أثارت الهجمات التي استهدفت موسكو ردود أفعال غاضبة في روسيا ومبتهجة في أوكرانيا ومتحفظة في الغرب، فماذا تعني تلك الهجمات لمسار الحرب؟
كانت العاصمة الروسية موسكو قد تعرضت لوابل من هجمات الطائرات المُسيّرة، في ساعة مبكرة من صباح الثلاثاء 30 مايو/أيار، في أكبر موجة هجمات شُنت داخل الأراضي الروسية منذ أن بدأت روسيا هجومها على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر".
وتناول تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية قصة تلك الهجمات وتأثيرها المتوقع على مسار الحرب في أوكرانيا، فمن يقف وراءها؟ وكيف وصلت إلى العاصمة الروسية؟
ما نوع الطائرات المُسيَّرة المشاركة في هجوم موسكو؟
قالت السلطات الروسية ووسائل الإعلام المحلية إن ثماني طائرات مسيَّرة شاركت في الهجوم، وقد تمكنت روسيا من إسقاط خمس طائرات أو تعطيلها باستخدام تقنيات التشويش. لكن وسائل إعلام روسية مقربة من الأجهزة الأمنية قالت إن عدد الطائرات الُمسيرة المشاركة في الهجوم كان أضعاف ذلك؛ إذ شاركت أكثر من 30 طائرة مسيرة.
وأصابت الطائرات الثلاث التي قصفت مواقع في جنوب غرب موسكو: مبنى سكنياً، وبرجاً سكنياً شاهقاً، وناطحةَ سحاب. ولم تتسبب أي من تلك الهجمات في خسائر كبيرة أو إصابات.
ذهبت بعض التكهنات إلى أن إحدى الطائرات المُسيّرة المشاركة في الهجوم كانت من طراز "يو جيه 22" UJ-22 التي تنتجها شركة "أوكرجيت" Ukrjet الأوكرانية، والتي تزعم روسيا أنها شاركت في هجوم سابق على الأقل. ومع ذلك، يخالف خبراء آخرون هذا الرأي، ويقولون إن طائرات هذا الهجوم كانت من طراز مختلف، مستدلين على ذلك باختلافات في الهيئة الخارجية لطرازي الطائرات.
لكن الواضح أن الطائرة المسيَّرة التي رُصدت في هذا الهجوم من الطائرات ذات المدى الطويل نسبياً، وإن لم يُعرف بعد ما إذا كانت انطلقت من داخل روسيا أم من أوكرانيا نفسها.
من الجدير بالذكر أن طائرات "يو جيه 22" قادرة على الإقلاع والهبوط على مهبط للطائرات يبلغ ارتفاعه 100 متر، ويبلغ مدى تحليقها 800 كيلومتر، ويمكنها الطيران مدة ست ساعات بحمولةٍ تصل إلى حوالي 20 كيلوغراماً، وعادةً ما تتكون حمولتها من القاذفات وقنابل الهاون (تصل إلى ست قاذفات من طراز "آر بي جي 7 في إم" RPG-7VM، أو أربع قنابل هاون من عيار 82 ملم).
ما مدى خطورة هذه الطائرات المسيَّرة؟
تدل صور الأضرار على أن الحمولة التفجيرية كانت أصغر بكثير من حمولة طائرات "شاهد" الانتحارية المسيَّرة الإيرانية التي استعملتها روسيا ضد أوكرانيا؛ ما يشير إلى أن أوكرانيا ليست قادرة بعد على استخدام طائرات مُسيرة أشد تدميراً أو أنها اختارت عدم القيام بذلك إلى الآن.
هل أصبحت هجمات أوكرانيا أكثر طموحاً في أهدافها؟
شنَّت أوكرانيا عدة هجمات بطائرات مسيَّرة على الأراضي الروسية والأراضي التي تسيطر عليها روسيا في أوكرانيا منذ بداية العام الجاري. لكن معظم هذه الهجمات ركزت على مناطق قريبة نسبياً من الحدود أو على البنية التحتية الروسية ومنشآت الإمداد في المناطق المحتلة، مثل مصافي النفط التي تعرضت حديثاً لمجموعة من الهجمات.
ومع ذلك، فإن أحدث الهجمات التي شنتها كييف غلب عليها نمط مختلف عن سابقاتها، وهو السعي إلى ضرب أهداف في عمق روسيا بالطائرات المسيَّرة.
ففي فبراير/شباط 2023، تحطمت طائرة أوكرانية من طراز "يو جيه 22" في روسيا على بعد 100 كيلومتر من موسكو بعد أن تمكنت من التحليق مسافة 460 كيلومتراً داخل الأراضي الروسية دون أن تدمرها الدفاعات الجوية الروسية. وفي مايو/أيار، تعرض الكرملين لغارتين بطائرات مسيَّرة تسببت في بعض الأضرار الخارجية المحدودة.
هل من المؤكد أن أوكرانيا وراء هذه الهجمات؟
بعد بضعة أسابيع من الهجمات على الكرملين، ذكرت صحيفة The New York Times الأمريكية أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية خلُصت إلى أن أجهزة الاستخبارات الأوكرانية هي من أصدرت الأوامر بشن هذه الضربات، لكنها لم تقف على أدلة حاسمة بشأن ما إذا كانت هذه الأوامر صدرت في الأصل عن كبار مسؤولي الحكومة الأوكرانية أم لا. وقد أشارت الصحيفة إلى أن هذا الأمر قد أثار مخاوف بين بعض المسؤولين في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من أن الحرب قد تتدرج إلى تصعيد عسكري خارج حدود أوكرانيا.
وهذه المرة أيضاً، سارعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى نفي أي علاقة لها بالهجوم على موسكو، وأكدت أن الدعم الذي تقدمه لأوكرانيا يهدف فقط إلى مساعدة كييف على استعادة أراضيها التي تقع تحت السيطرة الروسية؛ إذ قال متحدث أمريكي، في بيان، إن واشنطن "تركز على تزويد أوكرانيا بالعتاد والتدريب الذي تحتاجه لاستعادة السيادة على أراضيها".
وقال البيت الأبيض إنه لا يزال يجمع معلومات حول التقارير عن تنفيذ طائرات مسيرة لضربات في موسكو، مجدداً التأكيد على أن واشنطن لا تدعم الهجمات داخل روسيا.
لماذا هذه الهجمات ضد روسيا الآن؟
يتوافق بعض هذه الهجمات مع ما يُعرف عسكرياً بعمليات التهيئة (Shaping operations) قبل الهجوم المضاد الأوكراني المتوقع -والتي تشمل استهداف البنية التحتية وخطوط الإمداد اللوجستية- لكن يبدو أن هذه الهجمات تهدف في أغلبها إلى إحداث تأثير نفسي والحطِّ من عزيمة الروس، لا سيما أن كثيراً من الناس في روسيا -خاصة النخب الروسية الثرية في موسكو وسان بطرسبرغ- كانت بعيدة عن تأثيرات الحرب على عموم الناس، وما تعرض له الروس في المناطق النائية من تجنيد إجباري والتعبئة إلى جبهات القتال.
ومن ثم، يبدو أن الهجمات الأوكرانية تسعى إلى إدخال العاصمة الروسية في غمار الحرب، وإثبات قدرة أوكرانيا على تجاوز الدفاعات الجوية الروسية على نحو متكرر، وأنها قادرة على ضرب الأهداف في عمق الأراضي الروسية.
ولم تكن تلك الرسالة غائبة عن رد فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ إذ قال إن أوكرانيا نفذت أكبر هجوم بالطائرات المسيرة على موسكو في محاولة لترويع روسيا واستفزازها وإنه سيتم تعزيز الدفاعات الجوية حول العاصمة الروسية، مضيفاً أن أوكرانيا اختارت طريق محاولة "ترهيب روسيا والمواطنين الروس والهجمات على المباني السكنية".
الدفاعات الجوية الروسية
من جهة أخرى، قالت وكالة The Associated Press الأمريكية في تقريرها إن الهجوم الأوكراني على موسكو كشف عن وجود ثغرات فاضحة في الدفاعات الجوية الروسية، وبرهن على ضعف دفاعات العاصمة، لا سيما في وقت تزايدت فيه الهجمات على الأراضي الروسية وسط توقعات باقتراب موعد الهجوم المضاد الأوكراني.
وذكرت الوكالة الأمريكية أن الهجوم أثار غضب القوميين المتشددين الروس، الذين انتقدوا بشدة رئيس البلاد فلاديمير بوتين والقادة العسكريين لعجزهم عن حماية الكرملين ذاته، رغم وقوعه على بُعد أكثر من 500 كيلومتر من خطوط المواجهة مع أوكرانيا.
إذ وصف النائب الروسي مكسيم إيفانوف الهجوم بأنه أخطر هجوم على موسكو منذ غزو ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، قائلاً إنه لا يوجد روسي يمكنه الآن تجنب "الواقع الجديد". وقال النائب الروسي ألكسندر خينشتاين، الذي دعا إلى تطوير جذري للدفاعات: "ستزداد أعمال التخريب والهجمات الإرهابية التي تنفذها أوكرانيا… لا يجب التقليل من شأن العدو!".
على الجانب الآخر، ابتهجت السلطات الأوكرانية بأخبار الهجوم، لكنها تجنبت كالعادة إعلان المسؤولية عنها. ونشر ميخايلو بودولياك، مستشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، تغريدة ساخرة على موقع https://twitter.com/Podolyak_M/status/1663474229986074624
" class="rank-math-link">تويتر، قال فيها إن "حتى الذكاء الاصطناعي أذكى فكراً وأبعد نظراً من القيادة العسكرية والسياسية الروسية".كان الجيش الروسي قد شن قصفاً مكثفاً على العاصمة الأوكرانية كييف ومدن أخرى بصواريخ كروز وطائرات مسيَّرة على مدى الليالي الثلاث الماضية، وهو ما يشير إلى زيادة كبيرة في وتيرة هذه الهجمات التي تشنها القوات الروسية مراراً منذ أكتوبر/تشرين الأول.
ونقلت الوكالة الأمريكية عن خبراء عسكريين قولهم إن الطائرات المسيرة المستخدمة في الهجوم كانت بدائية التركيب ورخيصة عن غيرها، ولكن مداها يمكن أن يصل إلى 1000 كيلومتر، وتوقعوا أن هذه الهجمات سيتبعها المزيد.
وأشار مارك كانسيان، كبير المستشارين في برنامج الأمن الدولي التابع لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إلى أن بعض الأسباب وراء تمكن الطائرات المسيَّرة من الوصول إلى موسكو دون أن يتم اكتشافها يرجع إلى أن الدفاعات الجوية الروسية تركز في الغالب على التصدي للهجمات الناشئة عن أسلحة أكثر تعقيداً.
وقال كانسيان لوكالة The Associated Press: "هذه الدفاعات تركز على التصدي لهجمات الصواريخ المواجهة، والصواريخ الباليستية، والصواريخ ذات المدى البعيد، والمقاتلات، والقاذفات، وهي أقل اعتناء بالتصدي للطائرات المسيَّرة قصيرة المدى، التي قد تحلّق على ارتفاع منخفض جداً"، و"الدفاع الجوي الروسي ليس مصمماً لمواجهة مثل هذه الهجمات".
ويرى كانسيان أن الجيش الروسي سينقل بعض أنظمة دفاعه الجوية من خط المواجهة للمساعدة في حماية موسكو، وهي خطوة من شأنها إضعاف القوات الروسية في مواجهة الهجوم المضاد الأوكراني المحتمل. و"هذا أمر حسن للأوكرانيين، فالروس سيسحبون هذه الأنظمة إلى مناطق أخرى بعيداً عن وحدات الخطوط الأمامية".
كما أثار صمت الكرملين غضب بعض المراقبين الروس المتشددين والمدونين العسكريين في موسكو. فكتب يفغيني بريغوجين، قائد مجموعة مرتزقة فاغنر الروسية، منشورات وبَّخ فيها القيادة العسكرية ووصف كبار القادة العسكريين الروس بأنهم "حثالة" و"خنازير" عاجزين عن حماية موسكو.
وقال بريغوجين، في بيانٍ أصدره مكتبه: "وزارة الدفاع لم تفعل شيئاً للرد على الهجمات"، "كيف تجرؤون على السماح للطائرات المسيَّرة بالوصول إلى موسكو؟".
وحثَّ رمضان قديروف، رئيس الشيشان المقرب من موسكو، الكرملين على إعلان الأحكام العرفية في جميع أنحاء البلاد، واستخدام جميع موارده في أوكرانيا "للقضاء على تلك العصابة الإرهابية".
في المقابل، أشار بعض المعنيين بشؤون الكرملين إلى أن رد بوتين الهادئ، واستجابته المختلفة عن التصريحات الغاضبة من المتشددين الروس، تدل على أنه يرى أن الناس في روسيا لن يزعجهم الهجوم كثيراً.
وقالت تاتيانا ستانوفايا، من مؤسسة كارنيغي، في تعليق: "لقد تحدث بوتين مراراً عن صبر الشعب الروسي الرائع ورباطة جأشه"، ويبدو أنه "لا يرى أن هذا الهجوم يمكن أن يثير استياء الرأي العام من الحكومة"، حتى وإن أظهر السلطات الروسية في صورة السلطة "المحرجة والعاجزة"، لأنه يرى أن هذه الهجمات تخدم خطته الرامية إلى إطالة أمد الصراع.
وقال جيمس نيكسي، مدير برنامج روسيا وأوراسيا في "تشاتام هاوس" الأمريكية، إن هجوم الثلاثاء يدل على عزم أوكراني متزايد على شن ضربات في عمق روسيا، وتوقع المزيد من الهجمات. وأشار نيكسي إلى أنه على الرغم من صخب الدعوات الروسية للانتقام، فإن الجيش الروسي لا يمكنه أن يفعل أكثر بكثير مما كان يفعل منذ بدء الحرب.
وذهب نيكسي إلى أن روسيا لديها حدود تقيِّدها فيما يمكنها القيام به، فهي لديها قيود على الأفراد العاملين بالخدمة العسكرية؛ وقيود على مواردها المالية؛ وقيود على ذخائرها المدفعية، والصواريخ، والطائرات المسيَّرة، وكل شيء. وهم "يبذلون بالفعل كل جهودهم، وكل أموالهم، وكل مخزوناتهم، ودمائهم لكي يستمروا في حربهم على أوكرانيا".