بدأت عنصرية المعارضة التركية كأنها مقتصرة على اللاجئين العرب، ولكن الجولة الأولى من الانتخابات أظهرت أن هذه العنصرية تتوسع لتشمل المحافظين الأتراك بمن فيهم منكوبو الزلزل المدمر الذي ضرب البلاد في فبراير/شباط 2023، الأمر الذي يؤشر إلى أن هذا الخطاب العنصري قد يتوسع ليشمل مزيداً من فئات المجتمع.
فهناك صدمة أصابت كثيراً من الناخبين الأتراك بعد التطرف العنصري الذي أظهره خطاب المعارضة بعد نتيجة الجولة الأولى من الانتخابات.
فبعد أن كانت المعارضة تقصر خطابها العنصري على العرب، تحولت لخطاب عنصري ضد الأتراك المحافظين النازحين من مناطق الزلزال، بعد تصويتهم للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لتضر بالوجه الليبرالي الذي كانت تحاول تقديمه، الأمر الذي يثير تساؤلات حول حقيقة خطاب المعارضة، وإلى أين يصل هذا الخطاب الإقصائي إذا وصلت للحكم.
بداية حملة المعارضة التركية الانتخابية بالاعتذار لـ"أخواتنا المحجبات عن غرف التعذيب"
كان محور الحملة الانتخابية للمعارضة التركية، ومرشحها رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار هو محو الصورة السلبية لحزب الشعب الجمهوري، كحزب نخبوي علماني راديكالي، مشهور تاريخياً بعلاقته المتوترة بالمحافظين الأتراك والأكراد، وسياسته القديمة المناهضة للتدين والحجاب.
وصلت محنة الحجاب في تركيا يوماً إلى طرد الجنود الذين لديهم أخوات أو أمهات محجبات من الجيش التركي، وإلى إنشاء ما عُرف باسم "غرف الإقناع"، وهي غرف كانت المحجبات يدخلن إليها ويتعرضن لأبشع أنواع التعذيب النفسي والعصبي ليتم إقناعهن بنزع الحجاب مقابل السماح لهن بدخول الجامعات، وتم تبرير هذا التعذيب بأنه محاولة لمنح الحرية الحقيقية للفتيات اللواتي يرتدين الحجاب تحت ضغط الأهل والمجتمع.
وكانت البروفيسور نور سيرتر، الأكاديمية المقربة من حزب الشعب الجمهوري والنائبة بالبرلمان عن الحزب بعد ذلك، هي مهندسة غرف الإقناع.
وقاد كمال كليجدار أوغلو دعوة إلى الاعتذار عن ممارسات الاضطهاد السابقة بحق المحافظين، ولاسيما أخواتنا المحجبات، حسب تعبيره.
بل طرح كليجدار اقتراحاً بسن قانون لحماية الحجاب في تركيا، في محاولة لاجتذاب أصوات المحافظين عبر هذا الخطاب الجديد، وعبر التحالف مع سلسلة من الأحزاب المحافظة بعضها منشق عن حزب العدالة والتنمية مثل حزب المستقبل بقيادة رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو وحزب الديمقراطية والتقدم بقيادة الوزير السابق على بابا جان، وحزب السعادة الذي يقدم نفسه كامتداد لحزب الرفاة الذي أسسه نجم الدين أربكان الزعيم المؤسس للتيار المحافظ في السياسة التركية الحديثة.
إلى طرد منكوبي الزلزال
ولكن عندما تبين للمعارضة أنها لم تنل من كتلة أردوغان التصويتية التقليدية سوى جزء من الكتلة الكردية (التي تراجع تصويتها لأردوغان من نحو 40 % إلى نحو 25 %) وأن الكتلة المحافظة بما فيها الولايات المتضررة من الزلزال قد صوتت لحد كبير لأردوغان، حتى انفجر غضب المعارضة التركية وظهرت حقيقة أيديولوجيتها أو على الأقل أيديولوجية بعض مكوناتها، إذ توعد رؤساء بلديات علمانيون النازحين الأتراك القادمين من مناطق الزلزال بالعقاب عبر وقف الخدمات المقدمة لهم؛ لأنهم صوَّتوا لأردوغان.
وبالفعل، قطعت بعض البلديات التابعة لحزب الشعب الجمهوري المعارض خدماتها عن منكوبي الزلزال بعدما أظهرت نتائج الانتخابات الرئاسية عدم تصويت الولايات المتضررة من الزلزال، لمرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو.
وأظهرت مشاهد متداولة على منصات التواصل الاجتماعي تبليغ مسؤولي بلدية تكيرداغ التابعة لـ "الشعب الجمهوري" منكوبي الزلزال الذين تؤويهم، بمغادرة أماكن إيوائهم والتوجه إلى مراكز إيواء تابعة للحكومة، مما أثار غضباً عارماً في أوساط المجتمع التركي.
وذكرت قناة trthaber التركية أنه بعد الانتخابات أرسلت بلدية تكيرداغ الكبرى إخطاراً لـ550 شخصاً من الناجين من الزلزال طلبت فيه منهم إخلاء الفنادق التي يقيمون فيها في 21 مايو/أيار الجاري، ما تسبب لهم بصدمة بشأن ما يجب عليهم فعله، خاصة أنهم سيبقون دون مأوى. والغريب أن العقد الخاص مدة إقامتهم كان حتى 13 أغسطس/آب 2023.
بل تمنى محسوبون على المعارضة الموت لمنكوبي الزلزال على وسائل التواصل الاجتماعي، فيما طالبت نائبة من أصل كردي في بلجيكا بسحب الجنسية من الأتراك البلجيك لأنهم صوتوا لأردوغان.
كان هذا الخطاب صادماً للأتراك، ولكن زعيم حزب الشعب كان أكثر حذراً، فحاول توجيه خطابه ضد اللاجئين السوريين والعرب، فادعى أن عدد اللاجئين في تركيا عشرة ملايين وهو رقم يفوق مرتين ونصف الأرقام الحقيقية الرسمية التركية والأممية، وتحدث عن أن أردوغان انتهك قدسية الحدود بإدخاله للاجئين، متناسياً أنه في عهد كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية وحزب الشعب الجمهوري دخل أعلى نسبة من اللاجئين من خارج تركيا للبلاد في تاريخها الحديث، إذا دخل البلاد نحو نصف مليون من اللاجئين المسلمين من اليونان، كثير منهم لم يكونوا أتراكاً بل يونانيين مسلمين يتحدثون اللغة اليونانية كلغة، وقبل ذلك الشركس.
اللافت أيضاً أن المعارضة التركية تعهدت بعد الجولة الأولى أن تتبنى برنامج طرد اللاجئين المتطرف الذي أعلنه المرشح المتطرف سنان دوغان.
وسبق ذلك ظهور فيدويوهات لمؤيدي المعارضة يحاولون حتى قبل الجولة الأولى للانتخابات نزع الحجاب عن سيدة محجبة تركية، مع مهاجتهم لأردوغان.
عنصرية المعارضة التركية فاقت اليمين الأوروبي المتطرف.. إليك مقارنة مع برنامج لوبان
هذا التحول في خطاب المعارضة ضد اللاجئين وضد المحافظين الأتراك (البعض قد يراه عودة لأيديولوجيتها الفعلية) قد يستدعي المقارنة بين خطاب المعارضة التركية الرئيسية واليمين المتطرف الأوروبي.
وبالمقارنة بين برنامج المعارضة التركية بحق اللاجئين، فإنه يبدو أكثر قسوة وتطرفاً من برنامج السياسية اليمينية الفرنسية المتطرفة مارين لوبان، التي طالبت في برنامجها الأخير وفقاً لما ورد في تقرير لـ"بي بي سي"، بفرض قيود على الهجرة ولكنها لا تطالب بطرد مجمل اللاجئين كما يطالب كليجدار أوغلو والمعارضة التركية.
فمارين لوبان، التي ينظر لوصولها المحتمل لرئاسة فرنسا على أنه كارثة، تدعو إلى الترحيل الفوري لمن يقيمون في فرنسا بصفة غير قانونية، وفي تركيا الغالبية الكاسحة من السوريين مقيمون بشكل غير شرعي، وهم لاجئون من أسوأ حرب أهلية ومذابح طائفية في القرن الحادي والعشرين وليسوا مهاجرين اقتصاديين.
ولوبان تطالب بإمهال الأجانب الذين لا يجدون عملاً ثلاثة أشهر لإيجاد وظيفة أو الرحيل، إن كانوا مقيمين بطريقة شرعية، ونسبة كبيرة من السوريين في تركيا يعملون ويفيدون الاقتصاد.
العنصرية لم تعد تقتصر على اللاجئين بل تستهدف قلب القومية التركية الحديثة
ولكن يزيد عن ذلك أن المعارضة التركية لا تمارس عنصريتها فقط، ضد اللاجئين والمهاجرين من أصول أجنبية كما يحدث في الدول الغربية، بل تمارس عنصريتها ضد المحافظين، خاصة من سكان مناطق الأناضول التي ينحدر منها أغلب سكان تركيا، وهي المنطقة التي ينظر لها كأصل تركيا الحديثة والتي جند منها أتاتورك المتطوعين لتحرير أزمير من الاحتلال اليوناني، وإسطنبول من السيطرة البريطانية بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
المفارقة أن الكتلة المحافظة التي تستهدفها المعارضة في الأقاليم تكون عادة في الدول الغربية هي الخزان الانتخابي للأحزاب اليمينية المتطرفة، لكن في تركيا خزان الخطاب الإقصائي هي النخب العلمانية.
إن هذا التغيّر في الخطاب الذي حدث فور تراجع أداء المعارضة عن توقعاتهم السابقة قد يثير شكوكاً في الوعود، التي قدمها كليجدار أوغلو حول التسامح مع الحجاب، وأنه لا عودة لسياسة التمييز ضد المتدينين بما في ذلك اعتذار أوغلو لـ"أخواتنا المحجبات"، عن غرف التعذيب.
والسبب أن أصل مشكلة المعارضة في البنية الاجتماعية والطبقية لحزب الشعب الجمهوري، الذي هو حزب نخب المدن القديمة وموقفه من السوريين؛ ومن اللاجئين العرب، تعود جذوره لموقف عام من كل هو إسلامي وشرقي، في ظل خطاب يرى أن تركيا أوروبية وليست إسلامية أو شرقية، تقوده حالة تماه مع الغرب وأوروبا، الغرب الذي ما زال ينحاز لأثينا وقبرص في خلافاتهما مع أنقرة.
اللافت أن هذا الخطاب لا يجد صدى لدى الصحافة الغربية التي تواصل حملاتها ضد أردوغان متجاهلة أن خطاب المعارضة العنصري قد يؤدي في حالة محاولة تنفيذه إلى أزمة إنسانية كبيرة؛ لأن نظام الأسد لن يقبل بعودة اللاجئين السوريين لأنه سعيد بخروجهم الذي أدى لجعل العرب السنة في سوريا أقلية، مما قد يخلق أزمة على الحدود السورية التركية أو أزمة لجوء كبيرة على الحدود التركية مع الدول الأوروبية.
كما أن اللافت أن المعارضة التركية تكيل المديح لرئيس النظام السوري بشار الأسد، وتكاد لا تشير لمسؤوليته عن هذه الأزمة وإلى امتناعه عن مجرد مناقشة أي مبادرة لإعاد اللاجئين سواء مع أوروبا أو مع الدول العربية مؤخراً.
وحتى روسيا أكبر داعم لنظام الأسد، سبق أن حاولت طرح صفقة يطبع بها الاتحاد الأوروبي مع نظام الأسد مقابل عودة ولو جزئية للاجئين السوريين من أوروبا، ولكن النظام تجاهل المبادرة الروسية في بادرة تمنع نادرة من الأسد الذي يعتمد بشكل كبير على الدعم العسكري والاقتصادي الروسي، ويسلم له بعض مرافق ومناطق البلاد بالتوازي مع إيران.
الخطاب العنصري قد ينفر الشباب والليبراليين الأتراك من المعارضة
لكن في الداخل التركي، فإن هذا الخطاب العنصري ضد المحافظين الأتراك قد يدق ناقوس الخطر لدى كتلة من الناخبين الأتراك التي يمكن أن تكون قد صوتت ضد أردوغان في الجولة الأولى، وهي كتلة الشباب والليبراليين.
فهناك في تركيا كتلة من الليبراليين الذين قد تكون سلوكياتهم الشخصية علمانية، ولكن غير راديكاليين، أي إنهم لا يؤيدون السياسات القديمة المناهضة للتدين وخاصة الحجاب، كما أن كثيراً منهم من أصول محافظة ولكن التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي تحقق في عهد أردوغان جعلهم جزءاً من الطبقة الوسطى وحتى العليا وكانوا سعداء بالانتماء الجديد.
فهناك جيل من الشباب (يطلق عليه أحياناً جيل Z)، تلقى تعليمه في ظل برامج حزب العدالة لتوسيع التعليم ومختلف الفرص لأبناء الطبقات والمناطق المهمشة.
وبحسب هيئة الإحصاء التركية (TÜIK)، فإنه مِن أصل 62.4 مليون تركي لهم حق التصويت، يوجد قرابة 13 مليوناً منهم تنطبق عليهم تسمية "جيل Z"؛ إذ تتراوح أعمارهم بين 18 و25 سنة. ومن ضمن هؤلاء ستة ملايين لهم الحق في التصويت للمرة الأولى.
وبعضهم يحاول أن يؤكد انتماءه لهذه الطبقات، ويتبنى نمط حياة خليطاً من العلماني والمحافظ، مع تأثر متزايد بالقيم الليبرالية الغربية، هذا الجيل (كثير من نسائه غير محجبات)، جزء منه يقول مراقبون إنه بدأ يبتعد عن حزب العدالة، ويعتبر المكتسبات التي حققها أموراً بديهية وليست إنجازاً في بلد شهد قبل وصول حزب العدالة للحكم كارثة اقتصادية جعلت الليرة تنحدر لمليون ونصف ليرة لكل دولار.
هذا الجيل وهذه الفئة التي صعدت اجتماعياً في تركيا تتعرض لدعاية مفادها هو أنه لا خوف من العودة للماضي في تركيا، وأن المعارضة تغيرت، ولم تعد تتبنى سياسات عنصرية تجاه المحافظين ومجمل الطبقات الأفقر وسكان مناطق الأناضول التي ينحدرون منها غالباً، وأن جدل الحجاب في تركيا انتهى.
هذا الجيل يصدق بعضه أحياناً الدعاية الغربية ودعاية المعارضة أن أردوغان مستبد، ولكن هذا الجيل شهد بنفسه أن المستبد المزعوم يخوض جولة الإعادة في الانتخابات بسبب بضع مئات آلاف من الأصوات، وشهد هذا الجيل بنفسه الخطاب العنصري الفج للمعارضة التركية، وبالتالي فقد بدأت تنتابه الشكوك بأن الحديث عن التغيير من قِبل المعارضة مجرد أوهام وأنها قد تعود أسوأ من السابق.
يبقى هناك كتلة أخرى من الناخبين الأتراك التي جذبها خطاب المعارضة الجديد رغم أنها الأكثر عرضة للخطر من نهجها العنصري..
إنهم الأكراد..
الأكراد تحالفوا مع المعارضة، ولكن لهذه الأسباب قد يكونون أول ضحاياها
بدأ خطاب المعارضة العنصري باللاجئين السوريين والعرب، وعندما ضاعت أصوات المحافظين كشفت المعارضة بسرعة غير متوقعة عن خطابها العنصري ضد المحافظين الذين كانت تغازلهم للتو.
ولكن لماذا يفترض الأكراد أنهم لم ينالوا نصيباً من هذا الخطاب العنصري بعد أن تستفيد منهم المعارضة، أليس التركي المحافظ ابن ولاية كهرمان مرعش، وغازي عنتب، أقرب لهم من الكردي المحافظ ابن ديار بكر.
أيديولوجية المعارضة التركية لديها دوافع أكبر لتكون أكثر عنصرية ضد الأكراد من عنصريتها ضد الأتراك المحافظين.
فالأكراد كانوا من أكثر المستفيدين من إصلاحات حزب العدالة، والتي لم تؤدِّ فقط للاعتراف بالهوية الثقافية الكردية وتحسين مناطقهم، ولكن أنهت التمييز الاجتماعي الذي يتعرضون له من نخب أنقرة وإسطنبول وأزمير ذات التوجه العلماني القومي الراديكالي باعتبارهم أكراداً ومحافظين وأبناء المناطق الشرقية الفقيرة المهمشة في نفس الوقت.
كما سبق الإشارة، تركيبة حزب الشعب الجمهوري الاجتماعية، تقوم على التوجس من كل ما هو شرقي (أو أسمر نسبياً) أو متدين أو محافظ أو بسيط اجتماعياً ومن كل ما هو غير تركي.
بالنسبة لنخب حزب الشعب الجمهوري، فلديها أسباب أكثر لاتخاذ موقف سلبي من الكردي أنهم شرقيون أكثر، وكذلك أكثر سمرة من الأتراك المحافظين، ولديهم هوية لغوية وثقافية كردية، مختلفة عن الهوية التركية الجامعة، ومحافظون (الأكراد في تركيا بصفة عامة أكثر تديناً من الأتراك)، وهم أشد فقراً.
فالعداء الذي تظهره المعارضة التركية حالياً للغة العربية، بما في ذلك العداء من قبل بعض أطرافها للأذان والقرآن والدعوة لتلاوتهما باللغة التركية، يمكن أن يتحول لعداء للغة الكردية، فنفس المنطق الذي يقول إنه لا مكان للغة العربية في تركيا ينطبق أكثر على اللغة الكردية؛ لأن الأخيرة من وجهة نظر القومية التركية الردايكالية تهدد التجانس الثقافي الذي يؤمن به حزب الشعب والحزب الجيد.
كما أن وجود الأكراد وأحزابهم على هامش السياسة التركية، يجعل عملية إقصائهم من قبل المعارضة إذا وصلت للحكم أسهل، بل إن الخطاب التحريضي ضدهم يمكن (بعد انتهاء موجة التحريض ضد المحافظين والعرب)، أن يلقى استجابة أكبر لدى القوميين الأتراك في ظل التوجس التركي التقليدي من النزعة الانفصالية لحزب العمال الكردستاني، وفي ظل سلوكيات حزب العمال وحزب الشعوب الديمقراطي، المستفزة للشعور الوطني التركي.
ويعني هذا العودة للممارسات التمييزية ضد الأكراد، التي كانت تفرض قيوداً على استخدام لغتهم، وثقافتهم بما في ذلك حتى تسمية المواليد بأسماء كردية.
الأسماء الكردية كانت ممنوعة
من المعروف أنه بعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم بزعامة رجب طيب أردوغان منحت حكومته الأكراد الكثير من حقوقهم الثقافية مثل السماح بتدريس اللغة الكردية في المدارس العامة، وأصبحت هناك برامج تليفزيونية تبث باللغة الكردية، فمنذ 2009 تبث شبكة تلفزيونية وطنية برامج باللغة الكردية بشكل كامل، فيما وصف بالخطوة التاريخية في بلد بني على الاعتزاز الشديد باللغة التركية.
وأنهت حكومة حزب العدالة المحظورات ذات الطابع الوطني التركي المتشدد على الأكراد ـ على سبيل المثال السماح بإعطاء أسماء كردية للمواليد الأكراد والسماح بالخطاب السياسي الذي يحمل إشارات إلى الشخصية الكردية التركية في إطار الدولة الواحدة، حسبما ورد في تقرير سابق لـ"راديو مونت كارلو".
واعتبر أردوغان أن حل القضية الكردية أولوية لحكومته، وقوبلت هذه التوجهات بإشادة من قِبل وسائل إعلام غربية آنذاك.
وسعى حزب العدالة إلى تحقيق السلام مع الأكراد عكس التوجهات السابقة للدولة التركية، وقد أعلن أردوغان وهو رئيس وزراء في 28 ديسمبر/كانون الأول 2012، عن محادثات مع رئيس حزب العمال أوجلان في السجن من أجل التوصل إلى سلام.
وفي 21 مارس/آذار 2013، أطلقت مفاوضات بين أوجلان -في سجنه بجزيرة أميرالي في بحر مرمرة- ومسؤولين بالاستخبارات التركية، وأعلن حزب العمال الكردستاني رسمياً حينئذ وقفاً لإطلاق النار مع تركيا.
كما أولى حزب العدالة اهتماماً كبيراً بمناطق الأكراد ضمن سياسته لإعطاء أولوية للتنمية.
ولكن بعد تدهور الأوضاع في سوريا والعراق، أصبح قادة أكراد البلدين يعتقدون أن الفرصة متاحة لتأسيس دولتين مستقلتين، ويبدو أن هذا شجع أكراد تركيا على استئناف حربهم ضد الحكومة.
فقد زاد التوتر وانعدمت الثقة بين الطرفين على خلفية الحرب في سوريا، ودور أحزاب الأكراد في العراق وسوريا وتركيا الذين يرتبطون ببعضهم بروابط وثيقة، في الحرب على تنظيم "داعش" بدعم من الولايات المتحدة، والموقف التركي الرافض لهيمنة أكراد سوريا على شمال البلاد على حساب المعارضة السورية.
كل ذلك عقد المشهد، وفي 22 يوليو/تموز 2015، انتهت عملية السلم الأهلي في تركيا بعد قيام حزب العمال الكردستاني بقتل اثنين من رجال الشرطة في منزليهما، وعادت الاشتباكات بين الجانبين مرة أخرى على خلفية الخلاف بشأن الأكراد السوريين.
إعادة إنتاج للماضي
نحن أمام معارضة لديها خطاب ثنائي التوجه كان سيقود إلى سنياريوهين مرجحين (خاصة في حال فوز المعارضة بالرئاسة والبرلمان).
- الأول كان يقوم على تقسيم السلطة بين زعماء المعارضة من أعضاء الطاولة السداسية، بما يعني فعلياً حالة من الفوضى، يصعب فيها اتخاذ القرارات من قبل رئيس لديه أربعة أو ستة نواب يجب استشارتهم ونيل موافقتهم في كل القضايا المهمة، حسب الاتفاق بين أعضاء الطاولة السداسية، وهو ما علق عليه الرئيس التركي، قائلاً: "إن الدول لا تدار هكذا".
وهذا السيناريو بالذات قد يؤدي إلى مشكلة في الحالة الكردية، لأن أحزاب المعارضة لم تفز بأصوات تذكر في انتخابات البرلمان في المناطق الكردية التي قسمت مقاعدها بين حزب الشعوب الديمقراطي وبين حزب العدالة والتنمية وحلفائه المحليين.
يعني ذلك أن كليجدار لو أصبح رئيساً فإن نفوذه السياسي في المناطق الكردية سيكون محدوداً، وبالتالي، بما أنه جاء بفضل دعم حزب الشعوب، فإنه قد يقدم له المقابل، وهو ترك المنطقة الكردية ساحة نفوذ له، وهذا الحزب الذي يعد الجناح البرلماني لحزب العمال الكردستاني معروف بقدرته على نشر نفوذه في أسوأ الظروف، وهذا الوضع سيضاعف قوته وسيحاول تعزيز مساعيه الانفصالية، مما يخلق حالة من القلق لدى القوى القومية والأمنية التركية من تغلغل الحزب.
- السيناريو الثاني، وهو أن الكتلة الصلبة للمعارضة التركية ذات التوجهات العلمانية والقومية الراديكالية ممثلة في حزب الشعب والحزب الجيد، قد تتخلص أو تهمش تحالفاتها مع الأحزاب المحافظة الصغيرة، وكذلك ستتخلى عن تحالفها الخفي مع حزب الشعوب الديمقراطي، وتعيد بناء السياسة التركية على نهجها القديم الذي يقصي المحافظين والأكراد على السواء، مستغلة حالة الغضب والتعصب التي باتت تنتاب الكتلة الأكثر راديكالية من المعارضة.
هذا الاحتمال ظهرت مؤشرات عليه في عودة الخطاب العدائي ضد المحافظين والممارسات التي سجلت ضد بعض المحجبات، رغم أن الانتخابات لم تستكمل، ورغم أن تحالف المعارضة مع أحزاب محافظة ما زال قائماً.
من الواضح تماماً من خطاب المعارضة، أننا لسنا أمام محاولة لبناء مرحلة جديدة من الليبرالية التركية، في مواجهة استبداد أردوغان المزعوم، بل إننا أمام إعادة محاولة لإعادة تركيا للوراء، تحت عنوان العداء للاجئين وعنوان آخر بدأ يعلو يعادي المحافظين.
ولكن هذه العودة ليست عبر موجة انقلابات جديدة، ولكن عبر سياسيين علمانيين قدامى يحاولون التخفف من خطابهم العلماني القديم قد يكون بعضهم لأسباب انتخابية، وآخرون قد يكون بسبب حدوث تغير أيديولوجي فعلي، ولكن معرفة مقدار التغير الحقيقي من ذلك النابع من أسباب انتخابية مسألة يصعب رصدها، كما أن حماسة الخطاب الإقصائي أمر يجعل سيطرة عقلاء المعارضة أمراً ليس باليسير، خاصة مع شيطنة حزب العدالة وأردوغان الجارية.
على الطرف الآخر، فإن هذا المشروع يشارك به سياسيون إسلاميون يعلمون خطورة مغامراتهم، ولكن خلافاتهم الشخصية مع أردوغان تجعلهم ينظرون تحت أقدامهم، كما أنهم مع تزايد الحماس الانتخابي لم يحاولوا حث حلفائهم العلمانيين على تطمين قاعدتهم المحافظة بشكل كافٍ (رغم أن وصول كتلة محافظة كبيرة عبر قوائم حزب الشعب قد توفر بعض الطمأنينة الواقعية، كما نسبت تصريحات منتقدة لهذا النهج لعدد من السياسيين المحافظين المتحالفين مع المعارضة).
بينما يبدو الآن، أردوغان أقرب للفوز، فإن مشكلة السياسة التركية الواضحة هي غياب خيار ليبرالي معارض، بالنسبة للناخب التركي، فالمعارضة تتكون من حزب الشعب العلماني الراديكالي، والحزب الجيد القومي شبه المتطرف، وحزب الشعوب القومي الكردي المتطرف، بينما المفارقة أن حزب العدالة والتنمية الذي يصنف نفسه محافظاً هو الحزب الوحيد الذي يقدم ضمانة لاستمرار حريات وحقوق كل مكونات المجتمع التركي، العلمانيين الذي لم تتأثر أنماط حياتهم المتحررة بأي شكل بعد 20 عاماً من حكم أردوغان، والمتدينين الذين استعادوا حرياتهم بعد عقود من القمع، والأكراد الذين نالوا حقوقاً ثقافية ودوراً في الحياة الاجتماعية والسياسية لم يكن يتوقعه أحد في تركيا قبل مجيء أردوغان للحكم.
والمفارقة أن أي ليبرالي أو يساري أو حتى قومي كردي صادق في أيديولوجيته ليس لديه بديل عن اختيار أردوغان حتى يستمر النموذج التركي المتنوع.