تقول إسرائيل إنها تستهدف حركة الجهاد الإسلامي، في محاولة لعزل فصائل المقاومة الأخرى عن جولة الصراع التي افتعلها بنيامين نتنياهو هروباً من الداخل المنقسم، فما فرص نجاح استراتيجية شق صف المقاومة هذه المرة؟
كانت إسرائيل قد أطلقت، فجر الثلاثاء 9 مايو/أيار، وابلاً من طائراتها ومسيّراتها القاتلة، استهدفت النائمين في غزة، فاستُشهد 13 شخصاً منهم 4 أطفال و4 نساء و3 من قادة الجهاد الإسلامي، في "حيلة" اعتادها نتنياهو للهروب من أزماته، وردت فصائل المقاومة بإطلاق عشرات الصواريخ من القطاع المحاصر، وصل بعضها إلى تل أبيب.
ولليوم الثاني على التوالي، واصل الاحتلال استهداف غزة، معلناً أنه يستهدف أهدافاً تابعة لحركة الجهاد الإسلامي، بينما ردت المقاومة بإطلاق مئات الصواريخ عبر الحدود، مما أدى إلى إطلاق صفارات الإنذار حتى تل أبيب.
إسرائيل المنقسمة داخلياً و"حيلة" نتنياهو
هذه الجولة من التصعيد تأتي في ظل مرور الداخل الإسرائيلي بانقسامات حادة هي الأخطر منذ تأسيس دولة الاحتلال قبل 75 عاماً، بسبب سعي الحكومة الأكثر تطرفاً برئاسة نتنياهو إلى القضاء بشكل نهائي على حل الدولتين وابتلاع كامل الأراضي الفلسطينية، من خلال التوسع في ملف الاستيطان وتهجير الفلسطينيين من القدس الشرقية تماماً لإكمال عملية التهويد، التي تشمل المسجد الأقصى.
ويحظى التصعيد ضد الفلسطينيين بشعبية داخل دولة الاحتلال، إلا أن الانقسام الداخلي في إسرائيل يتعلق بالمشهد السياسي وإصرار نتنياهو، أكثر من شغل منصب رئيس الوزراء في الدولة العبرية، على البقاء في منصبه بأي ثمن، تفادياً لانتهاء حياته السياسية خلف القضبان.
إذ يواجه نتنياهو محاكمات جارية في ثلاث قضايا فساد وخيانة أمانة وتلقي رشوة، لذلك تحالف مع الأحزاب الدينية المتطرفة وزعماء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، لينضم إلى الحكومة شخصيات مدانة بالإرهاب والاحتيال المالي، من أمثال إيتمار بن غفير وزير الأمن الداخلي، وبتسلئيل سموتريتش وزير المالية، وغيرهما، ولهؤلاء أجندتهم المعلنة فيما يتعلق بالقضاء تماماً على الفلسطينيين عن طريق إبادتهم ما لم يقبلوا بالعيش عبيداً داخل إسرائيل.
ومنذ اللحظة الأولى لتشكيل تلك الحكومة، تصاعدت اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية والقدس المحتلة، ووضعت حكومة "السوابق" الاستيطان في طليعة ملفاتها، ليصبح التوتر سيد الموقف، لدرجة أن صحيفة The New York Times الأمريكية نشرت تقريراً يحذر من خطر التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما لا تريده إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، المشغولة بصراعاتها الخاصة مع روسيا، من خلال دعم أوكرانيا، ومع الصين، من خلال السعي لاحتواء "التنين" الذي يهدد هيمنة واشنطن العالمية.
ومن هذا المنطلق، ضغطت إدارة بايدن بشتى الطرق على حليفتها الصغرى لتوقف، ولو مؤقتاً، إجراءاتها الاستفزازية من التوسع في الاستيطان إلى هدم منازل الفلسطينيين والاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى والتضييق على الأسرى الفلسطينيين في سجونها، لكن دون جدوى.
لكن في الوقت نفسه، تعيش إسرائيل حالةً من التوتر الداخلي وتظاهرات غير مسبوقة منذ 18 أسبوعاً، تنذر بوقوع حرب أهلية، على خلفية التعديلات القضائية التي يريد نتنياهو وحلفاؤه في الحكومة وزير الأمن الداخلي ووزير المالية، وياريف ليفين وزير العدل تمريرها.
وقبل نحو شهر أجبرت المعارضة الداخلية والخارجية نتنياهو على تأجيل تمرير التعديلات القضائية، التي تصفها المعارضة بأنها "انقلاب" قضائي، وهو ما أغضب حلفاءه في الائتلاف الحكومي، فقدم تنازلاً خطيراً للغاية إلى بن غفير يتمثل في تشكيل ميليشيات مسلحة تتبع الوزير المتطرف، وهو ما أثار حفيظة وانتقادات الأجهزة الأمنية والعسكرية.
وفي الوقت نفسه، لم تتوقف الاحتجاجات الحاشدة الرافضة للتعديلات القضائية، وها هو موعد تمرير تلك التعديلات يقترب دون أن يلوح في الأفق أي تراجع من جانب المعارضة ولا من جانب حلفائه في الحكومة الائتلافية، ليجد نتنياهو نفسه "محاصراً" مرة أخرى.
محاولة شق صف المقاومة الفلسطينية
في ظل هذا الواقع المنقسم داخلياً بشدة، قرر نتنياهو انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار مع فصائل المقاومة، واستهدف جيش الاحتلال قادة حركة الجهاد الإسلامي، لتحقيق هدفين رئيسيين؛ الأول الهروب من المأزق الداخلي وتحويل الأنظار عن التشققات داخل إسرائيل نفسها. والثاني شق صف المقاومة بالتركيز على أن المواجهة ضد فصيل بعينه وهو حركة الجهاد الإسلامي، وليس باقي الفصائل، وخاصة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي تدير قطاع غزة.
وهذه الاستراتيجية ليست جديدة، بحسب مقال تحليلي نشره موقع ميدل إيست آي البريطاني عنوانه "لماذا ستفشل استراتيجية فرِّق تسُد في شق صف المقاومة في غزة؟"، رصد كيف أن العدوان على غزة هذه المرة كان مخططاً له من قبل، وهو ما أوردته صحف إسرائيلية مثل هآرتس وغيرها، رغم التوقعات بأن الهجمات الصاروخية ستوقع ضحايا مدنيين وليس فقط القادة المستهدفين.
وبعد إطلاق الغارات على غزة، أعلنت إسرائيل حالة التأهب القصوى وأوقفت الدراسة في المستوطنات المتاخمة للقطاع، فيما يعرف بغلاف غزة، وسط توقعات برد صاروخي من الجانب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه سارع مكتب نتنياهو بالتواصل مع مصر والأردن للتدخل وإقناع الفصائل الفلسطينية بعدم الرد، في محاولة لعدم انفجار الموقف.
حسابات نتنياهو تبدو واضحة تماماً، فهي ليست جديدة من الأساس، ويمكن إجمالها في عدة نقاط: الأولى هي استرضاء حلفائه في الحكومة، وبخاصة بن غفير الذي هدد بمقاطعة اجتماعات الحكومة اعتراضاً على عدم حضوره جلسات المجلس الوزاري الأمني المصغر، والنقطة الثانية هي توحيد الداخل الإسرائيلي، ولو مؤقتاً، أما النقطة الثالثة فهي شق صف المقاومة، من خلال الرهان على استبعاد حماس من الرد وإلا فسيتم استهداف قادتها أيضاً، وهذا ما عبَّر عنه تحليل لصحيفة جيروزاليم بوست عنوانه "مئات الصواريخ أطلقت من غزة، فما الذي لم يحدث؟".
ربما يكون نتنياهو قريباً من تحقيق بعض من أهدافه، كاسترضاء بن غفير أو التوحيد المؤقت للمعارضة الداخلية، وإن كان هذا الرهان قد فشل قبل عامين وفقد نتنياهو منصبه في نهاية المطاف رغم إشعاله حرب غزة في مايو/أيار 2021، إلا أن الواضح هو أن الهدف الرئيسي المتمثل في شق صفوف المقاومة الفلسطينية قد فشل.
نعم، ردت المقاومة بإطلاق وابل من الصواريخ على إسرائيل، وصولاً إلى تل أبيب وليس فقط غلاف غزة، لكن هذا الرد بدا محسوباً وموحداً وليس انفرادياً، أي من جانب الجهاد الإسلامي فقط، أو انفعالياً رغم الغضب الهائل في النفوس بسبب انتهاك إسرائيل المستمر لاتفاقيات الهدنة، وكان آخرها قبل أقل من أسبوع بوساطة مصرية، في أعقاب استشهاد الأسير خضر عدنان في سجون الاحتلال.
فغرفة العمليات المشتركة لحركات المقاومة في غزة أعلنت أن الفصائل موحدة وجاهزة للرد على الهجمات الإسرائيلية، وهو ما يشير بوضوح إلى فشل سياسة فرِّق تسُد، التي اتبعتها إسرائيل من خلال استهداف قادة الجهاد الإسلامي فقط. وهذا الموقف يجعل دولة الاحتلال في حالة من الترقب من جهة، ويفسح المجال أمام الوسطاء للضغط على حكومة نتنياهو من جهة أخرى، كما يزيد صورة إسرائيل حول العالم سوءاً.
فاستراتيجية الاحتلال القائمة على الفصل المادي بين أوصال فلسطين، في القدس والضفة الغربية وغزة، لم تنجح إلا في توحيد الفلسطينيين، بمن فيهم عرب 1948، في مواجهة العدوان بأشكاله المختلفة، والآن فشلت محاولة الإيقاع بين فصائل المقاومة في غزة من خلال استهداف قادة فصيل بعينه، وتحذير باقي الفصائل من التدخل أو الرد.
ماذا يعني الرد الموحد على إسرائيل؟
على الرغم من إعلان الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، والتي تضم الجهاد الإسلامي وحركة المقاومة الإسلامية حماس التي تتولى السلطة في القطاع، مسؤوليتها عن إطلاق الصواريخ، يقول مسؤولو جيش الاحتلال إنهم لم يروا أي دلالات على أن حماس أطلقت أي صواريخ بنفسها، في مؤشر واضح على أن نتنياهو يخشى اندلاع مواجهة شاملة، كما حدث في حرب غزة عام 2012، على عكس تصريحاته العلنية بالعكس.
فالموقف الأمريكي واضح، وهو التهدئة وعدم انفجار الأوضاع، وهذا نقله مستشار الأمن القومي جيك سوليفان خلال مكالمة الأربعاء مع رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنجبي، بحسب البيت الأبيض، الذي أصدر بياناً جاء فيه أن "سوليفان… أشار إلى جهود مستمرة في المنطقة للتوسط في وقف لإطلاق النار، وشدد على الحاجة إلى تهدئة التوترات ومنع المزيد من الخسائر في الأرواح".
استشهاد المدنيين، خصوصاً بين الأطفال والنساء، إضافة إلى كونه جريمة باتت معتادة من جانب الاحتلال، يضعف من موقف نتنياهو خارجياً ويزيد الضغوط التي يتعرض لها، حتى من جانب أقرب حلفاء إسرائيل، فالموقف بين بايدن ونتنياهو متوتر للغاية، لدرجة أن الرئيس الأمريكي يرفض استقبال رئيس وزراء إسرائيل في البيت الأبيض رغم عودة الأخير إلى منصبه قبل نحو 5 أشهر، وهي سابقة تاريخية في العلاقات بين الحليفين.
موقف الوسطاء، وخصوصاً مصر والأردن، هو الآخر يعد نقطة أخرى في المعادلة، حيث إن انتهاك إسرائيل المستمر للاتفاقيات التي يتم التوصل إليها عبر الوساطة يجعل هؤلاء الوسطاء أقل رغبة على الأرجح في ممارسة مزيد من الضغوط على الفصائل الفلسطينية، التي بات موقفها السياسي أكثر قوة بكثير في ظل وحدتها.
وفي هذا السياق، كانت القاهرة قد توصلت في أغسطس/آب الماضي إلى اتفاق هدنة بين دولة الاحتلال وحركة الجهاد الإسلامي كانت أحد بنوده توقف إسرائيل تماماً عن سياسة اغتيال القادة، وهو ما انتهكته حكومة نتنياهو بشكل فج وغير مبرر، من خلال عدوانها الحالي.
النقطة الأخرى في هذا السياق تتعلق بطبيعة رد المقاومة على الاعتداء الإسرائيلي الحالي، وهو رد محسوب شبهته صحيفة جيروزاليم بوست بما حدث في أغسطس/آب 2022، في مؤشر على أن التصعيد لا يزال في مرحلة يمكن احتواؤها، وذلك قياساً على نقطتين: الأولى تتعلق بالفاصل الزمني الخاص بإطلاق الصواريخ. والثانية تتعلق بأعداد ونوعية الصواريخ.
النقطة الأولى تشير إلى الفاصل الزمني بين الغارات الإسرائيلية على غزة (فجر الثلاثاء) وبين إطلاق الصواريخ كرد على تلك الغارات (ظهر الأربعاء)، وهو ما وصفته الصحيفة الإسرائيلية بأنه "فاصل زمني صادم" أربك قادة جيش الاحتلال ونتنياهو، الذين فوجئوا بما لم يتوقعوه.
النقطة الثانية تتعلق بعدد الصواريخ التي تم إطلاقها من غزة، والذي يتراوح بين 300 و400 صاروخ، وهو عدد صغير قياساً على ما حدث عام 2021، لكنه أشبه بما حدث في أغسطس/آب الماضي. ومن بين الصواريخ التي أطلقتها المقاومة كان هناك صاروخان استهدفا تل أبيب، مقارنة بما بين 130 و160 صاروخاً استهدفت تل أبيب بشكل يومي خلال مايو/أيار عام 2021.
تفسيرات تحليل جيروزاليم بوست لتلك الحقائق، من وجهة النظر الإسرائيلية بطبيعة الحال، تتمنى أن تكون الأسباب الكامنة وراء هذا الرد المحسوب من الجانب الفلسطيني لها علاقة بتأثير استشهاد القادة الثلاثة أو المخزون المحدود لدى المقاومة من الصواريخ، لكن الواقع يشير إلى حقائق أخرى مختلفة للغاية وهي على الأرجح حقائق لا تروق للاحتلال.
وقياساً على ما حققته المقاومة الفلسطينية في آخر مواجهة مفتوحة، حرب غزة 2021، من انتصار غير متوقع أجبر تل أبيب على الموافقة سريعاً على وقف إطلاق النار، رغم الفارق الضخم في الإمكانيات العسكرية المباشرة بين الطرفين، إضافة إلى فشل نتنياهو وقتها في التشبث بمنصبه، الواضح أن التصعيد إلى مستوى حرب شاملة ليس هدفاً لنتنياهو وحكومته، وهو أيضاً ليس هدفاً للمقاومة التي لم تبدأ الهجوم من الأساس رغم الاستفزازات المستمرة منذ تولي الحكومة الحالية المسؤولية.
لكن سواء تطورت الأمور إلى تصعيد مفتوح وحرب شاملة أم تم احتواء الموقف، كما هو مرجح، يظل الأمر الواقع حالياً هو فشل إسرائيل في القفز على انقساماتها الداخلية الخطيرة بشق صف المقاومة الفلسطينية.