أكملت العاصمة السودانية الخرطوم شهرها الأول، ولأول مرة في تاريخها، تحت وابل النيران المتمردة، وكان السودانيون يمنون أنفسهم ألا تزيد الحرب على أيام معدودة، يقضي فيها الجيش السوداني على القوات المتمردة، ولكن الدرس القاسي الذي تعلمه السودانيون أن مدى وأمد هذه الحرب سيمتد كثيراً.
الأسباب الرئيسية لإطالة أمد الحرب تكمن في انتقال قوات الدعم السريع إلى الخطة (ب)، باستخدامه للمواطنين كدروع بشرية، واحتلاله للمستشفيات والمؤسسات الخدمية؛ ما أعاق الجيش السوداني من استخدام الأسلحة الثقيلة الكفيلة بحسم المعركة، لحماية المدنيين والمنشآت المدنية.
رغم أن الجيش قد قضى في الضربة الأولى على 80% من الإمكانيات الحربية للتمرد، وقطع وسائل الاتصال فيما بينهم، ودمر كل معسكراتهم وحاصرهم وقطع طرق الإمداد عنهم، إلا أن "قوات الدعم السريع" بعد أن يئست في تحقيق خطتها الأولى بالاستيلاء على السلطة، فقد تحولت إلى الخطة (ب)، وهي استباحة الخرطوم.
فتحول الآلاف من قواته إلى عصابات لا يربط بينها اتصال، فعاثت "قوات الدعم السريع" فساداً في الخرطوم بالنهب والسلب والإتلاف والكسر والحرق، للبنوك والأسواق والمتاجر ومؤسسات الدولة والجامعات ومقرات البعثات الدبلوماسية، وحتى منازل المواطنين.
على الرغم من كل الجرائم التي ارتكبتها "قوات الدعم السريع"، إلا أن الشعب السوداني ظل صابراً وصامداً ومتفهماً لطبيعة الحرب وخسائرها، وأخرج العديد من المسيرات ملتفاً حول قواته المسلحة وداعماً لها، ومطالباً بالحسم العسكري كوسيلة وحيدة للقضاء على "قوات الدعم السريع".
إلا أن رئيس المجلس السيادي السوداني "عبد الفتاح البرهان" فاجأ الجميع بالموافقة على إجراء مفاوضات مع المتمردين في جدة وبوساطة أمريكية سعودية، ولامتصاص هول هذه الصدمة تم الإعلان عن أنها مفاوضات محصورة فقط في القضايا الإنسانية ثبت لاحقاً كذب هذا الادعاء وخداعه. ثم تفاجأ السودانيون أيضاً بالوفد الحكومي يسافر إلى جدة ليوقع على اتفاق حول القضايا الإنسانية.
ورغم أن صياغة الاتفاق في ظاهرها ركزت فعلاً على الجوانب الإنسانية بمهنية عالية، إلا أنها دسّت السم في العسل. ورغم كثرة الملاحظات الإيجابية في بنود الاتفاق، إلا أن بعض بنوده كفيلة بأن تقلب الطاولة على الاتفاق كله، لأنها تعيد للتمرد قبلة الحياة من جديد بعد أن كاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويستطيع من خلالها إعادة ترتيب أوضاعه وتعويض خسارته من الحرب.
النقاط الإيجابية في اتفاق "جدة"
أولاً: كل نقاط الاتفاق محصورة فقط في تدعيم حقوق الإنسان وحمايتها وفق القانون الدولي الإنساني، والجيش السوداني أصلاً ملتزم بها مسبقاً، أي إن الاتفاق غير معني بالقضايا القانونية أو السياسية أو الأمنية للطرفين، لأن هذه ساحتها مكان آخر غير قاعات التفاوض.
ثانياً: الاتفاق غير معني بوقف القتال ولا وقف العدائيات، وإنما أشار إلى وقف إطلاق نار قصير للمسائل الإنسانية، إذاً يمكن للجيش أن يواصل العمليات الحربية التي تمكنه من سحق القوات التي تمردت عليه.
ثالثاً: الاتفاق يؤمّن المدنيين وهم يعيدون ترتيب أوضاعهم، مثل استلام منازلهم التي احتلتها "قوات الدعم السريع"، توثيق الجرائم التي ارتكبها في حقهم، سلامة حرية التنقل ومغادرة مناطق النزاع الملتهبة إلى الوجهة التي يريدونها.
رابعاً: نصوص الاتفاق تعتبر مرجعاً بشهادة الوسطاء يوثق جرائم الحرب التي ارتكبتها "قوات الدعم السريع" مثل احتلال المستشفيات، واستخدام المدنيين كدروع بشرية، والقتال وسط الأحياء السكنية… إلخ، ويتم توثيق هذه الجرائم عند إخلاء التمرد منها.
خامساً: الاتفاق يسهّل للجيش حسم المعركة، وذلك بالبنود التي تنص على سحب المتمردين من الأحياء السكنية ومن المنشآت الخدمية وانتقالهم إلى أماكن يسهل فيها القتال. كما يتيح الفرصة لجنود "الدعم السريع" الذين يرقبون في تسليم أنفسهم وترك التمرد.
البنود المفخخة في اتفاق "جدة"
أولاً: لم يوضح الاتفاق إلى أين وكيف يتم إجلاء القوات المتمردة من المستشفيات والمنازل في الأحياء السكنية التي احتلوها، ولم يحدد ما إذا كان الإجلاء سيكون إلى مكان واحد أو لعدة أمكنة، وهل داخل أم خارج العاصمة، ومن الذي يحدد ذلك.
ثانياً: ذكر البيان المنفصل للوسطاء بنداً ليس مكتوباً في الاتفاق، فبعد توقيع الاتفاق بين وفدي الحكومة والمتمردين، أخرج الوسطاء بياناً منفصلاً ذكروا فيه بندين، غير موجودين في الاتفاق الأساسي الموقّع بين الطرفين المتحاربين. البند الأول هو ابتدار جولة أخرى من التفاوض خاصة بالقضايا السياسية يشارك فيها مدنيون.
خطورة هذا البند هي إعطاء "قوات الدعم السريع" شرعية لا يستحقها في مناقشة القضايا السياسية، يستعين فيها بعملائه من المدنيين لتمرير مشاريعهم الاستقصائية التي تخدم مصالح وأجندة الدول الأجنبية، وخير مثال لهذه المشاريع هو ما يعرف بالاتفاق الإطاري، وهو السبب الرئيسي لاندلاع الحرب حسب إفادة قائد التمرد نفسه.
ثالثاً: ذكر البيان المنفصل للوسطاء أيضاً بنداً ليس مكتوباً في الاتفاق الأساسي، وهو أن المراقبة الدولية ستكون هي المسؤولة عن تحديد مدى التزام كل طرف بالاتفاق، خطورة هذا البند هي تدويل القضية في يد قوى منحازة لها أجندتها الخاصة.
رابعاً: يتم إخلاء جرحى "قوات الدعم السريع" بواسطة منظمات الإغاثة الأجنبية دون تمييز ودون مراقبة من الحكومة، ما يتيح للتمرد إجلاء قادته المحاصرين وانقاذهم من قبضة الجيش السوداني، ومن إجلاء هؤلاء القادة كتبت كلمة دون تمييز.
خامساً: السماح بحرية الحركة للإغاثة وتوزيعها وعدم مراقبة أو مرافقة العاملين عليها، هذا البند سوف يُوظّف لصالح المتمردين بإمدادهم بكل ما يحتاجونه من الطعام حتى بالسلاح ودون مراقبة، وللسودان تجارب قاسية مماثلة في الاتفاقيات السابقة.
سادساً: من أخطر ما في هذا الاتفاق هو رضوخ السيد البرهان لشرط المتمردين، باعتبار أن وفده ممثل للقوات المسلحة وليس ممثلاً لحكومة السودان.
الخلاصة
يعجز المرء أن يفهم لماذا أقدم السيد "البرهان" على كل هذه التنازلات الجوهرية؟ ولماذا وافق على كل هذه البنود الخطيرة في وقت الجيش السوداني فيه مسيطر على الأرض ومتقدم وكسر شوكة "قوات الدعم السريع"؟ والشعب السوداني كله ملتف حول جيشه ويقف معه ويطالبه بالحسم العسكري، ولا يوافق على مبدأ التفاوض حتى وإن كانت البنود كلها لصالحه، فما بالك إذا جاءت البنود بمثل هذه الخطورة!!
إن الشعب السوداني يدرك تماماً أن العمل الإنساني في جوهره ما هو إلا غطاء استخباراتي تستغله الدول الأجنبية والمنظمات في جمع المعلومات وفبركة التقارير والترويج السياسي والإعلامي، ما يشكل تحدياً حقيقياً لأمن الدولة، وشرياناً يمنح المتمردين طوق النجاة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.