كثيراً ما تستخدم قوى المقاومة في فلسطين مصطلح "معادلة الردع" إزاء جملة من التطورات الآنية أو الاستراتيجية في صراعها المحتدم مع الاحتلال الإسرائيلي. وتشكّل "معادلة الردع" إحدى محددات قواعد الاشتباك بين كلا الطرفين غير المتكافئين في القوة أو العتاد.
لقد عملت قوى المقاومة في فلسطين، وعلى مدار عقود من الصراع، على تطوير وتعزيز قدراتها العسكرية واللوجستية لفرض "معادلة ردع" بوجه احتلال متوحش ومتغطرس لديه من الإمكانات والقدرات العسكرية واللوجستية والتكنولوجية الأكثر تتطوراً في المنطقة. فهل نجحت قوى المقاومة الفلسطينية فعلاً في تحقيق تلك المعادلة؟ أم أنها أمام طريق طويل شائك محفوف بالكثير من التضحيات؟
بداية، لا بد من الإشارة إلى أن الصراع القائم بين الاحتلال الإسرائيلي وقوى المقاومة الفلسطينية، يوصف في العلم العسكري بـ"الصراعات/الحروب غير المتكافئة"، ما يعني أن الحرب التي يكون أحد طرفيها أضعف من الطرف الآخر من الناحية التنظيمية والقوة المادية، فيقوم فيها الطرف الضعيف بدراسة دقيقة لنقاط ضعف خصمه التي يمكن أن تلحق به خسارة كبيرة وتضعفه إذا قام باستهدافها.
يقوم هذا النوع من الحروب على عدم الالتزام بعقيدة معينة بالقتال، وإنما يبني الخصم أهدافه التي يريد تحقيقها على الظروف التي تولد بالمصادفة، ما يجعل التنبؤ المسبق بأعماله أمراً صعباً.
أما عن مفهوم نظرية "الردع"، فهي إحدى نظريات إدارة الصراع التي تستند أساساً على الأدوات العسكرية. كما تستند "نظرية الردع" على افتراض مفاده أن القوة هي أفضل علاج للقوة، فقوة الدولة هي العامل الأساسي لكبح جماح الآخرين، فعندما يتحقق لدولة ما تفوق في القوة فإنها تستطيع فرض إرادتها على الدول الأخرى، ولا يكبح جماحها إلا قوة أخرى مضادة لها أو متفوقة عليها، وهو ما تبنى عليه سياسة الردع أو ردع القوة.
أمام المفهومين أعلاه، يمكن أن نستخلص أنه في حالة الصراع الفلسطيني – الصهيوني، فإن حالة الردع تكمن لصالح العدو، وذلك لما يملكه من أدوات وإمكانيات وقدرات تفوق قدرات وإمكانات المقاومة بآلاف المرات.
فجيش الاحتلال الإسرائيلي، ترتيبه الـ20 عالمياً بحسب موقع global firepower لعام 2022. ويمتلك الاحتلال الاسرائيلي، قدرات تكنولوجية هائلة ومتفوقة، كما يمتلك قدرات أمنية واستخباراتية عالية. ويعتبر كيان الاحتلال الإسرائيلي واحداً من الدول التي بدأت تمتلك تقنيات الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى قوة اقتصادية وازنة في المنطقة وغيرها.
لكن رويداً رويداً، ففي الحالة الفلسطينية، ورغم حالة اللا تكافؤ في ميزان القوى بين طرفي الصراع، إلا أنني أعتقد أن قوى المقاومة الفلسطينية استطاعت أن تصنع وتصيغ مفهوماً خاصاً لـ"معادلة الردع" مع العدو الصهيوني.
المقاومة الفلسطينية بات لديها ما لديها من إمكانات عسكرية وصاروخية ولوجستية، وبات لديها من الخبراء القادرين على تقدير الموقف وتحديد مسارات وأولويات إدارة المعركة، أصبحت قادرة بفعل تصاعد قوتها ومستوى إدارتها على فرض "معادلة ردع" جديدة تربك حسابات دولة الاحتلال.
ففي معركة "سيف القدس" مايو 2021 قدمت المقاومة الفلسطينية نموذجاً رائعاً في إدارة المعركة عسكرياً وسياسياً وأمنياً، وكسرت قواعد الاشتباك، وكان ميزان النار من حيث النطاق والكثافة والقدرة على تعطيل الحياة وإحداث الأضرار داخل الكيان الصهيوني أكثر اتزاناً، وأكثر ضراوة، وأكثر إيلاماً.
وعلى مدار السنوات الماضية، دخلت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بصولات وجولات من القتال مع الاحتلال الإسرائيلي، وفي كل مرة، وعلى الرغم من الآلام والجراحات، بقيت شوكة المقاومة مغروسة في عنق الكيان المحتل، وبقي سيف المقاومة مسلولاً على رقاب القيادة السياسية والأمنية والعسكرية لديهم.
لقد أقدم جيش الاحتلال، باستهداف غادر لثلة من قيادات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وبحسب التقارير، فإن الحكومة الإسرائيلية فتحت مئات الملاجئ على بعد 40 كلم مربع من القطاع، ونشرت القبة الحديدية في نطاق واسع داخل أراضي فلسطين المحتلة، واستدعت الاحتياط، ورفعت حالة الجاهزية القصوى، عسكرياً وسياسياً وأمنياً.
المفاجأة المدوية كانت في العقل والتفكير اللذيْن وصلت لهما قيادة المقاومة، حيث أربكت حسابات قيادات الكيان في تأخير الرد على جرائمه، فكانت "معادلة الردع" تطوراً كبيراً للمقاومة وتفكيراً استراتيجياً لفصائلها، الأمر الذي أحرج حكومة "نتنياهو"، الذي حاول تسويق أنه هو من يقرر متى تبدأ أي عملية، ولكنه لا يعلم أنه لم ولن يكون آخر من ينهيها.
لقد أدخلت قوى المقاومة مفهوم "الصبر الاستراتيجي" في إدارتها تثبيت وإحداث "معادلة الردع" مع الاحتلال، واستطاعت أن تضع الحكومة الإسرائيلية كما الأجهزة الأمنية والعسكرية في حال قلق وحيرة وخوف وإرباك، إذ لم يعهد للمحتل أن يتأخر رد المقاومة إزاء أي عملية اغتيال أو ضربة أو استهداف، وعليه، فإن المقاومة إزاء "صمتها" استطاعت أن تشن حرباً نفسية ذكيّة وضعت كامل الكيان الصهيوني في تخبط بالغ.
أختم بالقول: إن حالة الردع التي فرضتها قوى المقاومة لم ولن تتآكل، والحرب سجال، واليوم باتت المقاومة تشكل رافعة وتدير المعركة باحترافية واقتدار عالييْن، وبذكاء متقن، وقادرة على استنزاف العدو بردها أو صمتها، والأيام دول، ولينصرنَّ الله من ينصره.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.