الاقتصاد المصري في رحلة سقوط حر.. هل توجد خيارات إنقاذ ممكنة قبل فوات الأوان؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/05/14 الساعة 11:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/05/14 الساعة 11:29 بتوقيت غرينتش
تعاني مصر من أزمة ديون حادة

خفضت الوكالات الدولية التصنيف الائتماني لمصر مرة أخرى، فإلى أين يتجه السقوط الحر لاقتصاد أكبر دولة عربية من حيث السكان؟ وما خيارات الإنقاذ المتاحة؟

كانت وكالة موديز قد وضعت، يوم 9 مايو/أيار 2023، تصنيف مصر الائتماني قيد المراجعة، تمهيداً لخفض ثان محتمل، بعد خفض سابق في فبراير/شباط الماضي من BB2 إلى B3.

وذلك بعد 3 أيام فقط من تخفيض وكالة فيتش تصنيف مصر للمرة الأولى منذ 2013 من  "B+" إلى "B"، كما عدلت نظرتها المستقبلية من مستقرة إلى سلبية. وفي أبريل/نيسان الماضي، أعلنت وكالة ستاندرد آند بورز نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى سلبية، مع إبقاء تصنيفها عند "BB".

لماذا يتم تخفيض تصنيف مصر الائتماني؟

في تقريرها الخاص بوضع تصنيف مصر الائتماني الأخير قيد المراجعة، حذرت وكالة موديز من أن التقدم البطيء لبرنامج بيع الأصول الحكومية يهدد بتقويض خطط التمويل في اقتصاد مصر، وإضعاف سيولة النقد الأجنبي، وتقويض الثقة في العملة.

ففي ظل معاناة الاقتصاد المصري بشدة من نقص حاد في العملات الأجنبية، وفجوة دولارية تزداد اتساعاً كل يوم، قررت القاهرة، منذ فترة طويلة، عرض كثير من الشركات العامة والمملوكة للجيش للبيع، سواء كلياً أو جزئياً، وكانت آخر خطوة في هذا الاتجاه الإعلان عن عرض 32 شركة للبيع، وكان ذلك قبل أكثر من 6 أشهر.

لكن عملية بيع تلك الشركات لا تسير بالسرعة التي كانت متوقعة، في ظل تسابق صناديق الثروة السيادية في دول الخليج على ضخ استثمارات في مصر، من خلال شراء الأصول المملوكة للدولة، حيث بدا أن هذا الحماس قد تراجع مؤخراً.

وفي هذا السياق، نشرت صحيفة Financial Times البريطانية تقريراً قبل أيام، يشير إلى تعليق صندوق أبوظبي السيادي، وهو أداة الاستثمار الرئيسية في الإمارات، خططَ ضخ مزيد من الاستثمارات في مصر في الوقت الراهن، وهو أمر أثار التساؤلات بشأن الأسباب التي أفقدت الإمارات "شهيتها" للاستثمار، بالاستحواذ على الشركات المصرية المعروضة للبيع.

لكن الأمر لا يتعلق بالإمارات فقط، فالأمر نفسه ينطبق على صناديق الثروة السيادية في السعودية وقطر، وإن تباينت المواقف والأسباب. وكان تقرير لشبكة CNN الأمريكية، مطلع مارس/آذار الماضي، قد تحدث أيضاً عن النقطة ذاتها، أي التردد الخليجي في ضخ استثمارات في مصر.

اقتصاد مصر
الجنيه المصري -تعبيرية/ getty images

وفي 3 مايو/أيار، أعلنت شركة الدار العقارية (الدار)، أنها ستُوقف الاستثمار مؤقتاً في مصر، في انتظار استقرار الأوضاع الاقتصادية الداخلية للبلاد. وفي 1 مايو/أيار، أعلنت شركة التجزئة السعودية المتحدة للإلكترونيات (إكسترا)، عن وقف خطط التوسع الاستثماري في مصر بعد دراسة جدوى.

منصة "أسباب" المتخصصة في التحليل الاستراتيجي رصدت كيف تضع تقييمات مؤسسات الائتمان الدولية السلبية ضغوطاً هائلة على اقتصاد مصر والحكومة المصرية، التي تُواصل الاعتماد المفرط على الاستدانة من الخارج.

فهذه التصنيفات السلبية ستحد من قدرة الحكومة المصرية على إقناع رؤوس الأموال والاستثمارات بالمجيء إلى البلاد، كما ستجعل سندات مصر السيادية غير جذابة أكثر، وهو ما يضطر الحكومة للاستدانة بمعدلات فائدة مرتفعة.

على سبيل المثال باعت مصر، في فبراير/شباط، 1.5 مليار دولار صكوكاً بفائدة 11%، من أجل سداد ديون سندات اليوروبوندز، التي باعتها بفائدة 5.57% فقط.

ما مطالب صندوق النقد الدولي من مصر؟

إن العودة إلى اتفاق صندوق النقد الدولي الأخير مع مصر، ومتطلبات ذلك الاتفاق، تُلقي مزيداً من الضوء على الصورة الكاملة للمعضلة الحالية. فالاتفاق الموقَّع في ديسمبر/كانون الأول 2022، بضمانات خليجية، اشترط أن تقلل الدولة من دور الجيش في اقتصاد مصر، وتحسين ظروف المنافسة للقطاع الخاص، فضلاً عن مرونة سعر صرف العملة المحلية (الجنيه) مقابل الدولار الأمريكي والعملات الأجنبية الأخرى بشكل عام.

وبينما كان من المقرر، في 15 مارس/آذار 2023، إجراء أول مراجعة من ثماني مراجعات لصرف دفعات برنامج المساعدات الذي مدته 46 شهراً، إلا أن المراجعة لم تتم، ما يشير إلى رغبة صندوق النقد الدولي في رؤية بدء التنفيذ الجاد للإصلاحات قبل الشروع في صرف المساعدات.

ورغم اجتماع لجنة السياسات المالية في مصر، يوم الخميس 30 مارس/آذار الماضي، واتخاذ قرار رفع جديد لأسعار الفائدة بنسبة 2%، فإن السعر الرسمي للدولار في البنوك الرسمية ظلَّ على حاله عند مستوى أقل من 31 جنيهاً للدولار، بينما تخطَّى السعر في السوق الموازية (السوق السوداء) حاجة 40 جنيهاً، بحسب وسائل الإعلام المحلية.

وعلى الأرجح، ستزيد تلك التخفيضات في التصنيف الائتماني من الضغوط على الحكومة المصرية، والتي سترى أن تقييمات المؤسسات الدولية لا تنفصل عن ضغوط صندوق النقد.

من جهة أخرى يتماشى توجه الشركات الخليجية مع قرارات حكومات دول الخليج، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والكويت، لربط الدعم المالي بإحراز تقدم في الإصلاح الاقتصادي، كما سبق أن أعلن وزير المالية السعودي، محمد الجدعان.

كان وزير المالية السعودي قد صرَّح أمام مؤتمر دافوس الاقتصادي، في يناير/كانون الثاني الماضي، قائلاً: "كنا في الماضي نقدم منحاً مجانية مباشرة بدون قيود، ونقوم الآن بتغيير هذا (السلوك). إننا نفرض ضرائب على أبناء شعبنا ونتوقع من الآخرين أن يفعلوا الشيء نفسه".

وبحسب تقرير فايننشيال تايمز، يرجع تأخر بيع الأصول المصرية إلى اتخاذ الدول الخليجية موقفاً أكثر صرامة، يتمثل في الإصرار على تطبيق الحكومة المصرية إجراءات بعينها، تتعلق بالإصلاح الاقتصادي، وكفّ يد الدولة عن المنافسة مع القطاع الخاص، إضافة إلى التباين الضخم في عملية تقييم سعر الشركات محل التفاوض.

مصر
رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي – رويترز

أحد المصرفيين الدوليين المشاركين في عمليات التقييم، قال للصحيفة البريطانية: "موقف مصر قائم على تقييم الأصول بأسعار سوقية مرتفعة للغاية، لأن الجانب المصري يجادل بأن الأسعار السوقية الحالية متدنية، ولا تعكس القيمة على المدى البعيد". ويضيف المصدر أن هناك "اختلافاً شاسعاً بين الجانبين".

أما السبب الآخر لفتور الحماس الخليجي فمرده وضع الجيش في الأنشطة الاقتصادية، إذ شككت مصادر للفايننشيال تايمز، في رغبة قيادات الجيش المصري بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، في إدخال إصلاحات اقتصادية من شأنها أن تحد من المصالح الاقتصادية للمؤسسة العسكرية، التي توسعت أنشطتها بشدة لتشمل الزراعة وصيد الأسماك والمقاولات ومصانع الأغذية.

وقال مصرفي آخر للصحيفة إن "هناك ضيقاً شديداً وإحباطاً في السعودية، دفع البعض في الرياض إلى القول إنهم (المصريون) يظنون أنه من السهل أن يخدعونا. إنهم "السعوديون" يريدون إصلاحات حقيقية، وخطة إصلاح اقتصادي ممنهجة".

ما مطالب الاستثمار الخليجي؟

يوضح تردد الشركات مخاوف دول الخليج من أن الحكومة المصرية- وخاصة الجيش- غير جادة في تنفيذ هذه الإصلاحات، فعلى سبيل المثال قرر الرئيس عبد الفتاح السيسي، في يناير/كانون الثاني، تخصيص جميع الأراضي الصحراوية ضمن مسافة كيلومترين على جانبي 31 طريقاً شُيّدت حديثاً للقوات المسلحة من أجل التنمية.

وتتمثل المطالب الخليجية في جوانب ثلاثة رئيسية. أولاً: التمسك بشراء حصص أغلبية في الشركات التي طرحتها الحكومة المصرية للبيع، حيث تريد دول الخليج ممارسة حقها في إدارة المشروعات التي تستثمر فيها، وليس مجرد ضخ سيولة مالية للسوق المصري، مقابل شراء حصص أقلية بين 20-30% من الشركات، والتي لن تجعلها قادرة على إدارة استثماراتها وضمان ربحيتها.

ثانياً: تقديم ضمانات لعدم مزاحمة مشروعات الجيش للاستثمار الخاص والأجنبي، حيث لا تتمثل مزاحمة الجيش فقط من خلال امتلاكه لشركات استثمارية، ولكن لتمتعه باستثناءات واسعة، تجعل من غير الممكن اقتصادياً منافسة مشروعاته، وهو الأمر الذي يتطلب ليس فقط طرح شركتين أو ثلاثة من شركات الجيش للبيع، وإنما خروجه بالكامل من قطاعات اقتصادية.

ثالثاً: التقييم الحقيقي للجنيه المصري، والذي تحدد به قيمة أسهم الشركات المعروضة للبيع، حيث خسر الجنيه المصري 70% من قيمته حتى مايو/أيار 2023، على أساس سنوي، وأدى تردد الحكومة في تحرير سعر الصرف إلى فجوة كبيرة بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازي، حتى إن الملياردير المصري سميح ساويرس قرر عدم الاستثمار في أي مشروعات جديدة في مصر، بسبب الشكوك المستمرة تجاه سعر الصرف.

ما الخيارات المتاحة أمام مصر إذاً؟

تترك هذه التطورات الرئيس المصري أمام خيارات محدودة جداً، حيث بات انكشاف مصر أمام حلفائها الإقليميين أكثر من أي وقت مضى، في ظل اعتماد القاهرة الحصري على دعم دول الخليج المالي، وهو ما يزيد من تآكل نفوذ مصر الخارجي، ويحدّ من قدرتها على المضي قدماً في سياساتها الخارجية إذا تعارضت مع توجهات الداعمين، خاصةً المملكة العربية السعودية.

تراجع حماسة الحلفاء لتقديم دعم دون قيود، وموجة التشاؤم المتصاعدة إزاء وضع المستقبل المصري، وتمسك الرئيس المصري حتى الآن بنهجه الاقتصادي والسياسي على حد سواء، كلها أمور تدعو إلى مراجعة الفرضية السائدة طوال السنوات الماضية، وهي أن "مصر أكبر من أن تفشل"، والتفكير في مآل آخر لم يعُد مستبعداً، وهو أن تصبح "أكبر من أن يتم إنقاذها"، وللمفارقة هنا، يواجه النظام المصري شبح انهيار الاقتصاد المصري، ومخاوف تجدد الاحتجاجات الاجتماعية، وهي نفس التهديدات التي دفعته لتبني نهجه السياسي والاقتصادي منذ يوليو/تموز 2013.

الاقتصاد المصري مصر
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي/رويترز

وكان مستثمرون ومحللون قد دقوا ناقوس الخطر مؤخراً بأن تونس ومصر على شفا أزمة ديون كبرى، قد تؤثر على منطقة شمال إفريقيا المضطربة، إذ يواجه البَلَدان بالفعل تحديات بسبب نقص السلع الأساسية واختلال في الأسواق المالية، كما تشهد تونس أزمة سياسية، نجمت عن إحكام الرئيس قيس سعيد قبضته على السلطة وقمع المعارضين، بحسب تقرير لرويترز.

وتتعرض المالية العامة في مصر لضغوط هائلة، وتقترب نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بسرعة من مئة بالمئة. ومع فقدان الجنيه نسبة كبيرة من قيمته ستبتلع مدفوعات الفائدة على الديون وحدها- التي يتم اقتراض جزء كبير منها بالدولار أو اليورو أو الين- أكثر من نصف عوائد الحكومة العام المقبل، وفقاً لوكالة فيتش.

وقال ديفيد باتر، الزميل المشارك في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التابع لمؤسسة تشاتام هاوس البحثية، ومقرها لندن، لرويترز: "بالنسبة للسكان في الفترة حتى تفشي الجائحة كان هناك تحسن هامشي في مستويات المعيشة"، مضيفاً: "لكن منذ أواخر عام 2021 عُدنا إلى هذه الدوامة من عدم الاستقرار في سوق الصرف والتضخم الجامح".

تحميل المزيد