كل عام، وخلال هذا الاحتفال السنوي بيوم النصر في روسيا، تحظى الدبابة السوفيتية T-34 (تي 34) بمكانة مميزة؛ حيث تمثل لدى الروس رمزاً من رموز تفوق السوفييت على الألمان خلال الحرب العالمية الثانية. وفي ذكرى انتصارها على النازية 9 مايو/أيار، قدمت روسيا هذا العام استعراضاً عسكرياً متقشفاً لم تحضر به إلا تي-34، وغاب عنه لأول مرة الكثير من الأسلحة والدبابات المتقدمة ولم يتخلله استعراض جوي أيضاً. فما السبب وراء ذلك؟
استعراض الدبابة T-34.. أزمة في الأسلحة والمعدات، أم قرار رمزي؟
في الذكرى الـ 78 لانتصار الاتحاد السوفييتي على ألمانيا النازية، أثار غياب الدبابات المتقدمة والطائرات التي عادة ما يعرضها الكرملين حالة من الجدل والسخرية في آن واحد.
حيث جرت العادة أن تفرد روسيا في هذا الاستعراض السنوي عضلاتها وأن تعرض أحدث وأقوى ما لديها من أسلحة ومعدات عسكرية وصواريخ وطائرات، لكن استعراض هذا العام في الساحة الحمراء بموسكو، لم يغب عنه الاستعراض الجوي بالمقاتلات الحديثة في سماء العاصمة الروسية فحسب، بل أتى -إلى جانب بعض المدرعات- فقط بدبابة واحدة وحيدة تاريخية من طراز T-34 كانت قد استُخدمت في الحرب العالمية الثانية.
خلال السنوات الماضية، ألغيت في بعض المرات الاستعراضات الجوية أثناء احتفالات التاسع من أيار/مايو، غالباً بسبب سوء الأحوال الجوية، لكن الأجواء في موسكو هذا العام كانت مشمسة وصافية، ورغم ذلك، لم تحلّق المقاتلات الروسية فوق الساحة الحمراء.
الدبابات القتالية الحديثة غابت أيضاً عن الموكب، والذي شهد في السنوات الماضية عرضاً لأحدث الموديلات من الدبابات القتالية من طراز آرماتا أو T-14. لكن تلك الدبابات غابت هذا العام عن المشهد كلياً. وكانت وسائل الإعلام الروسية قد ذكرت في نيسان/أبريل أن الجيش الروسي استخدم دبابة آرماتا لأول مرة في الحرب ضد أوكرانيا.
تقول يلينا أورلوفا، إحدى المواطنات من موسكو والتي شاهدت المدرعات تسير خلال شارع نوفي آربات، قادمة من الساحة الحمراء: "هذا استعراض ضعيف، ليس هناك دبابات"، وتضيف أورلوفا لوكالة DPA: "نحن منزعجون. لكن، لا بأس، سيكون الأمر أفضل في المستقبل".
روسيا تتقشف عسكرياً في يوم النصر
تقول وكالة أسوشيتد برس إن الاستعراض العسكري في الساحة الحمراء انتهى على غير العادة في غضون أقل من ساعة. وحسب مراقبين، تحاول موسكو من خلال ذلك "التقشف" الملاحظ في الاستعراض السنوي أن تخفي مدى انخفاض قدرات جيشها منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
وفقاً لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، فإن 8 آلاف جندي شاركوا في الاستعراض، مقارنة بـ11 ألف جندي في استعراض العام الماضي، وهو ما يثير الكثير من علامات الاستفهام.
لكن المسؤولين الروس لم يقدموا أي تبرير حتى الآن للتخفيض الذي طرأ على الاستعراض، أو قدموا تبريراً فضفاضاً بأن هناك تهديداً أمنياً بسبب الحرب في أوكرانيا. وبحسب المعهد الأمريكي لدراسة الحرب Institute for the Study of War، ومقره واشنطن، فإنه من "المحتمل أن الروس استخدموا الهجوم بالمُسّيرات على الكرملين في الثالث من أيار/مايو كي يوسعوا دائرة إلغاء المواكب العسكرية" في 21 مدينة روسية في ذكرى يوم النصر.
أين هي المعدات العسكرية الروسية؟
هذا الاختزال في الاحتفالات والاستعراضات، يرى فيه المعهد الأمريكي المذكور وسيلة للكرملين من أجل إخفاء التدهور الذي تشهده قواتها ومعداتها؛ "لأن هكذا فعاليات تعرض بشكل واضح معدات عسكرية متقدمة"، وهذه المعدات إما تحتاجها روسيا الآن بشكل ماس لعملياتها في أوكرانيا، أو ببساطة تدمرت في الحرب الدائرة منذ 14 شهراً، حسب تقدير المعهد.
وحسب ما يقدر موقع "المها" Oryx فقد خسرت روسيا في حربها في أوكرانيا حتى الآن بما معدله 150 دبابة شهرياً.
أما كير جايلز، خبير الشؤون الروسية في معهد دراسات "تشاتهام هاوس" اللندني المرموق، فيقول: "من المفترض أن يكون هذا (الاستعراض) بمثابة تحفة للقوة العسكرية الروسية. لكن الكثير من تلك القوة العسكرية قد تم تدميره بالفعل في أوكرانيا، بحيث أن روسيا ليس لديها سوى القليل لتظهره في استعراضها في الساحة الحمراء".
سخرية على مواقع التواصل
بعد هذا الاستعراض الضعيف، استخدم العديد من المراقبين العسكريين الغربيين وسائل التواصل الاجتماعي للسخرية من روسيا وحتى من بوتين بشكل مباشر. ومن بين أولئك الذين شاركوا في حملة السخرية هذه، كان أنطون جيراشينكو، مستشار وزير الشؤون الداخلية في أوكرانيا، والذي أعلن نفسه العدو الرسمي للدعاية الروسية. وأشار إلى أن وزارة الدفاع الروسية فشلت في نشر أي معلومات عن المشاركين في العرض، في تناقض واضح مع السنوات الماضية.
وأشار جيراشينكو إلى أن "العرض في موسكو لم تكن به أي دبابات حديثة أو مركبات قتال مشاة أو طيران، لقد كان من أصغر العروض في تاريخ روسيا، واستغرق أقل من 10 دقائق"، حسب تعبيره.
من جهته، أشار موقع الأخبار العسكري Tendar بالقول: "إنه أكثر عرض عسكري مهين رأيناه في موسكو على الإطلاق. إنه أمر مثير للشفقة للغاية لدرجة لا تستطيع معها التوقف عن الضحك. مجرد دبابة واحدة من طراز T-34، الدبابة الوحيدة".
وتقول مجلة Forbes الأمريكية: "من شبه المؤكد أن روسيا اضطرت إلى تقليص عرض الدبابات والعربات المدرعة الأخرى بسبب حقيقة أنها فقدت أعداداً كبيرة من المعدات الحديثة في القتال في أوكرانيا". بالإضافة إلى ذلك، تم تداول مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي في الأشهر الأخيرة تُظهر نشر أجهزة قديمة من الحرب الباردة، بما في ذلك دبابات T-54/55 و T-62 يتم إرسالها على عربات السكك الحديدية إلى ميدان الحرب.
ومع ذلك، فإن السؤال الذي لم يُطرح على وسائل التواصل الاجتماعي هو: لماذا لم تنشر روسيا المزيد من دبابات T-34 التي تعود إلى حقبة الحرب العالمية الثانية. من المعروف أن الكرملين بذل جهوداً كبيرة للحصول على الدبابات لاستخدامها في المسيرات والأفلام ذات الطابع الوطني، حتى أنه اشترى حوالي 20 دبابة أثرية من لاوس في عام 2019.
لكن قد تكون لدى موسكو وجهات نظر أخرى من خلال هذا الاستعراض الضعيف؛ مثل تعبيرها رمزياً أنه بإمكان روسيا الانتصار على أعدائها اليوم بسلاح واحد، كما فعلت ذلك من الألمان قبل 78 عاماً، لكن الحقيقة أن موسكو باتت تحتاج اليوم لأي سلاح كان شكله، حديثاً أم قديماً، للانتصار في هذه المعركة.
دبابة تي 34 الأسطورية التي صنعها السوفييت في أوكرانيا
وتعتبر دبابة تي 34 من أقدم الدبابات السوفييتية وأكثرها أسطورية، حيث باشر السوفييت بالعمل على تطوير نموذج دبابة تي 34 داخل أروقة مصنع العربات القاطرة خاركوف كومنترن (Kharkov Komintern) بأوكرانيا عام 1937 تحت إشراف المهندس والمصمم ميخائيل كوشكين (Mikhail Koshkin).
ومطلع العام 1939، ظهرت أولى النسخ من دبابة تي 34. وإضافة لامتلاكها عدداً من خاصيات الدبابات السابقة، زوّدت تي 34 بدروع أمامية بلغ سمكها 45 ملم وتميزت بدرجة انحناء قدرت بحوالي 60 درجة. وبفضل درجة الانحناء هذه، حصلت دبابة تي 34 على خاصية جديدة لمقارعة القذائف المضادة للدبابات حيث ارتدت الأخيرة حال ارتطامها بدروعها.
من جهة ثانية، توجب على هذه القذائف اختراق حوالي 50 ملم من الدروع لبلوغ المركز الداخلي لدبابة تي 34 وقتل من تواجدوا داخلها. أيضاً، زوّدت هذه الدبابة السوفييتية الجديدة بمحرك في 12 (V12) خوّل لها بلوغ سرعة قصوى قدرت بنحو 55 كلم بالساعة أثناء سيرها على الطرقات المعبّدة. ومن ناحية التسليح، سلّحت تي 34 بمدفع إل 11 (L11) عيار 76 ملم.
تدريجياً، توسعت عملية إنتاج هذا النوع من الدبابات لتطال مصنع الجرارات بستالينغراد. وخلال سنوات الحرب، أدخل الاتحاد السوفييتي تحويرات وإصلاحات على تصاميم تي 34 قبل أن ينتج نسخاً أخرى منها. وعلى حسب التقارير السوفييتية لعام 1941، امتلك الجيش الأحمر حوالي ألف دبابة تي 34 عند بداية الاجتياح الألماني للأراضي السوفييتية يوم 22 حزيران/يونيو 1941.
وخلال الحرب العالمية الثانية، شاركت تي 34 بأغلب معارك الجيش الأحمر البرية. وبالحرب الباردة، تواجدت هذه الدبابة بنزاعات عديدة حيث شاركت بالحرب الكورية والحرب الأهلية الأنغولية وحروب يوغوسلافيا وحرب فيتنام وحرب 1967 وحرب أكتوبر.