الصين وأمريكا وصراع الكبار.. هل تراجع التبادل التجاري بين العملاقين فعلاً؟ كلا، وهذه هي الحقيقة

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2023/05/28 الساعة 12:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/05/29 الساعة 04:46 بتوقيت غرينتش
الرئيسان الأمريكي جو بايدن، ونظيره الصيني شي جين بينغ- رويترز

الصراع بين أمريكا والصين تحوّل إلى حرب باردة معلنة، فهل تأثر حجم التبادل التجاري بين أكبر اقتصادين في العالم؟ كلا، فالأرقام تُظهر قصة مختلفة تفاصيلها في هذا التقرير.

ونشرت مجلة Foreign Affairs الأمريكية تقريراً يرصد كيف أن العلاقة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين تتغير بالفعل، لكنها لن تتلاشى أو تنقطع تماماً لأسباب متعددة، رغم أن كثيرين في قاعات مجالس الإدارة والأجنحة التنفيذية يخشون من أن تمزقاً شاملاً في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة قد صار حتمياً. فوفقاً لاستطلاع أجرته شركة WTW للتأمين عام 2023، توقع أكثر من 40% من الشركات المستطلعة آراؤها أن الانفصال الاقتصادي بين أكبر اقتصادين في العالم "سيتعزز" عام 2023، ارتفاعاً عن أقل من 15% عام 2022.

وحاولت إدارة بايدن تهدئة هذه المخاوف مؤخراً، ففي خطاب ألقاه مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، في أبريل/نيسان عن السياسة الاقتصادية، أوضح أن الولايات المتحدة تسعى إلى "تحجيم المخاطر، وليس القطع التام".

ما الذي تريد إدارة بايدن تحقيقه؟

تطمح استراتيجية تحجيم المخاطر إلى تحقيق 3 أهداف شاملة: الحد من قدرات الصين في القطاعات الاستراتيجية التي لها آثار على الأمن القومي، مثل أشباه الموصلات المتطورة وغيرها من التقنيات المتقدمة؛ والحد من نفوذ بكين على الغرب بوقف الهيمنة الصينية على السوق في بعض المنتجات الأساسية، مثل المعادن الحيوية؛ وتنويع تعاملات الشركات الاقتصادية لتقليل التكاليف المحتمَلة لأي اضطراب مفاجئ في التجارة بين الصين والغرب.

هذه بطبيعة الحال وجهة النظر الأمريكية، التي لا تحظى بإجماع غربي، كما اتضح مؤخراً خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بكين، حيث قال إن الدول الأوروبية ليست طرفاً في الصراع بين واشنطن وبكين، وهو ما أغضب قادة واشنطن بطبيعة الحال.

الصين أمريكا
الصين وأمريكا وحرب الرقائق الإلكترونية، تعبيرية/

لكن على أية حال، تؤكد البيانات أن الولايات المتحدة تسعى بدأب لتحقيق أهدافها دون التسبب في قطع جميع العلاقات الاقتصادية مع الصين، والدليل أنه لم يحدث قطع شامل للعلاقات الاقتصادية حتى الآن. ورغم تراجع الاستثمارات المباشرة في كلا الاتجاهين، سجلت تجارة السلع بين الولايات المتحدة والصين أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 690 مليار دولار خلال العام الماضي (2022).

على أن الكثير من المحللين يشككون في إمكانية نجاح نهج تحجيم المخاطر، بل يخشى آخرون من ألا تختلف نتيجة هذا التحجيم للمخاطر عن نتيجة قطع العلاقات.

الصين وأمريكا.. الحرب التجارية

كانت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين قد بدأت في التوتر خلال أغلب فترات حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي شنّ حرباً تجارية شرسة ضد بكين، لكن ذلك لم يمنع التنين من أن يصبح القوة الاقتصادية الأولى عالمياً، بينما يعاني الاقتصاد الأمريكي بشدة من التضخم، بفعل تداعيات جائحة كورونا، ثم حرب روسيا في أوكرانيا، وهو ما يحدّ من قدرة واشنطن على استخدام المساعدات الاقتصادية كورقة ضغط كما كان الحال سابقاً، عكس بكين.

ويعود تاريخ تحجيم المخاطر أو تقييد المعاملات التجارية مع الصين إلى إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي عرف إعلامياً بالحرب التجارية. فرغم فشل ترامب في تقليل العجز التجاري بين الولايات المتحدة والصين، فإن التعريفات الجمركية التي فرضتها إدارته على السلع الصينية تسببت في تغيير وجه التدفقات التجارية الثنائية، وأرسلت إشارة قوية إلى الشركات الأمريكية بأن عصر التجارة غير المقيدة مع الصين قد انتهى. وأكدت سياسات ترامب للرئيس الصيني، شي جين بينغ، أن بكين لم يعد بإمكانها الاعتماد على التدفق الحر لرأس المال والتجارة الأمريكية.

وأضافت إدارة بايدن بعداً استراتيجياً لسياسة تحجيم المخاطر، تمثلت في إحباط تقدم الصين في القطاعات الإستراتيجية، التي تقول واشنطن إنها مرتبطة بالأمن القومي، وزيادة قوة سلسلة التوريد (بالتشجيع على إقامة المصانع داخل الولايات المتحدة والدول الصديقة)، وتقليل اعتماد الولايات المتحدة على الصين في السلع الحيوية.

أصبح الصراع الجيوسياسي بين أمريكا والصين مفتوحاً على مصراعيه، وبعد أن سعت إدارة جو بايدن إلى الإضرار بالنمو الصيني من خلال "حظر" أشباه الموصلات المتقدمة، رصدت بكين تريليون يوان (143 مليار دولار) للرد بعنف.

فالصين وأمريكا هما الآن القوتان العظميان على المسرح الدولي، والحرب الباردة بينهما أصبحت حاضرة وليست مجرد توقعات، ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا والتحالف الوثيق بين موسكو وبكين، لم يعد هناك شك في سعي الولايات المتحدة إلى "احتواء" التنين الصيني.

ترامب
الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب / رويترز

وكانت صحيفة الغارديان البريطانية قد نشرت تحليلاً عنوانه "كيف يمكن منع وقوع حرب بين الولايات المتحدة والصين؟"، رصد كيف أن اندلاع حرب بين القوتين، بسبب أزمة تايوان بالأساس، قد أصبح احتمالاً حقيقياً، مما يشير إلى أن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين يمكن وصفه بسنوات الخطر.

ومع تولّي جو بايدن المسؤولية، وحديثه المتكرر بأن "أمريكا عادت لقيادة العالم"، أصبحت "المنافسة" علنيةً بين بكين وواشنطن، وأصبحت الحرب الباردة بينهما أمراً واقعاً، ليعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ أن الوقت قد حان لنظام عالمي جديد، ليحل محل النظام القديم أحادي القطبية، أو بمعنى آخَر النظام الذي تقوده أمريكا وتهيمن عليه.

وسعى ترامب إلى أن يُلحق بالصين جروحاً غائرةً من خلال حربه التجارية، لكن تلك الحرب لم تكن فعالة، وبعد نحو عامين من دخوله البيت الأبيض بدا أن جو بايدن قد وجد السلاح الذي قد يكون فتاكاً ويعيق بكين بالفعل، بحسب تقرير سابق لمجلة Foreign Policy الأمريكية، عنوانه "بايدن يعزل الصين عن الرقائق الإلكترونية".

وبالتالي، فإن جهود إدارة بايدن عبارة عن مزيج من سياسة العصا والجزرة، فاشتملت على قيود غير مسبوقة على تصدير التكنولوجيا المتقدمة، والتخطيط لإطلاق آلية فحص للاستثمارات الأمريكية في شركات التكنولوجيا الصينية، وسياسات صناعية تشجع على نقل التصنيع والتوريد إلى الولايات المتحدة والدول الحليفة لها.

هل تأثرت التجارة مع الصين؟

رغم هذه التحولات الحيوية، لا تظهر علامات تحجيم المخاطرة (فضلاً عن قطع العلاقات) في البيانات للوهلة الأولى. إذ وصل حجم التجارة الأمريكية الصينية في السلع إلى مستوى قياسي عام 2022، ولا تزال الصين ثالث أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة بعد كندا والمكسيك، حيث تمثل ما يقرب من 20% من إجمالي واردات السلع الأمريكية.

لكن نظرة أكثر قرباً على البيانات تظهر ما هو أكثر تعقيداً. إذ إن جزءاً كبيراً من الزيادة في التجارة الأمريكية الصينية عام 2022 يرجع إلى تضخم الأسعار. ووجد تشاد باون ويلين وانغ من معهد بيترسون للاقتصاد الدولي أن التجارة الإجمالية بين البلدين تنمو بسرعة أقل بكثير من التجارة الأمريكية أو الصينية مع الشركاء الآخرين.

وكانت الصادرات الأمريكية إلى الصين عام 2022 أقل بنسبة 23% من المستويات المتوقعة "لو أنها نمت بنفس معدل واردات الصين من العالم" بين عامي 2018 و2022، وفقاً لباون ووانغ.

على سبيل المثال، انخفضت صادرات الولايات المتحدة من أشباه الموصلات ومعدات تصنيع أشباه الموصلات انخفاضاً كبيراً عام 2022، حتى قبل أن تدخل قيود التصدير الأمريكية الجديدة على أشباه الموصلات حيز التنفيذ في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وفي الوقت نفسه، ارتفعت القيمة الاسمية للصادرات الزراعية الأمريكية إلى الصين (فول الصويا تحديداً)، مدفوعة بارتفاع الأسعار الناتج عن حرب أوكرانيا.

وتسري القصة نفسها على واردات الولايات المتحدة من الصين. ففي الوقت الحالي، ارتفعت واردات الولايات المتحدة من بقية العالم بنسبة 38% عما كانت عليه في يونيو/حزيران عام 2018، حين دخلت تعريفات ترامب حيز التنفيذ، في حين ارتفعت الواردات من الصين بنسبة 7% فقط عما كانت عليه في يونيو/حزيران عام 2018، وانخفضت بنسبة 18% عن اتجاه ما قبل الحرب التجارية. 

قانون التقاعد ماكرون احتجاجات فرنسا
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون/رويترز

وكان لسياسة تحجيم المخاطر أبلغ الأثر على الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين. إذ تراجعت بنحو النصف عام 2022 حين ابتعدت الشركات عن البلاد بسبب إغلاق كوفيد-19 والقلق من المخاطر الجيوسياسية. ويروي وكلاء آخرون للاستثمار الأجنبي المباشر قصة مماثلة. فوفقاً لمجموعة Rhodium Group، تراجعت "الاستثمارات الأجنبية في مجالات جديدة"- في المصانع والمنشآت الجديدة مثلاً- في الصين إلى أدنى مستوى لها منذ 20 عاماً، وانخفضت عمليات الاستحواذ الخارجية للشركات الصينية إلى أدنى مستوى لها في 10 سنوات.

لكن شركات كثيرة ترى أن السوق الصينية أكبر وأثمن من هجرها، رغم  المخاطر الجيوسياسية. إذ تمثل الصين خمس الناتج المحلي الإجمالي العالمي ولديها فئة مستهلكين من 900 مليون شخص. ومزيجها الفريد من استثمارات البنية التحتية ورأس المال البشري ونظام التوريد جعل منها قوة تصنيعية. لذلك فسياسة تحجيم المخاطر تقتضي التضحية بالإيرادات والكفاءة، والقطع الكامل للعلاقات لن يكون خياراً عملياً.

كيف تتأثر الشركات الأمريكية؟

في غياب حدث جيوسياسي كبير، لن تضعف العلاقة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين بشكل ملحوظ خلال العقد المقبل. لكنها ستتغير بدرجة كبيرة نتيجة سياسة تحجيم المخاطر. ومن المرجح أن تكون المكونات الرئيسية (مثل أشباه الموصلات) والتكنولوجيا الناشئة (مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية) الأكثر تأثراً، إذ تسعى كل من الولايات المتحدة والصين إلى القيادة في هذين المجالين والحد من الاعتماد على بعضهما.

وقد يتحول فرض قيود أكثر قوة إلى منحدر زلق: فرغم تركيز قيود التصدير على الرقائق المتقدمة، قد تتعرض مشروعات شركات تصميم أشباه الموصلات والآلات الأمريكية في الصين للانهيار إذا أسست الصين نظام أشباه الموصلات محلي للحد من الاعتماد على التكنولوجيا الغربية.

وستؤثر سياسة تحجيم المخاطر على الطاقة النظيفة أيضاً. فالصين موطن 77% من قدرة تصنيع بطاريات الليثيوم أيون العالمية وتهيمن على 80% من مراحل تصنيع الألواح الشمسية. والصين رائدة عالمياً أيضاً في معالجة المعادن الحيوية والضرورية للتكنولوجيا النظيفة، وفي تكرير أكثر من نصف الليثيوم والنيكل والكوبالت. وحوافز مئات المليارات من الدولارات التي أقرها قانون خفض التضخم- إلى جانب إعانات صداقة البيئة المقدمة من الاتحاد الأوروبي- ستقلل من اعتماد الغرب على الصين في هذه المكونات، لكن عملية كهذه ستستغرق عقوداً. فمثلاً، يستغرق مشروع تحديد مواقع تعدين ما بين 5 و15 عاماً لتحقيق أي عائد. 

وبعض المجالات، مثل التكنولوجيا والسلع الاستهلاكية، ستعتمد على الصين باعتبارها سوق رئيسي لفترة أطول من ذلك. وقد يتحول كثيرون عن الصين في التصنيع، لكنهم سيستمرون في الاعتماد عليها. وقد تشهد قطاعات أخرى تحولاً طفيفاً جرّاء سياسة تحجيم المخاطر. إذ ستواصل العلامات التجارية الفاخرة الاستثمار بكثافة في الصين، التي تمثل ما يقرب من 20% من الإنفاق العالمي على الرفاهية. وسيستمر مقدمو السلع والخدمات الصناعية، مثل شركات الكيماويات، في دعم الصناعة الصينية. وستستمر العلامات التجارية الاستهلاكية التي يمكنها البيع في أكبر سوق استهلاكي في العالم في ذلك، رغم أن بعض العلامات التجارية الاستهلاكية الغربية في البيع بالتجزئة والملابس منخفضة القيمة قد يستحوذ على حصتها في السوق منافسون محليون.

الصين
أحد متاجر أبل في الصين – تعبيرية / iStock

قد يكون المحرك الأساسي وراء تحجيم المخاطر هو القطاع الخاص، لكن السياسة العامة ستساهم بدور حيوي في تشكيل المحصلة النهائية. وكي تنجح الولايات المتحدة في تحجيم الأخطار المحتمَلة، فعليها إقناع حلفائها وشركائها باتباع استراتيجية مشتركة. وكان بيان مجموعة الدول السبع الصادر في مايو/أيار الذي أيّد تحجيم المخاطر خطوة أولى جيدة. وقيود التصدير وقيود الاستثمار والإعانات ستزداد قوة في حال تنفيذها على يد جبهة أوروبية أمريكية مشتركة.

ورغم أن إدارة بايدن بادرت بفرض قيود على التصدير والسياسات الصناعية بهدف دعم الإنتاج المحلي، ظهرت انقسامات بين الولايات المتحدة وأوروبا، وهي انقسامات تستغلها بكين ببراعة في مسعاها لعزل واشنطن عن شركائها. وسيوفر برنامج غربي مشترك لتحجيم المخاطر نهجاً أكثر تنسيقاً وتوازناً وفعالية للمنافسة مع الصين عوضاً عن خوض الولايات المتحدة السابق بمفردها. وقد يسهم أيضاً في تعزيز أسس تحالف أقوى عبر الأطلسي عوضاً عن تقويضها.

تحميل المزيد