"العمال يدمّرون ماكينات المصانع بعد أن تسببت في طردهم من العمل"، يبدو أن هذه المأساة التي وقعت قبل 200 عام مهددة بالتكرار بسبب تأثير الذكاء الاصطناعي على الوظائف.
في أوائل القرن التاسع عشر، اشتدت الحال على الناس في إنجلترا، فقد دمرت الحروب النابليونية اقتصاد البلاد. وبدأ أصحاب مصانع النسيج الأثرياء في استبدال الحرفيين المهرة، والاعتماد بدلاً منهم على الماكينات الآلية لإنتاج السلع.
وفي الوقت نفسه، قاوم العمال ذلك التحول بكل ما يملكونه من قوة، فداهموا المصانع وخرّبوا الآلات، فيما أصبح يُعرف بعد ذلك باسم "الحركة اللاضية" (Luddite Movement)، التي سُميت على اسم نيد لود، الزعيم المفترض لهذه الغارات.
اليوم، صار لقب "اللاضيين" يُطلق على العمال الرافضين لتقنيات الأتمتة الجديدة، والصراع هذه المرة نشأ في سياق الرد على الطفرة الحادثة في استخدام الذكاء الاصطناعي وتقنياته، حسبما ورد في تقرير موقع The Daily Beast الأمريكي.
الشركات تستعين بالذكاء الاصطناعي دون النظر لتأثيره على العمال
منذ إصدار تطبيق ChatGPT للذكاء الاصطناعي أواخر العام الماضي، رأينا ترحيباً كبيراً بهذه التقنيات على أساس أنها منعطف تحول في عالم التكنولوجيا، وطفرة لم نشهد مثلها منذ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت عموماً.
وسرعان ما بدأت شركات تكنولوجية كبرى باستثمار مليارات الدولارات في مشروعات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وبادرت شركات أخرى إلى الاستعانة بهذه التقنيات، دون النظر في أضرار ذلك على العمال. أما النقابات العمالية والنشطاء، فقد فوجئوا بهذه التداعيات، وهم الآن يبذلون قصارى جهدهم للرد قبل فوات الأوان.
ولعل أبرز مثال على ذلك هو إضراب "نقابة الكتاب الأمريكية" الذي بدأ في أبريل/نيسان، بعد خلافات مع تحالف منتجي الصور المتحركة والبرامج التلفزيونية. فقد تضمنت مطالب الكتّاب دعوة إدارات البرامج إلى "تنظيم استخدام المواد المنتَجة باستخدام الذكاء الاصطناعي والتقنيات المماثلة".
في هذا السياق، قالت إليزابيث شيرمر، الأستاذ المشارك بقسم التاريخ (مع اعتناء خاص بتاريخ الحركات الحقوقية للعمال) في جامعة لويولا الأمريكية، لموقع The Daily Beast: "أعجبني أن نقابة الكتّاب بدأت في الحديث علناً عن الأمر، ومناقشته جهراً، ومواجهة الناس بآثاره. فالكشف عن التأثيرات الناشئة [عن الأتمتة] في الصناعة أمر أساسي" في سبيل التعامل معها.
موجات تسريح بسبب الذكاء الاصطناعي التوليدي
ليست نقابة الكتّاب وحدها التي تقاوم الاعتماد على الذكاء الاصطناعي بديلاً عن الموظفين والعمال. فقد شهدت عدة شركات إعلامية -مثل موقع الوسائط التعليمية "سي نت" CNET، وشركة الأخبار الاجتماعية وصحافة الترفيه "باز فيد" Buzzfeed، وموقع "إنسايدر" Insider الإخباري- عدة موجات تسريح كبيرة للموظفين خلال الأشهر الأخيرة، بعد توسع هذه الشركات في الاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي لإنتاج محتوى رخيص ومنخفض الجودة.
رداً على ذلك، بذلت نقابات الموظفين في شركة "باز فيد" و"إنسايدر" جهدها لكي يحصل بعض الموظفين المسرحين على مكافآت نهاية الخدمة، ويحاول فريق التحرير في "سي نت" -المؤلف من نحو 100 موظف- أن يحشد أفراده في نقابة تُمثله للضغط على الشركة والمطالبة بحقوقهم.
أوبر لم تكن لتدمير صناعة قطاع سيارات الأجرة من دون هذه التقنية
أزمات العمال الناشئة عن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي ليست بالأمر المستجد، فالروبوتات والتطبيقات الإلكترونية ما انفكت تغير الاقتصاد وتحدث التحولات فيه منذ سنوات طويلة. ولم يكن من الممكن لشركة "أوبر" Uber وشركة "لايفت" Lyft أن تدمرا قطاع سيارات الأجرة لو لم تكن خدمات الذكاء الاصطناعي متاحة.
وينطبق الأمر نفسه على تأثير شركتي "بوستماتس" Postmates و"جرابهاب" Grubhub -العاملتين في قطاع طلب الطعام وتوصيله عبر الإنترنت- في صناعة المواد الغذائية.
ترى شيرمور أن هذا التحول يدل على تزايد وتيرة "الاعتماد على الوظائف المستقلة والمؤقتة" (gigification) في الاقتصاد.
الجانب الخطير انتفاء الحاجة للموظفين بدوام كامل وهو ما يؤثر على التأمينات والصحة
الشركات والأنشطة التجارية لم تعد في حاجة إلى تعيين موظفين بدوام كامل ولا جزئي، ما دامت تستطيع الاعتماد على موظف بعقدٍ مؤقت مقابل أموال أقل، وبلا مزايا إضافية، مثل الرعاية الصحية والتأمينات وغيرها. وبعد إصدار تطبيق ChatGPT، بدأنا نشهد تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في تسريع هذا التحول بوتيرة لا تكاد تخطئها عين.
وقالت شيرمر: "بالنظر إلى أن كثيراً من حقوقنا -مثل الرعاية الصحية- مرتبطة في الواقع بوظائفنا، فإن من أبرز الفوائد لاقتصاد الوظائف المؤقتة عند الشركات وأرباب العمل هي الفرصة التي يتيحها هذا الاقتصاد لإنجاز العمل دون الحاجة إلى تقديم هذه الحقوق للموظفين"، خاصة أن هذه المزايا "هي السبب في ارتفاع تكلفة العمالة لدى الشركات الأمريكية، إذا ما قيست إلى الدول الصناعية الغربية الأخرى".
ليس هناك حاجة للعمال ذوي المهارات
ما تفعله الأتمتة في المقام الأول -سواء كان ذلك من خلال آلة نسيج، أو خط تجميع، أو الذكاء الاصطناعي التوليدي- هو الدفع باتجاه المزيد من الاعتماد على العمالة المكتبية. فالشركات لم تعد في حاجة إلى عامل نسيج ولا صانع سيارات ولا مبرمج فائقي البراعة، ما دامت لديها آلة يمكنها القيام بالعمل نيابة عنهم. وذلك على الرغم من أن الموظف والعامل قد يكونا كرسا بالفعل كثيراً من الوقت والجهد لتعلم المهارات اللازمة للعمل وإتقانها.
وكلما تزايد الاعتماد على الأتمتة، قلَّت الحاجة إلى العمالة الفنية الماهرة وتزايد التعويل على عمالة أقل عدداً وأضعف مهارة لإدارة الآلات، أي يتضاعف اللجوء إلى العمالة الكافية لأداء وظيفة تشبه عمل جليسة الأطفال، والاختلاف هنا أن القلة المختارة من الموظفين تُجالس أدوات الذكاء الاصطناعي للإشراف عليها فيما تقوم هي بالعمل عوضاً عن آخرين.
قالت إميلي إم بيندر، أستاذة اللغويات في جامعة واشنطن الأمريكية، لموقع The Daily Beast: "بدلاً من أن تعتمد الشركات على موظفين يبتكرون التصميم الإبداعي الأول أو يؤدون العمل بعد دراسته، صار يمكنها الاعتماد على برمجيات تُخرج لها العمل بالذكاء الاصطناعي في مجرد مرحلتين، ثم يمكنها بسهولةٍ أن تحول الوظيفة كلها إلى عمل بالقطعة"، وهكذا "يمكن للشركات أن تتوسع في الاعتماد على اقتصاد الوظائف المؤقتة ليمتد إلى مزيد من القطاعات".
وهذا يجعل العمال ضعفاء في التفاوض مع الشركات ويهدد فكرة المواطنة
قالت شيرمر: "الأمر مهم، لأنك حين تستغنى عن المهارات التي يمتلكها شخص ما، فإنك تكون قد جردته من القوة التي يمكنه التعويل عليها للتفاوض في الحصول على أجور ومزايا أفضل، وهو أمر بالغ الأهمية حقاً في السياق الأمريكي"، لأن "الحقوق الأساسية للأمريكيين مرتبطة بوظائفهم".
والنتيجة حينئذ، ليست مجرد خسارة الوظيفة وسبيل العيش، ولكن هوية الفرد وقدرته على العمل وارتباط ذلك بحقوق المواطن الذي يعمل بكامل طاقته. فالموظف الذي يعمل في سوق العمل الرسمي (أي وظيفة بدوام كامل وليس في اقتصاد الوظائف المؤقتة)، هو من يستطيع أن يسدد فاتورة الضمان الاجتماعي. وكلما كنت مستقراً من الناحية المالية، زادت احتمالية مشاركتك في العملية الديمقراطية. ومن ثم، كلما زادت أتمتة عملك باستخدام الذكاء الاصطناعي، أصبح عملك مجرد ساعات مؤقتة مقابل بضعة دولارات وسنتات، وتحول الأمر إلى تهديد وجودي لحقوق المواطنة.
هل يوجد حل لدى الحكومات أم النقابات؟
والسؤال هنا: ما الذي يمكن للعمال فعله لحماية حقوقهم في ظل إقبال الشركات على أتمتة وظائفهم؟
أولاً، التصويت وحثّ المشرعين على اتباع نهج أكثر صرامة في تنظيم اعتماد الشركات على التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي.
في الأسابيع القليلة الماضية،عقد الكونغرس جلسات استماع مع سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، لهذا الغرض بالذات، لكن يبدو أن الكونغرس لا يزال عاجزاً عن مواكبة التقدم الحادث في تقنيات الذكاء الاصطناعي بما يناسبه من إجراءات تنظيمية، لذلك فالجدير بالعمال ألا يكتفوا بالتعويل على المشرعين لمساعدتهم.
ثانياً، إنشاء نقابات لتمثيل العمال في هذه النقاشات، والتفاوض بالنيابة عنهم مع الشركات للحصول على أجور أعلى، ومزايا أفضل، ووسائل حماية أكبر من تداعيات الأتمتة على وظائفهم، كما تفعل نقابة الكُتاب حالياً. ومع ذلك، فإن هذا الأمر مقيَّد بحدود معينة، خاصةً أن الشركات تواصل الاستغناء عن قطاعات كبيرة من قُوّتها العاملة. وفي الوقت نفسه، فإن الشركات التي لا يملك عمالها القدرة على تنظيم أنفسهم بفاعلية قد تتخلف بسهولة عن إعطائهم حقوقهم.
لكن شيرمر ترى أن النضال من أجل حقوق العمال ليس كسباقات العَدو السريع لمسافة قصيرة، بل إنه سباق ماراثون طويل، و"معركة مستمرة كي يحصل العاملون على حقوقهم الديمقراطية في العمل"، و"هذا هو بيت القصيد: تمكين الناس من حقوقهم الإنسانية في الوظيفة، بحيث يكون لهم رأي ليس فقط في أجورهم ومزاياهم، ولكن في كيفية معاملتهم".
ومع ذلك، فإن الحقيقة المُرة التي يتعين علينا التعامل معها رغم ذلك، هي أن أدوات الذكاء الاصطناعي ستحل في الغالب محلَّ كثير من العمال في السنوات القادمة. والأمر لا يتعلق بما إذا كان سيحدث ذلك أم لا، وإنما يتعلق بمتى سيحدث ذلك ووتيرة الأمر.
وفي هذا السياق، صدر تقرير اقتصادي عن البيت الأبيض في أواخر عام 2022، وورد فيه أنه: "يكاد يكون من المحتوم أن يزداد التخلي عن العمالة في بعض الوظائف، لأن الذكاء الاصطناعي يزيد من أتمتة مهام العمال، وبالتالي تقليصها"، وسينجم عن ذلك أضرار كبيرة لأصحاب الوظائف التي تلاشت الحاجة إليها، و"يمكن أن يكون لذلك آثار مدمرة لأسواق العمل بهذه الوظائف عموماً".
لذلك، فإنه ما لم تُسن تشريعات يعتدُّ بها لحماية العمال وإلغاء الرابط بين حصول الفرد على حقوقه الأساسية مثل الرعاية الصحية والوظيفة، فإن الموجة القادمة من الأتمتة ستكون -بلا شك- مؤلمة لكثير من الناس.