في خضم ما تشهده منطقة "الشرق الأوسط" من تطورات ذات بُعد استراتيجي وجيوسياسي، خاصة عند الحديث عن عدة عوامل أثّرت بشكل إيجابي على المشهد العام في المنطقة، هناك تطورات كبيرة برزت في الآونة الأخيرة، بدءاً بالاتفاق الإيراني السعودي برعاية صينية، وليس انتهاءً بدمج أو إعادة النظام السوري إلى الحضن العربي من جديد بعد قطيعة طالت عقداً ونيفاً.
كما تشهد المنطقة فراغاً نسبياً في دور الولايات المتحدة في المنطقة – الشرق الأوسط -، إذ إن هذا "الفراغ" آخذ بالاتساع في ظل الاستراتيجية الجديدة التي أطلقتها الولايات المتحدة في مجابهة التوسع الصيني المقلق جداً للطرف الأمريكي من جهة، ومحاولة استنزاف وكسر القوة الروسية – المتورطة المستنزفة – في حربها على أوكرانيا من جهة أخرى.
لكن من الضرورة الإشارة إلى أن مستشار الأمن القومي الأمريكي أطلق سلسلة من المواقف منذ يومين أهمها قوله "نحن في السنوات الأولى من عقد حاسم ربما لم نر مثله منذ نهاية الحرب العالمية الثانية" في دلالة واضحة لحجم التهديد الاستراتيجي الذي تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية في عالم يبدو أنه متجه من الأحادية إلى التعددية القطبية.
أمام هذا الزخم من التطورات التي لا يمكن لأي "باحث أو متابع" أن يغفل عنها، ما زال الملف اللبناني يتفاعل وهو غير غائب عن دوائر صناع القرار الأمريكي والفرنسي والإيراني والسعودي والقطري وحتى المصري، وإن كانت متفاوتة بين دولة وأخرى، وذلك لما يمثله لبنان من أهمية بالغة بالنسبة لتلك الدول سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً وبشرياً والأهم من كل ذلك جغرافياً.
وقد شهد الأسبوع المنصرم، جملة من التطورات أعادت تحريك المياه الراكدة في الملف الرئاسي، نذكر أهمها:
أمريكياً، نرى أن الولايات المتحدة تستعجل الانتخابات الرئاسية قبل موعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان للكثير من الاعتبارات وأنّ جُل ما يهمها هو عدم تفجير الوضع في لبنان لأنه إن حدث ذلك فهو يعاكس أجندتها الإقليمية خصوصاً لجهة المحافظة على إنجاز ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل.
كما أحدث موقف وزارة الخارجية الأمريكية تحديثاً في سلسلة المواقف التي كانت الولايات المتحدة تطلقها إزاء الملف اللبناني؛ وذلك بعد بيان الوزارة الذي أعلنت فيه أنّ "لبنان يحتاج إلى رئيس متحرّر من الفساد وقادر على توحيد البلاد، وتنفيذ إصلاحات اقتصادية أساسية على رأسها تلك المطلوبة لتأمين اتفاق على برنامج مع صندوق النقد الدولي".
فرنسياً، وعلى الرغم من الهجوم الكاسح من بعض الأطراف اللبنانية – المحسوبة على الطرف الأمريكي – للمبادرة الفرنسية التي أطلقتها منذ أشهر والتي تقوم بموجبها بتوزيع الرئاسات بين الفريقين المتخاصمين، إلا أنها ما زالت تتعامل ببراغماتية عالية إزاء الملف اللبناني، وهي على تواصل دائم مع الأطراف الفاعلة إقليمياً (السعودية) ومحلياً (حزب الله) ولديها آمال جيدة بنجاح مبادرتها وإن أخذت بعضاً من الوقت.
سعودياً، الملاحظ أن السياسية الخارجية السعودية قد تغيرت بمقدار 180 درجة في الأشهر القليلة الماضية، ومن الملاحظ أن المساعي السعودية تكمن بالدرجة الأولى في تصفير المشاكل مع الدول المحيطة والبعيدة (إيران – اليمن – سوريا – تركيا) وبالدرجة الثانية إيجاد بيئة إقليمية أكثر استقراراً تمهيداً لإطلاق فكرة "أوروبا الجديدة" التي يعمل عليها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
ما سبق بالظاهر سينعكس إيجاباً على لبنان وهو ما ترجم أخيراً ضمن سلسلة الزيارات المكوكية التي قام بها السفير السعودي وليد بخاري للجهات والمرجعيات اللبنانية؛ حيث نقل رسالة من الديوان الملكي السعودي الى جميع المعنيين بالاستحقاق الرئاسي مفادها:
- أن انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان هو شأن داخلي.
- وأن المملكة تلتزم عدم التدخل في هذه العملية الداخلية.
- وعندما يختار اللبنانيون رئيسهم، سيكون همّ الرياض منصبّاً على قيام هذا الرئيس بالإصلاحات المطلوبة على جميع الصعد وإعادة تصويب الحياة السياسية.
- السعودية لن تضغط على أحد لكي يسمّي أحداً أو ينتخب أحداً.
إيرانياً، وفي زيارة هي الأولى من نوعها بعد الاتفاق بين إيران والسعودية، حط وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى بيروت أواخر شهر أبريل/ نيسان 2023، والواضح من جملة التصريحات التي أطلقها أن إيران لا تتدخل في الشأن الداخلي اللبناني وأن ملف لبنان – بما فيه استحقاقه الرئاسي – بين يدَي حزب الله وأمينه العام بالذات كمرجعية وحيدة.
ولكن ما لم يعلن صراحة وهو ما سرّب بعد قرابة الأسبوع من الزيارة، نقلاً عن "عبد اللهيان" أن المملكة العربية السعودية فتحت حواراً مع إيران وسوريا وتريد قريباً أن تفتح قنوات حوار مع حزب الله. وهذا وإن حدث "إن لم يكن قد حدث" فيمكننا القول إننا أمام مشهد جديد سيعيد التوازن إلى الحياة السياسية اللبنانية.
قطرياً لعب القطريون أكثر من دور إيجابي داخل المشهد السياسي اللبناني، إن كان من خلال اتفاق الدوحة 2008 أو في ملف الترسيم البحري بين لبنان والعدو الصهيوني، أو من خلال مقاربة بعض الملفات السياسية الشائكة وخصوصاً المتعلق بالشق الرئاسي.
ويشهد لقطر أن لها علاقات جيدة مع كل الأطراف اللبنانية، وتسعى لتكون حاضرة بكل التفاصيل وقادرة على إنجاز المهمات الصعبة وتحديداً في الملف الرئاسي.
لكن بتقديري أن دور قطر قريب من الموقف الأمريكي والسعودي، وما هو ما يؤكده المسؤولون القطريون في أكثر من مناسبة أن مبادرتهم قريبة للمبادرة السعودية. وفي العودة إلى الملف الرئاسي، سربت بعض الصحف اللبنانية أن المسؤول القطري جاسم آل ثاني وخلال زياراته القيادات والمرجعيات السياسية في لبنان، أعاد طرح دعم انتخاب قائد الجيش اللبناني جوزيف عون إلى سدة الرئاسة، وهو ما زال محض عدم إجماع داخلي لبناني.
أمام كل ما سبق، فإن الملف اللبناني أعيد تحريك عجلاته بوتيرة أسرع من سابقاتها ويتأثر بموجة المتغيرات التي طرأت على المشهد الإقليمي، ولن يكون بعيداً عن أجواء التفاهمات المتسارعة على مستوى المنطقة. ولكن هذا لا يعني أن أحداً من الأطراف الفاعلة يملك العصا السحرية، وتقديرنا فإن الحلول القادمة للبنان تحتاج لمزيد من الوقت والنضوج، إذ إن لبنان موضوع في ميزان قياس مصداقية الأطراف الفاعلة إزاء جملة من الملفات الأكثر تعقيداً، وفي حال الخلاف فإنه من غير المستبعد أن تتطور بشكل سلبي داخلياً، والتاريخ مليء بالشواهد والأمثلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.