صار مشهد الطوابير الطويلة من التونسيين والتونسيات أمام المخابز، أمراً مألوفاً. كان ذلك أمراً عادياً في شهر رمضان؛ حيثُ يصطفّ التونسيون لشراء أنواع مختلفة من الخُبز، ولكن الأمر هذه المرّة مختلفٌ تماماً. إذ غن نُدرة الحصول على الخُبز أضحت واقعاً، يخوض فيه التونسيون، وتُعقدُ من أجله الاجتماعات وتُتّخذُ الإجراءات.
تعيشُ ولايات تونسية على وقع أزمة حادة في التزود بالخبز، واختفت تماماً أولئك النسوة اللواتي يبعن خبز الطابونة في محيط المُدن وأغلقت محلات "الملاوي" بفعل استحالة الحصول على "الفارينة والسميد"، وهم أكلات تونسية تعتمد على دقيق القمح، وكانت هذه الأزمة محور لقاء جمع رئيس الجمهورية بوزيرة التجارة، ثم بوزير الفلاحة التونسيين.
للتونسيين ذكريات سيئة مع "الخُبز" فبسبب ارتفاع أسعاره، حيث انفجرت في تونس سنة 1984م عرفت بـ"انتفاضة الخبز" وسقط فيها مئات الضحايا، ولا تزال ذكراها حيّة في ذاكرة التونسيين، وخاصة في ذاكرة كلّ من حكم تونس، ناهيك عن أن الرئيس التونسي "قيس سعيّد" عرّج في معرض رفضه لشروط الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على أحداث الخُبز المؤلمة عام 1984م.
كانت كل المؤشرات تُنبئ في الحقيقة بتفاقم أزمة المواد الغذائية، وبصفة خاصّة الحبوب والخبز، فمنذ سنة 2022 تمّ التأكيد على كون شراءات وإنتاج تونس للحبوب سيؤمنان استهلاكها إلى حدود فبراير 2023. وهذا ما أكدته الوقائع والأحداث، فمنذ شهر فبراير بدأ النقص يظهر في الخبز ومشتقات الحبوب، وسط إنكار كُليّ من الدولة.
نقص الحبوب وسياسة الإنكار
يُرجع الرئيس التونسي قيس سعيّد كل مشاكل تونس إلى المؤامرات التي تُحاك في "الغُرف المظلمة" وإلى القوى الشريرة التي تتربّصُ بمشروعه الإصلاحي، وبعد ان كان يُحمّل السياسيين والأحزاب والبرلمان السابق مسؤولية "الخراب" الذي تعيشه تونس بصفتها "الخطر الداهم"، صار اليوم يتحدّث على الاحتكار والمضاربة، فهي عنده سبب نقص الخبز في تونس.
الرئيس التونسي "قيس سعيد" يوم الإثنين، 22 مايو 2023، خلال زيارة تفقّد إلى وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري قال:
"إن الخبز والمواد الأساسيّة تُعتبر خطًّا أحمر بالنسبة للمواطن"، مُضيفاً "لا بد من توفير الخبز للمواطن، وعلى ديوان الحبوب أن يكون في مستوى المرحلة؛ لأنه لا يمكننا ترك العابثين يتلاعبون بقوت المواطن" واستطرد قائلاً: "لن نسكت على تجويع المواطن.. انقطاع الخبز والزيت والقهوة يندرج في إطار تأجيج الأوضاع لغايات سياسية معروفة، وعلى الشعب أن ينتبه لذلك".
وأردف سعيّد قائلاً: "إن هناك جملة من الدوائر واللوبيات التي تسعى إلى تأجيج الوضع، وأسماؤهم معروفة، وعلى ديوان الحبوب أن يكون على مستوى المرحلة للتعامل مع هؤلاء، ولا نتركهم يعبثون بقوت المواطن، ولا بد من حسم مسألة الحبوب في الساعات القادمة".
وختم سعيّد كلامه قائلاً: "على كل المسؤولين في الإدارة أن يتحملوا مسؤولياتهم كاملة.. ولا يمكن القبول بأي مسؤول يخدم لأطراف أخرى "أعرفهم بالأسماء"، هم يريدون تأجيج الوضع، لكننا سنضع حداً لذلك، وإن كانوا يظنون أنهم سيفلتون من الجزاء فهم واهمون".
يُذكر ان سعيّد كان قد أصدر في أكتوبر 2022 مرسوماً شدّد فيه العقوبات على الاحتكار والمضاربة، وعقد أكثر من اجتماع أكد فيه على ضرورة ضرب مسالك التوزيع العشوائية، لكن لا شيء يتغير، ويذهبُ الكثير من المراقبين ونُشطاء المجتمع المدني إلى كون مقاربة الرئاسة لأزمة الخبز غير سليمة، إذ إن أزمة الخبز في تونس والحبوب أكثر تعقيداً ولها أسباب أخرى تتجاوز مسألة الاحتكار.
أزمة الخبز في تونس.. الشجرة التي تُخفي الغابة
تحتكرُ الدولة التونسية التصرف في قطاع الحبوب في تونس، تجميعاً واستيراداً وتوزيعاً ومراقبة، ويتم ذلك حصرياً عبر "ديوان الحبوب"، الذي تحوّل تدريجياً إلى أحد الأسباب الرئيسية لأزمة الحبوب في البلاد. إذ يحتكر الديوان الوطني للحبوب نشاط التوريد لتغطية حاجيات البلاد التي لا يؤمنها الإنتاج المحلي، وحسب آلية العمل الداخلية للديوان يتم توفير هذه الحاجيات عن طريق طلبات عروض دولية لتغذية المخزون، الذي يجب أن يغطّي وجوباً 4 أشهر من الاستهلاك ووفق سعر الحبوب في الأسواق العالمية.
تعتمد تونس في توفير حاجياتها من الحبوب أساساً على الخارج، وزاد الاعتماد على الاستيراد مع تواصل موجة الجفاف ونقص الأمطار التي ضربت تونس في السنوات الأخيرة، بشكل جعل إنتاجها المحلي من الحبوب غير قادر على تغطية سوى جزء ضئيل من مجمل حاجيات التونسيين والتونسيات.
هذا التعويل المُتزايد على الاستيراد تأثّر بدوره بمشاكل المالية العمومية في تونس، وبالحرب في أوكرانيا. فتونس تعيش أوضاعاً مالية واقتصادية صعبة جعلتها عاجزة على تأمين السيولة اللازمة لتغطية حاجياتها من شراء المواد الغذائية والحبوب وغيرها من المواد الضرورية.
كما أثرت الحرب في أوكرانيا بشدة على قدرة ذلك البلد على تصدير الحبوب، وأدت إلى اضطرابات في الإمدادات العالمية من الحبوب، وارتفاع أسعار السلع الغذائية عالمياً، مما أثر بشكل مباشر على دول جنوب وشرق المتوسط، والتي يعد بعضها من أكبر مستوردي القمح في العالم. وتشكل الواردات ثلثي حاجة تونس السنوية من الحبوب.
لذلك خصص البنك الأوروبي دعماً بقيمة 150 مليون يورو للمساهمة في تمويل مشروع "تعزيز صمود الأمن الغذائي"، حسب ما ورد في الجريدة الرسمية بمرسوم عدد 45 لسنة 2023.
كما منح الاتحاد الأوروبي ملياري يورو تقدم على هيئة مساعدة فنية لدعم إعداد وتنفيذ إصلاح خارطة الطريق للقطاع والشركات، وتهدف هذه الخطة إلى معالجة نقاط الضعف الهيكلية الحالية في قطاع الحبوب، بحيث يؤدي ذلك إلى التحرير التدريجي لواردات الحبوب.
كما تهدف إلى توجيه إصلاح ديوان الحبوب لكي يعمل وفق منهجية تجارية، وإدخال تحسينات على الكفاءة التشغيلية ومعايير الحوكمة في الديوان. كما أعلن البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية عن منح قرض سيادي مضمون بقيمة 150.5 مليون يورو أي حوالي 480 مليون دينار لديوان الحبوب التونسي، بهدف تمويل واردات القمح اللين والقمح الصلب والشعير، والتي تمثل قرابة 15% من احتياجات الاستهلاك السنوي للبلاد.
تكشف المساعدات الأوروبية حقيقة عجز تونس عن تأمين وارداتها من الحبوب، وهو السبب الرئيسي للازمة الحالية.
وفق تقرير عام 2023 لمراقبي الحسابات، فإن ديون ديوان الحبوب للبنك الوطني الفلاحي بلغت نهاية العام 4768.1 مليون دينار، وشهدت ديون الديوان العام الماضي ارتفاعاً بقيمة 827.2 مليون دينار بعجز 21% مقارنة بمستواها في 31 ديسمبر 2021، لتسجل بذلك تجاوزاً كبيراً للحد الأقصى المسموح به قانوناً، والذي يقدّر بنسبة 25% من صافي رأسمال البنك.
في المقابل، يقدر التقرير الذي أصدرته مؤخراً وزارة المالية حول المنشآت العمومية والمرفق بقانون المالية لسنة 2023 أن الأموال الذاتية لديوان الحبوب السالب بقيمة "(-1950.7 مليون دينار) وهو ما يعني أن المؤسسة استنفدت بالكامل رأسمالها ومدخراتها، مما يجعلها فاقدة حسب المعايير المحاسبية التونسية القدرة على مواصلة نشاطها، مما يجعلها في حالة عجز هيكلي على تزويد المطاحن بمادتي "الفارينة والسميد" التي تحتكر التصرف فيها.
قدرت وزارة المالية، في تقريرها خسائر ديوان الحبوب لعام 2021 بنحو 477.4 مليون دينار بتراجع بلغت قيمته 136.8 مليون دينار، بالمقارنة مع سنة 2020، ويعود ذلك الى انخفاض نتيجة الاستغلال بنحو 55.2 مليون دينار (- 268.4%)، من جهة أخرى وإلى ارتفاع الأعباء المالية بقيمة 81.2 مليون دينار (+21.3%).
أكدت وزارة المالية في ذات السياق أن تحليـل الوضعية المالية لديوان الحبوب يبرز مستوى عالياً للمخاطر، وهو ما يرجع إلى ارتفاع حجم ديونه التي زادت بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة إذ ارتفعت في 2020 بنسبة 133%، مقارنة بعام 2018.
يواجه ديوان الحبوب مخاطر مالية بحكم تزويد السوق بمادة أساسية مدعمة حسب التقرير الوزاري الذي شدد على أن المخاطر العالية متأتية بالأساس من عدم حصول الديوان على مستحقاته بعنوان دعم منظومة الحبوب في الآجال، وعدم مراجعة سعـر البيـع لتغطية الفارق الحاصل بيـن الدعـم المتحصل عليـه وكلفة الشـراء، ووجود فارق بيـن آجال الدفـع والخلاص، بالإضافة إلى لجوئه للتداين قصيـر المدى لشـراء السلع، مما أفضى إلى تطور الأعباء المالية والمكاشفات البنكية.
الخلاصة
يستهلك التونسيون والتونسيات أكثر من 3 مليون طن من الحبوب سنويا موزعة بصفة متقاربة بين القمح الصلب والقمح اللين والشعير. ويرتكز النمط الغذائي التونسي حسب المسح الوطني حول تغذية الأسر، بالأساس على الحبوب.
يبلغ متوسط الاستهلاك السنوي من هذه المادة ما يقارب الـ 174.3 كيلو للفرد. وأوضح البنك الدولي في تقرير حول الظرف الاقتصادي بتونس بعنوان "إدارة الأزمة في وضع اقتصادي مضطرب"، وجاء في التقرير أن تونس وضعت منذ عقود سياسة دعم قائمة على المحافظة على أسعار عدة منتوجات، تعد ذات أولوية، دون أسعار السوق على امتداد كامل سلسلة الإنتاج والتحويل وصولاً إلى المستهلك.
أشار التقرير إلى أن قيمة الدعم المخصص للحبوب في تونس ارتفعت من 730 مليون دينار عام 2010 إلى 2569 مليون دينار عام 2020، مع ارتفاع مستمر للطلب الداخلي، وذلك رغم تطور الأسعار في السوق الدولية.
لقد زادت حدة هذا الارتفاع مع تفجر الأسعار في السوق العالمية جراء الحرب في أوكرانيا وفق البنك الدولي الذي توقع ارتفاع قيمة الدعم المخصص للحبوب سنة 2022 بنسبة 63% ليصل إلى 3.6 مليار دينار. ويضاف الى ذلك أن إنتاج الحبوب في تونس لعام 2023″ شهدت تراجعاً غير مسبوق، إذ يُنتظر ألا تتجاوز المحاصيل الـ2.5 مليون قنطار.
إن ما يرفضُ الرئيس قيس سعيّد الاعتراف به، هو كون الأزمة السياسية والعزلة التي دفع إليها تونس تُمثُل سبباً رئيسياً في الأزمات المركّبة التي تعيشها تونس وعلى رأسها أزمة الخبز في تونس والحبوب. وإذا كان الحديث قد ارتفع حول الخبز ومشتقاته، فإن مواد أخرى كثيرة صارت نادرة في الأسواق التونسية منها الأدوية وقطع غيار السيارات وبعض المواد المستوردة.
إن الحكومة التونسية الحالية عاجزة عن تأمين موارد مالية لتعبئة موارد الدولة، بعجز تجاري غير مسبوق، ونقص في العملة الصعبة، ولا نعرف حقيقة كيف ستتمكن هذه الحكومة من حلّ أزمة النقص الحاد في المواد الاستهلاكية.
إن سياسة الإنكار التي يتبعها الرئيس التونسي "قيس سعيد" بخصوص مشاكل بلاده لن تتواصل كثيراً. وسيبقى تأمين الخُبز وتوفيره للتونسيين التحدي الأكبر أمامه، ومن المؤكّد أن الخبز سيظل في تونس محرّكاً لتاريخها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.