقية في مختلف قضايا الفساد التي يواجهها.
ويقول أنصار خان إن خصومه يحاولون اعتقاله حتى يمنعوه من النزول إلى الشوارع وتعبئة الدعم لحزبه، وذلك قبيل الانتخابات العامة المقررة الخريف الجاري.
وقد حاولت حكومة شريف أن تكبح سلطات السيد بنديال بالفعل، بعد اتهامه بالانحياز السياسي لخان.
وفي مارس/آذار، مرر البرلمان الباكستاني قانوناً جديداً لتقييد صلاحيات رئيس المحكمة العليا، مع منح الصلاحيات الخاصة به للجنة من ثلاثة قضاة. لكن المحكمة العليا أصدرت أمراً قضائياً في اليوم نفسه لمنع تطبيق القانون الجديد.
وبهذا أظهرت المحكمة أنها قد تكون محدودة السلطات وعاجزةً عن إنفاذ أحكامها، لكنها تظل قوةً لا يُستهان بها بالتزامن مع اتجاه البلاد نحو الانتخابات العامة الخريف المقبل، وفقاً للمحللين.
إذ قال قريشي إن حركة المشهد الجديدة "تغير قواعد اللعبة، وتغير أسلوب المساومة السياسية مع تلك المؤسسات غير المنتخبة".