حملة إعلامية غربية ضد أردوغان تتصاعد مع اقتراب الانتخابات التركية، تتم بانحياز فج خال من المهنية بشكل أثار استياءً في الرأي العام التركي الذي اعتبرها تدخلاً في شؤون بلاده الداخلية، ورغم أن الحملة يبدو أنها تأتي بنتيجة عكسية في تركيا، ولكنها تثير تساؤلات عن سر الانزعاج من الرئيس التركي، ومن المتسبب في هذه العلاقة المتوترة بين أردوغان والغرب، هل النخب الغربية أم أردوغان؟
وشكل تقرير لصحيفة الإيكونوميست البريطانية نموذجاً واضحاً لهذه الحملة، لدرجة دفعت أردوغان للرد عليها، وكذلك وزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو، الذي قرر عدم نشر مقالة كان مقرراً أن يكتبها للصحيفة بسبب انحيازاتها الفجة.
في المقابل تتجاهل الصحف والنخب الغربية التي تعتبر نفسها حاملة لواء الحقوق واليسار والقيم الليبرالية الخطاب العنصري للمعارضة التركية ضد اللاجئين السوريين وتهديدها بإعادتهم قسراً لبلادهم إذا فازت بالانتخابات بالمخالفة للقوانين والمواثيق الدولية، مع علمها بأن رئيس النظام السوري بشار الأسد لا يريد عودتهم، الأمر الذي قد يؤدي إلى أزمة إنسانية خطيرة سوف تؤثر على أوروبا نفسها.
المفارقة الثانية، أن هذا الهجوم المستمر على الرئيس التركي يتناقض مع الخطاب الإيجابي الذي كان يتحدث به الغرب عن أردوغان وحزب العدالة والتنمية عندما تولى السلطة، في عام 2002، حيث نظر له كنموذج لحزب يمين الوسط المعتدل الذي يتبنى القيم الليبرالية مع جذور إسلامية ويقود عملية إصلاح هيكلية للدولة التركية.
الانتقادات الغربية تتزايد، رغم أن نهج الحزب لم يتغير كثيراً، وأصبحت تركيا بلد الحريات الليبرالية والدينية، فبات الحجاب بلا قيود في تركيا بعد أن كانت ابنة أردوغان عندما كان رئيساً للوزراء قد حرمت من تلقي تعليمها في جامعات تركيا بسبب حظر الحجاب وذهبت لتتعلم في أمريكا، بل كان الرئيس السابق أحمد نجدت سيزار لا يدعو قرينة أردوغان وهو رئيس الوزراء (أعلى سلطة تنفيذية بالبلاد) للقصر الرئاسي لأنها محجبة.
في المقابل في ظل حكم حزب العدالة، تزايدت الحريات الفردية الليبرالية ولم يتم فرض أي قيود على غير المحجبات أو السلوكيات التي يعتبرها المحافظون في كل العالم الإسلامي منافية للإسلام، بل يتعايش النمط المحافظ المتدين بجانب العلماني المتحرر في تركيا، (وإن كان ما زال المحجبات يعانين أحياناً من بعض الممارسات التمييزية الفردية في بعض معاقل العلمانيين).
كما سمح للأكراد بممارسة واسعة لحقوقهم الثقافية عكس الوضع قبل حكم أردوغان.
لماذا أقام أردوغان علاقة جيدة مع خصوم تركيا التاريخيين في أوروبا؟
أحد المؤشرات على أن المشكلة لدى الغرب أكثر منها لدى أردوغان أن الرئيس التركي أقام علاقة وثيقة مع قادة روسيا ودول أوروبا الشرقية (مثل أوكرانيا وبولندا وصربيا والمجر) وكذلك قادة جنوب أوروبا (إيطاليا وإسبانيا).
علماً بأن هذه الدول بينها وبين تركيا ولا سيما الدولة العثمانية مرارات تاريخية كبيرة.
فروسيا هي عدو أنقرة التاريخي، وصربيا خضعت لحكم الدولة العثمانية لقرون، ويعتبر الصرب معركة كوسوفا التي أنهت وجود دولتهم أسوأ يوم في تاريخهم، ورغم ذلك هناك علاقة وثيقة بين صربيا وتركيا، بل إن مسؤولي صرب البوسنة المشهورين بتعصبهم العرقي والديني طالبوا في أحد فصول أزمتهم مع مسلمي البوسنة في 2021 من أردوغان الوساطة؛ في مؤشر على ثقتهم به رغم علمهم بدعمه القوي لمسلمي البوسنة.
تبدو مشكلة أردوغان بالأساس مع دول شمال أوروبا وأمريكا وهي الدول نفسها التي تفرض أشكالاً من الوصاية على دول شرق وجنوب أوروبا، مما أثار غضباً يظهر واضحاً في بولندا وإيطاليا تحديداً.
أراد أن يكون شريكاً للغرب لا تابعاً، ولكن أوروبا قلعة مسيحية مغلقة أمام المسلمين
بعد وصول حزب العدالة للحكم، كان واضحاً أن الغرب يريد منه لا أن يجعل تركيا شريكاً، بل طوع يد الغرب، تنفذ أوامره، وتخضع لوصاية أوروبية أمريكية مشتركة عنوانها الزائف تقييم مدى قدرتها على التأهل للانضمام للاتحاد الأوروبي، وهو الملف الذي حققت به أنقرة معظم المطلوب دون تجاوب يذكر من الاتحاد الأوروبي الذي كان واضحاً أنه لا يتقبل فكرة انضمام دولة إسلامية كبيرة السكان مثل تركيا، وأن يصبح لها الوزن التصويتي الأكبر، بما في ذلك حق الفيتو، على بعض القرارات.
وقد تكون إحدى الدلائل على ذلك أنه عقب إحدى جولات المماطلات الطويلة في مفاوضات تركيا مع الاتحاد الأوروبي، التي لم يتم تقديم إجابة شافية لأنقرة كالعادة، تجمع وزراء خارجية عدد من الدول الكبرى والتقوا ببابا الفاتيكان وكأنهم يقولون إن الاتحاد الأوروبي هو قلعة مسيحية مغلقة، وهو أمر صرح به بعض المسؤولين في الدول الأوروبية، حتى أن باب الفاتيكان السابق "بنيدكت السادس عشر" رفض انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي واعتبره نادياً مسيحياً مغلقاً".
كما أن أحد أسباب تصويت الناخبين في بريطانيا على الانفصال عن الاتحاد الأوروبي الدعاية التي تحذر من انضمام تركيا للاتحاد.
والحقيقة أنه بعيداً عن علاقة أردوغان بالغرب فإن موافقة الاتحاد الأوروبي على ضم اليونان وتعجله في ضمها في الثمانينات رغم مشكلاتها الاقتصادية والسياسية (كانت خارجة لتوها من انقلاب عسكري)، ثم ضم الشطر اليوناني من جزيرة قبرص دون حل أزمتها، كان بمثابة قرارين حاسمين بعدم ضم تركيا للاتحاد الأوروبي أياً من كان يحكمها وبصرف النظر عن جاهزيتها للانضمام.
الغرب الذي تغيَّر وليس حزب العدالة
في المقابل، كان حزب العدالة يريد نقل كثير من المعايير الأوروبية لتركيا.
ولكن ذلك دون نقل أعمى، خاصة أن المعايير الأوروبية بدأت تتطرف في بعض القضايا المتعلقة بحقوق المثليين على سبيل المثال، لدرجة صادمة حتى للعلمانيين الأتراك، (وحتى لكثير من الغربيين دون أن يكون لهم القدرة على التصريح بالرفض).
الأهم أظهر الحزب منذ بداية وصوله للسلطة أنه لن يسمح بأن تكون تركيا مخلب قط لتنفيذ خطط الغرب ولا سيما أمريكا في الشرق الأوسط.
كما حول أردوغان تدريجياً تركيا من التحالف مع إسرائيل إلى انتقادها والتأييد لحركات المقاومة، مع الإبقاء على العلاقة مع تل أبيب، ولكنه أثار غضبها وغضب الغرب بمواقفه منها وأشهرها مشادته مع شيمون بيريز رئيس إسرائيل السابق في منتدى دافوس عام 2009، وإرساله القوافل البحرية لكسر حصار غزة.
أول "لا" من الحزب كانت خلال غزو العراق، فانتقمت منه واشنطن
كانت أول "لا" قالها حزب العدالة والتنمية لأمريكا بعد نحو سنة من وصوله للسلطة، حين رفض البرلمان التركي بما فيه أعضاء الحزب استخدام القوات الأمريكية للأراضي التركية كساحة انطلاق في غزوها للعراق، عام 2003.
شكل هذا بداية التوتر الأمريكي التركي، حيث بدأت واشنطن تضر بالمصالح التركية في العراق، بما في ذلك إعلاء مصالح الأكراد في مواجهة التركمان (أقارب الأتراك) في شمال العراق.
ثم خذلت أوروبا حزب العدالة في القضية القبرصية، حيث اتخذت حكومة الحزب خطوة شديدة الانفتاح عندما سهلت الوصول لاتفاق اقترحته الأمم المتحدة لإعادة توحيد الجزيرة عبر تقسيم السلطة بين شطريها التركي واليوناني، مع إعطاء حقوق وضمانات للجانب التركي، حتى لا تكرر محاولات الهيمنة اليونانية التي وصلت في السبعينيات لمحاولة ضمها، لأثينا.
وعرض الاتفاق على استفتاء متزامن في شطري قبرص عام 2004، فوافق عليه القبارصة الأتراك، بينما رفضه القبارصة اليونانيون، وبدلاً من معاقبة قبرص اليونانية، واصل الاتحاد الأوروبي قيوده على قبرص التركية، ولم يحاول مكافأة أنقرة وقبرص التركية على انفتاحهما اللافت الذي يلامس التنازل بالمعايير القومية التركية.
الإساءة للرسول نقطة فارقة في العلاقات بين أردوغان والغرب
النقطة الفارقة في العلاقة بين أردوغان والغرب باعتراف الرئيس الأمريكي السابق أوباما في مذكراته، كان "قرار أردوغان حجب التصويت على تعيين رئيس الوزراء الدنماركي أنديرز راسموسن، كأمين عام للحلف عام 2009، لأن حكومته رفضت طلب تركيا بفرض رقابة على نشر رسوم مسيئة للنبي محمد عام 2005 في الصحف المحلية"، حسب قوله.
وأكد الرئيس الأمريكي في مذكراته أن التسلسل الطبيعي للأحداث على مدار 8 سنوات من فترة رئاسته كانت تشير إلى ضرورة بناء علاقات مبنية على المصالح المشتركة مع أردوغان، لكن الانطباع الذي أصبح لديه بنهاية المطاف أن الرئيس التركي "سيلتزم بالديمقراطية وحكم القانون ما داما يضمنان له البقاء في السلطة".
هل أردوغان غير ديمقراطي كما يقول أوباما؟ إليك ردوداً من أرض الواقع
اللافت أن الرئيس الأمريكي المثقف يطلق أحكاماً انطباعية دون دليل ملموس باعترافه الشخصي، ولكن هذه الانطباعات يتم تكرارها دون أي تمحيص، ثم تتحول لحقائق مثل الاتهام بأن أردوغان مستبد الذي أصبح شائعاً في الغرب، دون أن يسأل أحد ممن يطلقون هذا الوصف نفسه بما أنه مستبد فلما تراهنون على إسقاطه عبر الانتخابات.
وكيف يكون مستبداً وهو ينجح أحياناً بنسبة تزيد قليلاً عن الـ50% في انتخابات تشهد إقبالاً، يزيد عن الـ80%، بينما نسبة الإقبال في أكبر الدول الغربية تدور حول 50%.
وكيف يكون أردوغان مستبداً، وهو بعد أن أصبح رئيساً عقب تحول البلاد للنظام الرئاسي، خسر حزبه انتخابات البلدية في العاصمة أنقرة والأهم في إسطنبول العزيزة على قلبه، والتي كان عمدتها لسنوات طويلة غير خلالها وجهها.
التحول في العلاقة تفاقم بسبب داعش والأكراد والمعارضة السورية
منذ بداية الثورة السورية كانت الدول الغربية ولا سيما أمريكا إضافة لدول الخليج (خاصة السعودية وقطر)، هي الداعم الرئيسي للمعارضة السورية المسلحة، بينما كانت تركيا تقوم بدور الممر والساحة الخلفية، وكان دخول كل الأسلحة والأفراد لسوريا بتنسيق كامل مع الغرب، خاصة أمريكا التي كانت تركز على ضمان عدم وصول أسلحة مضادة للطائرات للمعارضة يمكن أن تهدد الطائرات المدنية لاحقاً.
ولكن مع تراجع الحماس الغربي، لدعم المعارضة بعد أن عُشمت من قبل إدارة أوباما بدعم ثورتهم من أجل الحرية ومع صعود التنظيمات المتطرفة وخاصة داعش، غيرت الولايات المتحدة أجندتها تماماً دون أي تنسيق مع حليفتها المفترضة أنقرة.
فبعد أن تركت المعارضة السورية الرئيسية تذبح من قبل داعش والنظام والأكراد على السواء، ألقت أمريكا بثقلها وراء أكراد سوريا ليكونوا رأس حربة في المعركة ضد داعش، دون أن تأبه لمصالح تركيا والدلائل المعروفة بأن الحزب الديمقراطي الكردي السوري هو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في تركيا والغرب، ودون الاهتمام لتواطؤ هذا الحزب مع نظام الأسد وروسيا وإيران، أو لمخطط هذا الحزب للهيمنة على شمال سوريا بما فيها مناطق ذات أغلبية عربية.
الأهم أن الحزب رفض عرضاً تركياً بتقديم المساعدة له ضد داعش شرط موافقته على الانضمام إلى الإطار الأوسع للمعارضة السورية، ومع ذلك سمحت أنقرة في نهاية المطاف بتوصيل المساعدة له في عين العرب.
منذ ذلك الوقت رد أردوغان بالعمل على تقليم أظافر الإدارة الكردية في شمال سوريا، ودعم بقايا المعارضة، ومحاولة إقامة حزام أمني لمنع تسلل الإرهابيين أو إطلاق الصواريخ من مناطق سيطرة الأكراد على جنوب تركيا، متحدياً أحياناً الوجود الأمريكي العسكري بشمال سوريا.
في المقابل تم التعامل غربياً مع القوى الكردية كأنهم ضحايا مساكين لأردوغان بعد أن انفردوا وحدهم بقتال داعش، في تجاهل لحقيقة أن الأكراد أسسوا كياناً عنصرياً بشمال سوريا تحكم فيه أقلية كردية، أغلبية عربية، حسب تقارير مراكز أبحاث غربية، وأن قوى عديدة بالمنطقة حاربت داعش.
أزمة الطائرة الروسية: عندما سحب الناتو صواريخه وترك أنقرة وحدها أمام مقاتلات بوتين
فيما يمكن وصفه بكل تهذيب بأنه "نذالة"، تركت أمريكا وحلف الناتو أنقرة عام 2015، وحدها بعد تشجيعها على التورط في أزمة سوريا أمام روسيا صاحبة ثاني أقوى جيش في العالم، بعد أن جاءت إلى حدود تركيا بطائراتها وسفنها ودباباتها لدعم الأسد مع استفزازها لأنقرة والتحرش بها عبر اختراق الأجواء التركية.
بدلاً من أن يحمي الناتو تركيا صاحبة ثاني أكبر جيش بالحلف، سحبت أمريكا وعدة دول أوروبية صواريخ باتريوت التي كانت مكلفة بحماية الأجواء التركية بدعوى صيانتها (كأن موعد الصيانة حل فجأة مع قدوم الروس).
ورغم الموقف الحرج، تعهدت إدارة أردوغان بالرد على أي تكرار للانتهاكات الروسية، وبالفعل وصلت الأزمة إلى ذروتها عندما أسقطت تركيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 طائرة روسية اخترقت أجواءها، في واحدة من أشد اللحظات خطورة في حكم أردوغان، فيما تعاملت أمريكا وأوروبا مع القضية كأنهما دول محايدة وليست شريكة لأنقرة في الناتو.
كانت هذه لحظة فارقة في تاريخ السياسة التركية، ثبت فيها أن الناتو والغرب يريدان من تركيا أن تكون حارس بوابة يستفيد من موقعها ضد روسيا، وجيشها الكبير العدد، ولكن يوم أن تحتاج أنقرة الناتو فلن يعيرها اهتماماً، فهي ليست دولة أوروبية مسيحية.
اعتذر أردوغان لبوتين، حسبما قال الكرملين آنذاك، وتقبل الروس الاعتذار، وقرر الطرفان تغيير المعادلة بينهما من المواجهة في سوريا ومناطق أخرى، إلى شكل من أشكال التنسيق التنافسي، إذا صح التعبير.
وبدأت تركيا تتعامل في الأزمة السورية بمعزل تام عن الغرب، الذي بدا أنه ترك المعارضة السورية ووجه كل دعمه للأكراد.
محاولة الانقلاب الفاشلة.. ألم تكن أمريكا تعلم عنها شيئاً؟
لم تكن محاولة الانقلاب الفاشلة في صيف 2016، نقطة مفصلية في تاريخ تركيا فقط، ولكنها أيضاً لحظة كاشفة لحقيقة الغرب، راعي الديمقراطية المفترض.
فأولاً: يصعب تخيل أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية التي تخترق حواسيب العالم وهواتفه لم يكن لديها فكرة عن مخطط الانقلاب الواسع أو الاتصالات بين بين زعيم حركة الخدمة فتح الله كولن المقيم في أمريكا وبين أتباعه الانقلابيين.
والأمر الثاني أن موقف الغرب بدا غريباً خلال الانقلاب، فالإدانات إن صدرت، كانت خجولة وبدت كأنها فرحة مستترة، رغم أن الغرب عادة يرغد ويزبد لأي انقلاب يقع في دولة إفريقية لا يعلم مسؤولوه موقعها على الخريطة.
كما أن منظمي الانقلاب لن يجرؤوا في الأغلب على مثل هذا العمل، دون أن يكون لديهم ضمانات أن تركيا لن يفرض عليها عقوبات اقتصادية لو تولوا السلطة.
وبعد فشل الانقلاب، شن أردوغان حملة لتطهير الجيش وبعض المؤسسات الأخرى من الانقلابيين بعد فرض حالة الطوارئ لعام واحد فقط، ولكن الغرب الذي تخاذل في إدانة الانقلاب، حاول أن يوصف هذه الحملة بأنها مناهضة للديمقراطية، علماً بأنها إجراء طبيعي لحماية النظام الديمقراطي التركي من داء الانقلابات المتكررة، وهي حملة بالأساس مست الصف الإسلامي التركي، لأن الانقلاب نُظم من قبل جماعة دينية كانت حليفة يوماً لأردوغان.
كما أن افتراض أن هذه الحملة أو بعض الأحكام التي صدرت بحق صحفيين لهم على علاقة مريبة بالغرب أو سياسيين انفصاليين من حزب الشعوب الديمقراطية الكردي هي جزء من مخطط لأردوغان المزعوم للتحول لحكم استبدادي، هو تفسير ساذج لسبب بسيط، أن هذه الحملات استهدفت أطراف الطيف السياسي التركي الخارج عن القانون والثوابت القومية التركية، وهي أطراف ليس لديها أصلاً فرصة لمنافسة أردوغان في الانتخابات، فهي لا تهدد حكمه بل تهدد أمن البلاد.
فلو أن أردوغان يحاول إقامة سلطة استبدادية، لاستهدف حزب الشعب الجمهوري، أو كمال كليجدار أوغلو أو محرم إينجة الذين ينافسونه على قيادة البلاد.
وتصاعد غضب الغرب من ردود أردوغان التي كانت حادة أحياناً على محاولات أوروبا وأمريكا فرض وصاية على بلاده.
اللافت هنا أن كثيراً من ردود أردوغان وإدارته كانت كلامية وفي إطار الحجاج والتلاسن السياسي المقبول في أي ثقافة ديمقراطية وهو أمر شائع في تركيا، وفي الغرب، لكن قادة الغرب لم يطيقوا أن يلقي عليهم رئيس تركيا عظات أو ينتقدهم.
التوجه نحو روسيا
بعدما كانت تركيا تعتبر نفسها بالأساس منافساً لروسيا، بحكم التاريخ والجغرافيا والخلافات الأيديولوجية بين بوتين المحمل بالإرث القيصري الشيوعي الذي اضطهد الإسلام وبين أيديولوجيا حزب العدالة القومية الإسلامية، إلا أن مواقف الغرب دفعت أنقرة لانعطافة مهمة في تاريخها، خاصة بعد أن ظهر أن بوتين كان من أكثر قادة العالم إدانة للانقلاب، كما بدا واضحاً أن الروس جاءوا ليبقوا في سوريا وأن أمريكا تبدو أكثر حرصاً على التنسيق معهم في هذا البلد أكثر من تنسيقها مع حليفها المفترضة تركيا.
ورغم استمرار التنافس بين تركيا وروسيا، جمع قائدي البلدين أشياء مثل المهارة السياسية والغضب من الاستعلاء الغربي والرغبة في إحياء أمجاد بلديهما، كما أن كليهما يجيد اللجوء لخليط من القوة الخشنة والدبلوماسية، وبدأت من سوريا عملية تنسيق تنافسي أفضت لتسوية متعثرة أدت لتقليل مأساة المعارضين السوريين، ولكن لم تنهيها بعدما تخلى عنهم الغرب.
ولكن تعززت الروابط بينهما عبر صفقات اقتصادية عدة (منها البرنامج النووي)، وعمليات تنافس وتنسيق في سوريا، والقوقاز، وليبيا، وفي الملفات الثلاثة، كان حلفاء تركيا يحققون انتصارات ولكن يجلس الرئيسان بوتين وأردوغان ليتفقا على حل وسط عقلاني ينهي الحروب بين حلفائهما التي كانت تشهد أحياناً وقوف جيشي البلدين في مواجهة بعضهما بعضاً قرب خطوط القتال مثلما حدث في إدلب عام 2020.
كان الغرب يقابل هذا بالهجوم على أردوغان واتهامه بالتحالف مع بوتين، متجاهلاً أن قادة أوروبا وأمريكا الذين دفعوه لهذا التفاهم، مع الروس بسبب ما فعلوه في الأزمات السابقة، والأهم أن العلاقة ليست تحالفاً بل هي تنسيق وهُدن بين حروب صغيرة، مع تعاون اقتصادي.
أزمة الصواريخ إس 400، لماذا اتخذ أردوغان هذا القرار الذي أغضب أمريكا بشدة، وهل خرج خاسراً منها؟
وصل الغضب الأمريكي من أردوغان لذروته بسبب إبرامه صفقة شراء صواريخ إس 400 الروسية والتي ردت عليها واشنطن بإخراج أنقرة من برنامج المقاتلة إف 35، بدعوى أن هذه الصواريخ سوف تعرض أسرار الناتو للانكشاف أمام الروس رغم عرض أردوغان تشكيل لجنة فنية لتقييم هذا الادعاء.
كما لا يلتفت منتقدو الصفقة إلى أن اليونان اشترت صواريخ إس 300 الأقدم التي تمتلكها العديد من دول أوروبا الشرقية العضو في الناتو.
ويتجاهلون أن أمريكا وأوروبا لم تلبيا طلب تركيا لسنوات بتزويدها بنظام متطور للدفاع الجوي حيث تكاد تكون الدولة الوحيدة بالمنطقة القوية عسكرياً بدون نظام كهذا.
وسبق أن أبرمت أنقرة صفقة لشراء وتصنيع دفاعات صاروخية صينية ثم ألغتها تحت ضغط غربي مع وعود بتقديم بديل أوروبي أو أمريكي مثل باتريوت مع نقل التقنية والتصنيع المحلي دون تنفيذ.
قد تبدو صفقة إس 400 أكبر أخطاء أردوغان حيث أخرجت بلاده من برنامج الإف 35 تاركة إياها دون طائرات حديثة، ولكن المفارقة أنها قد تكون حافزاً لأهم إنجازاته، فلقد كانت دافعاً للتعجيل ببرنامج تطوير طائرة الجيل الخامس التركية الشبحية محلية الصنع، التي أجرت مؤخراً الاختبار الأرضي قبل موعده المقرر، ويأمل المصممون في أن تطير هذا العام لأول مرة، كما أن الإف 35 هناك شكاوى أمريكية من وجود مشكلات تقنية بها وضعفها في القتال الجوي القريب، وتكلفتها الباهظة والأهم أن الأتراك يخشون أنها سيكون مسيطراً عليها من قبل المصنعين الأمريكيين.
أردوغان تصدى لمحاولات اليونان ترسيم الحدود على هواها مستندة للدعم الأوروبي
في ملف ترسيم الحدود مع اليونان، يقف الاتحاد الأوروبي وبصورة أقل واشنطن مع اليونان، التي تريد ترسيم المياه الاقتصادية، على أساس اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي دخلت حيز التنفيذ عام 1994؛ مما يعطي أثينا مساحة هائلة على حساب أنقرة؛ استناداً لعدد من الجزر بعضها صغير جداً، وكثير منها كانت جزءاً من تركيا قبل أن تنقل ملكيتها لأثينا عبر دول أوروبية احتلتها بشكل فيه إشكاليات قانونية.
علماً بان تركيا مثل أمريكا ليست عضواً في هذه الاتفاقية، وبالتالي ليست ملزمة لها حسب قواعد القانون الدولي، بينما يتم تجاهل طلب أنقرة الترسيم، وفقاً لقوانين البحار الدولية السابق على الاتفاقية، أو الوصول لحلول وسط.
وتحاول اليونان التصعيد وتوريط الاتحاد الأوروبي في الأزمة مدعومة بفرنسا، ولكن كان موقف أردوغان جريئاً عبر التلويح بقوة أنقرة البحرية والجوية، خاصة أن أثينا تراجعت عن تفاهمات عدة أبرمت بوساطة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل حسب الصحافة الألمانية، ولكن بالطبع ميركل لا تجرؤ على توجيه أصابع الاتهام لأثينا بأنها هي التي نكثت بوعودها، الأمر الذي كاد يدخل البلدين في حرب.
في ليبيا.. أصر على دعم حكومة الوفاق وأرسل لها السلاح محمياً بالسفن الحربية التركية
وفي الملف الليبي، أصر أردوغان على دعم حكومة الوفاق، المعترف بها دولياً ضد قوات حفتر التي كانت مدعومة من قبل الإمارات ومصر وفرنسا، وأبرم اتفاقاًً عسكرياً معها وآخراً لترسيم الحدود البحرية، ونجحت بالفعل قوات الوفاق في طرد قوات حفتر من تخوم العاصمة طرابلس، بشكل أغضب فرنسا كثيراً، وأسعد إيطاليا، الأقرب لحكومة الوفاق.
كان هناك موقف لافت لأردوغان في هذه الأزمة، عندما قام الاتحاد الأوروبي بتشكيل قوة بحرية لتنفيذ الخطر الأممي لتصدير السلاح لليبيا (رغم عدم امتلاكه تفويضاً أممياً)، ولكن من ناحية البحر فقط أي منع تركيا من تزويد حكومة الوفاق بالسلاح بينما يترك السلاح يأتي لحفتر عبر الحدود المصرية في ازدواجية للمعايير مثيرة للسخرية.
فردت تركيا بالمجاهرة بإرسال السلاح لليبيا تحت حماية السفن الحربية التركية، والتي كانت تشغل راداراتها (علامة تهديد) إذا اقتربت منها الدوريات الأوروبية.
والآن الغرب يحتاج لوساطة أردوغان في أزمة أوكرانيا، فهل اقتربا من التفاهم؟
في الوقت الحالي فإن تركيا تحت قيادة أردوغان هي الوسيط الوحيد حتى الآن بين أوكرانيا وروسيا وأحياناً بين أمريكا وروسيا، وهي وسيط يثق فيه الطرفان بما مكنه من إبرام تنفيذ اتفاق حبوب البحر الأسود الذي أنقذ العالم من مجاعة، كما فعلت أنقرة اتفاقية مونترو لعام 1936 التي تمنع دخول السفن الحربية الروسية للبحر الأسود وقت الحرب، وطائرات بيرقدار التركية هي التي أنقذت كييف من السقوط حتى إن الأوكرانيين ألفوا لها أغنية.
قد يكون ردود أردوغان حادة أحياناً أكثر من المتوقع، ولكن رسالته وصلت الغرب، وهي أن تركيا شريك وليست تابعاً، كما يعلم الأوروبيون والأمريكيون أن أردوغان يدعم سيادة أوكرانيا، ولكن لن يورط تركيا في صراعات الغرب، بعد تجاربه السابقة.
وبعد سنوات من التدخلات الغربية في شؤون تركيا، والردود الحادة وأحياناً الخشنة من أردوغان ومسؤوليه، آخرها إصراره على عدم قبول السويد بالناتو، بدأ كثير من الساسة الغربيين يعرفون خطوط أنقرة الحمراء، ويتجنبون اختراقها.
وفي الوقت ذاته رغم الانزعاج الغربي الواضح من استقلالية سياسة أردوغان ورفضه التبعية للعواصم الغربية الكبرى، لكن هناك شعور كامن في الغرب، بأنه لا يمكن الاستغناء عنه، خاصة في الأزمة الأوكرانية، فهو شخص حريص على احترام بلاده بشكل لا يتحمله الغرب، ويرد على ما يعتبره إهانة بأشد منها ومفاوض مرهق، ولكنه في الوقت ذاته يميل إلى إبرام الصفقات العقلانية، والالتزام بها، كما يجيد المشاغبة مع من يرفض التفاوض.
لقد غضب الغرب لأن أردوغان لم يجعل أنقرة تابعاً طيعاً، ولكن يبدو أنه بدأ يكتشف متأخراً مميزات أن تكون تركيا شريكاً قوياً ومستقلاً، ولهذا لم يكن غريباً أن يلمح وزير خارجية تركيا شاوش أوغلو إلى أن هناك عواصم غربية تريد فوز أردوغان.
واللافت أن الحملات الإعلامية الغربية رغم ضراوتها تبدو أقل من المتوقع، كما أن أحاديثها عن الاستبداد تبدو بلا منطق أمام الزخم الهائل للانتخابات التركية.