تتواصل الأزمات في تونس، ويواصل الرئيس قيس سعيد تبريراته نفسها، وهي وجود "مؤامرات" تتسبب في تلك الأزمات، فما حقيقة أزمة الخبز في البلاد؟
فمنذ نهاية عام 2021، تسجل المحلات والفضاءات التجارية نقصاً في العديد من المواد، مثل الزيت النباتي والسميد والسكر والأرز، وإن وجدت فيجري تحديد كمية معينة لكل مواطن.
ورغم تهديدات الرئيس التونسي قيس سعيد وأوامره بملاحقة المحتكرين قضائياً، فإن الأسواق تواجه شحاً ضاغطاً في السلع الأساسية مثل الزيت والسكر والحليب والقهوة وغيرها، وتعيش تونس حالياً أزمة كبيرة في توفير الخبز، ما جعل الطوابير تصطفّ أمام عدد من المخابز، وخلق مشكلات كبيرة للأسر في توفير مادة غذائية لا تخلو منها عادة الموائد التونسية.
ماذا يقول الرئيس التونسي عن سبب الأزمة؟
لا يختلف أحد على وجود أزمة دقيق في تونس، ويصر الرئيس قيس سعيّد على أن سبب المشكلة هو "مؤامرات" تحيكها جهات سياسية ومحتكرون يتلاعبون بالأسواق، وهو المبرر نفسه الذي يسوقه الرئيس التونسي في تفسير الأزمات المتلاحقه التي يعاني منها التونسيون، ففي فبراير/شباط 2022، حذر رئيس الجمهورية التجار من خطورة المضاربة، وأصدر أوامره بتتبع المضاربين والمحتكرين قضائياً، وقامت وزارة التجارة بحجز كميات هائلة من المواد الاستهلاكية الأساسية، لكن كل تلك الإجراءات لم تكن لها أية آثار إيجابية على حالة الأسواق، بل تفاقمت الأزمة بشكل واضح.
فمنذ ذلك الوقت في أسواق تونس علقت المتاجر والمساحات الكبرى تنبيهات لزبائنها، حددت فيها كمية الشراء بالنسبة لبعض المنتجات، ومنها مثلاً علبة أو علبتان على الأكثر من الحليب والقهوة والزبدة ومواد أخرى.
وكانت هناك تحذيرات من جهات داخلية وخارجية من أن هذا الواقع الجديد الذي لم يحدث في السوق التونسي في السابق ينذر بفترة قادمة، قد تشتد ندرة العديد من السلع، رغم عودة انسيابية سلاسل الإمدادات العالمية. إذ تفتقد عديد من المتاجر بالعاصمة الزيت النباتي المدعم والسكر والقهوة، فيما شاهد مراسل الأناضول الرفوف خاوية في مساحات تجارية كبرى.
قالت الرئاسة التونسية، الجمعة 9 سبتمبر/أيلول، إن الرئيس قيس سعيّد جال بمدينة عوسجة في ولاية بنزرت (شمال)، حيث التقى عدداً من الفلاحين الذين يبيعون منتجاتهم بأسعار تغطي كلفة الإنتاج.
وقالت الرئاسة إن أسعار المنتجات من جانب المزارعين مقبولة "ولا وجه للمقارنة بينها وبين الأسعار المعمول بها في عدد من الأسواق، بما يقيم الدليل على أن فقدان بعض المواد لا يعود إلى ندرة الإنتاج، بل هو نتيجة لممارسات المحتكرين".
ومؤخراً نقلت تقارير صحفية محلية وجود معاناة كبيرة في تحصيل الخبز في عدد من الولايات، فيما تعلن العديد من المخابز عن إفلاسها، وبات تحصيل خبز كافٍ لليوم أمراً في غاية الصعوبة، بحسب تقرير لشبكة DW الألمانية.
من جانبه، يتهم الرئيس قيس سعيّد "لوبيات وأطرافاً" دون أن يسميها بافتعال أزمة الخبز، وذكر خلال زيارته لمقرّ وزارة الزراعة التونسية أن على الدولة أن "تتصدى للمحتكرين والعابثين بقوت التونسيين"، قائلاً إنّ "الهدف من هذه الأزمات المتعاقبة هو تأجيج المجتمع لغايات سياسية واضحة".
واتهم سعيّد ما وصفها بـ"جهات أخرى وأحزاباً لا تظهر في الصورة، تقف وراء كل هذا، يقوم مسؤولون في الإدارات التونسية بخدمتهم"، زاعماً أنه "يعرفهم بالأسماء، وأنه لن يسكت على تجويع الشعب التونسي"، كما أرجع المسؤولية كذلك إلى خلل في مسارات التوزيع، وأن النسبة الأكبر من السلع المهمة "تدار خارج المسالك الرسمية".
وكانت صفحة الرئاسة التونسية على فيسبوك قد نشرت خلاصات لقاء بين قيس سعيّد ووزيرة التجارة كلثوم بن رجب قزاح. وذكرت الصفحة أن مسألة ندرة الخبز في بعض الولايات تعود إلى "سعي البعض إلى تأجيج الأوضاع الاجتماعية والعمل على افتعال الأزمات، حيث إنه من غير المقبول ألا يتوفر الخبز في ولاية في حين يتوفر في ولايات أخرى مجاورة".
هل هناك أسباب أخرى لأزمة الخبز في تونس؟
رغم أن تونس تعاني بالفعل من انتعاش السوق السوداء في مجال توزيع الحبوب، فإن ذلك ليس السبب الوحيد والأساسي للأزمة. ودأب الرئيس التونسي على توجيه الاتهامات لـ"جهات" يقول إنها تحاربه، في وقت توجه فيه منظمات حقوقية انتقادات كبيرة للسلطات التونسية منذ انفراد سعيّد بالسلطة واعتقال مجموعة من المعارضين، آخرهم راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة.
كان سعيّد قد قرر فجأة، يوم 25 يوليو/تموز 2021، الانقلاب على النظام الديمقرطي في تونس، فأقال الحكومة وتولى بنفسه السلطة التنفيذية، كما قرر حل البرلمان وترؤس النيابة العامة، وبدأ يصدر أوامر بإقالة مسؤولين وتعيين آخرين، ثم أجرى انتخابات برلمانية شهدت إحجاماً عن المشاركة، ووصفتها الأحزاب في تونس والمنظمات الدولية في الخارج بأنها غير معبرة عن إرادة التونسيين.
وبشأن أزمة الخبز، ذكرت جمعية "أليرت"، التي تُعنى بمواجهة اقتصاد الريع، في بلاغ، أن الأسباب التي تتحدث عنها الرئاسة التونسية غير صحيحة، وأن الأزمة "هيكلية شاملة، يشكو منها قطاع الحبوب في تونس"، وأن نقص الخبز يمس كافة الولايات بنسب متفاوتة.
وذكرت الجمعية أن السبب الحقيقي هو "انخفاض حاد في كميات القمح الصلب الموزعة من طرف ديوان الحبوب"، وهو جهة رسمية مكلفة بتزويد البلاد بالحبوب سواء بالاستيراد أو تنظيم توزيع المنتجة محلياً.
وفيما تتوفر مادة القمح اللين فإن مادة القمح الصلب لا تتوافر بالقدر اللازم حسب الجمعية، وهما المادتان اللازمتان لعجن عدة أنواع من الخبز. وذكرت الجمعية أنه إلى حدود 20 مايو/أيار، وزع ديوان الحبوب 15% فقط من الاستهلاك الشهري من القمح الصلب.
كما ذكرت الجمعية أن ديون ديوان الحبوب ارتفعت بنسبة 27% خلال عام واحد، كما تأخرت الدولة في صرف ميزانية الدعم الموجهة إلى القطاع، ما جعل ديوان الحبوب "عاجزاً عن استيراد حاجات السوق من القمح الصلب".
لكن الأزمة تمس كذلك القمح اللين (الفرينة)، حسب ما يذكره فاعلون آخرون كالمجمع المهني للمخابز العصرية، الذي ذكر أن هناك نقصاً فادحاً في وصول مادتي الفرينة والسميد منذ أكثر من ثلاثة أشهر في كل الجهات، ما أدى إلى غلق عدد من المخابز، بحسب تقرير الشبكة الألمانية.
وقال الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي لقناة الحوار: "إنتاجنا المحلي من القمح ضعيف جداً، نحن مضطرون لشرائه من الخارج، لكن نظراً لأننا في دولة مفلسة فليست لدينا الإمكانات لشرائه"، مضيفاً: "قيس سعيّد عاجز عن قول الحقيقة، والناس لا تفهم أن وجوده في السلطة يفاقم الأزمات، لكون الاقتصاد مرتبطاً بالاستقرار السياسي".
هل تعاني المخابز من الإفلاس؟
يعاني عدد من المخابز في تونس من عدم صرف إعانات الدعم لمدة تجاوزت 14 شهراً، بحسب ما يؤكده بيان لأصحاب المخابز في مدينة صفاقس، ما جعل عدداً منها يعلن الإفلاس والتوقف التام عن العمل ابتداءً من الشهر القادم، مع ما يتبع ذلك من تسريح ما يقارب من خمسة آلاف عامل.
ولا حل يلوح في الأفق حسب البيان سوى صرف عام من الدعم المالي، ورفع قيمة أكياس القمح، وإيقاف ما تعتبره مراقبة غير عادلة من السلطات وصلت حد فرض قرارات بالإغلاق.
كما أعلنت اتحادات أخرى للمخابز عن إضرابات خلال الأسابيع المقبلة، والتوقف عن تزويد المؤسسات العمومية بالخبز، ما قد يخلق أزمة كبيرة في المدارس والسجون والمستشفيات ودور الإيواء.
وشهد إنتاج الحبوب في تونس تراجعاً هذا العام بسبب عوامل الجفاف، وقدرت هيئات مهنية أن الإنتاج الوطني لن يلبي هذا العام سوى 5.8% من الاحتياجات الوطنية، ما يجعل البلاد مضطرة لاستيراد جل ما تحتاجه من القمح.