على خُطى كوريا الجنوبية واليابان، أجرت أستراليا تغييراً جذرياً على موازنتها العسكرية، والسبب هو "الخوف" من الصين، فما قصة مضاعفة الإنفاق العسكري من جانب حلفاء أمريكا في منطقة المحيط الهادئ؟
كانت الزيارة التي قام بها الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، إلى اليابان وكوريا الجنوبية مطلع فبراير/شباط الماضي، قد أشارت إلى تبلور استراتيجية غربية تقوم على أن مصالح وأمن شمال الأطلسي وآسيا لم تعد منفصلة، خاصة في ظل احتمالات تنامي العلاقات الروسية- الصينية.
وتفرض أولوية احتواء الصين تعزيز الروابط الاقتصادية والعسكرية الغربية مع قوى منطقة الإندو-باسيفيك، لزيادة الضغط على الصين، ولمنعها من توسيع نفوذها باعتبار أن الهيمنة الإقليمية تمثل خطوة ضرورية في مسار صعود الصين كقوة دولية، ومن ثَم يعمل الغرب على تعطيلها.
أستراليا وتغيير جذري في الاستراتيجية
ويوم الإثنين 24 أبريل/نيسان الماضي، أجرت أستراليا تغييراً جذرياً في إنفاقها العسكري، وُصف بأنه أهم مراجعة لاستراتيجيتها الدفاعية منذ عقود، حيث أعلنت عن "المراجعة الاستراتيجية الدفاعية" والتي أوصت بتوجيه أولويات الإنفاق نحو شراء صواريخ بعيدة المدى وطائرات بدون طيار، وتعزيز التصنيع الدفاعي المحلي.
ووصفت المراجعة الاستراتيجية التنامي العسكري الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بأنه الأكبر والأكثر طموحاً مقارنة بأي دولة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية، كما أشارت إلى أن الولايات المتحدة، أكبر حليف دفاعي لأستراليا، "لم تعد الزعيم أحادي القطب للمنطقة".
موقع أسباب، المتخصص بالتحليل السياسي والاستراتيجي، نشر تحليلاً يرصد ما يعنيه هذا التحول العسكري في أستراليا، بالنسبة للقارة نفسها ولمنطقة المحيط الهادئ ولصراع القوى الكبرى بشكل عام.
تأتي المراجعة الاستراتيجية التي قامت بها وزارة الدفاع الأسترالية إلى جانب اتفاقية "أوكوس"، وهي شراكة دفاعية ثلاثية تجمع كانبرا مع واشنطن ولندن وتتمحور حول الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، في إطار جهود أستراليا المتواصلة لإعادة هيكلة قدراتها العسكرية، وذلك لمواجهة توسع الوجود العسكري الصيني ومحاولات بكين فرض الهيمنة الإقليمية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وكذلك المخاوف المتزايدة من قيام بكين بغزو عسكري لتايوان وما يمكن أن يشكله من تهديدات مباشرة للمصالح الأسترالية في المنطقة.
واتفاقية أو مبادرة "أوكوس" هي اختصار للبلدان الثلاثة -أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة- باللغة الإنجليزية AUKUS، وتم الإعلان عنها من جانب قادة تلك الدول مساء الأربعاء، 15 سبتمبر/أيلول 2021، وهي عبارة عن شراكة دفاعية وأمنية جديدة قالوا إن هدفها "حماية مصالحهم" في المحيطين الهندي والهادئ.
لكن الإعلان عن تلك الشراكة تسبب في ردود فعل غاضبة جداً من جانب فرنسا، التي اعتبرتها "خيانة"، وتحذيرات من "عقلية الحرب الباردة" من جانب الصين، رغم أن موريسون، رئيس وزراء أستراليا، وجونسون، رئيس وزراء بريطانيا، وبايدن رئيس أمريكا لم يذكروا "الصين" في إعلانهم عن "أوكوس".
كانت أستراليا قد اختارت مجموعة نافال جروب الفرنسية لصناعة السفن في 2016، لصنع أسطول غواصات جديد بقيمة 40 مليار دولار، ليحل محل غواصات من الطراز كولنز، يبلغ عمرها أكثر من 20 عاماً. وتم توقيع العقد بالفعل وجدّد وزيرا الدفاع والخارجية الأستراليان التأكيد على الصفقة.
وبالتالي رأت فرنسا في إقصائها من واحدة من أكبر الصفقات العسكرية في العالم "خيانة للثقة" من جانب أستراليا، و"طعنة في الظهر من جانب بايدن والتصرف مثل "ترامب".
لماذا فقدت أستراليا ميزتها الجغرافية؟
ترتكز المراجعة الأسترالية الجديدة على ضرورة مواكبة استراتيجية الإنفاق الدفاعية الأسترالية للتغيرات التي طرأت على تكنولوجيا الصواريخ المتطورة، والتي جعلت من اعتماد أستراليا الطويل على بُعدها الجغرافي أمراً غير ذي جدوى، حيث يقلل بروز الصواريخ المتطورة وفائقة السرعة في الحرب الحديثة بشكل جذري من فوائد الجغرافيا والمسافات الشاسعة التي كانت تعد أحد أعظم الأصول الدفاعية لأستراليا.
ومن هذا المنطلق؛ ترسخت لدى صانعي السياسات في أستراليا قناعة بأن الوضع الدفاعي للبلاد لم يعد ملائماً للبيئة الاستراتيجية الحالية، مما يتطلب تعزيز القدرات العسكرية واعتماد استراتيجية الردع بعيد المدى، إلى جانب بناء علاقات أقوى مع الحلفاء والقوى الرئيسية في المنطقة، بما في ذلك اليابان والهند.
وتأتي الاستراتيجية الجديدة لأستراليا في أعقاب إعلان كل من اليابان وكوريا الجنوبية، أواخر العام الماضي، عن توجهات استراتيجية أمنية جديدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
فقد أسست استراتيجية الأمن القومي الجديدة لليابان لتغييرات جذرية في سياسة طوكيو الأمنية والدفاعية؛ إذ تسمح للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية بامتلاك طوكيو قدرات الهجوم المضاد كخطوة وقائية ضد أي هجوم محتمل. ويعكس هذا التغير نجاح واشنطن في استقطاب حليف معتبر لجهودها الهادفة لإعاقة الصعود الصيني، خاصة أن الاستراتيجية اليابانية الجديدة تقر تأسيس قيادة عسكرية موحدة للقوات البرية والبحرية والجوية اليابانية والأمريكية.
ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لسيول، حيث ترتكز استراتيجية كوريا الجنوبية لمنطقة الإندو-باسيفيك على الالتزام بالقيم الدولية وتعزيز النظام الدولي القائم على القواعد، ويظهر في الوثيقة، الصادرة مطلع العام الجاري، تباين واضح في اللهجة المستخدمة تجاه كل من الولايات المتحدة واليابان والصين، حيث تعهدت بمواصلة تعزيز "التحالف" مع الولايات المتحدة، معتبرة أنه "محور السلام والازدهار" في المنطقة على مدار الأعوام السبعين الماضية، كما أكدت العمل على أن يتطور إلى "تحالف استراتيجي عالمي شامل لا يشمل الأمن فحسب، بل يشمل أيضاً الاقتصاد والتقنيات المتطورة والفضاء الإلكتروني وسلاسل التوريد".
وكان ستولتنبرغ قد زار سيول في نفس السياق، فزيارة الأمين العام لحلف الناتو جاءت في سياق تسارع التنافس الدولي بين الولايات المتحدة والصين، حيث استطاعت واشنطن مؤخراً أن تضع على أجندة الناتو ومجموعة السبع أولوية احتواء الصين والتصدي لما تعتبره جهودها لتقويض النظام الدولي.
ويتطلب هذا الأمر بالضرورة تعزيز الروابط الاقتصادية والعسكرية مع قوى منطقة الإندو-باسيفيك، بصورة خاصة اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وجزر المحيط الهادئ، لزيادة الضغط على الصين من جهة، ولمنعها من توسيع نفوذها على حساب جيرانها من جهة أخرى، باعتبار أن الهيمنة الإقليمية تمثل خطوة ضرورية في مسار صعود الصين كقوة دولية، ومن ثم يعمل الغرب على تعطيلها.
على ماذا ترتكز استراتيجية أستراليا بشأن الصين؟
ومن المرجح أن تؤدي تلك الخطوات إلى تحفيز مخاوف الصين أكثر ومن ثَم تزايد التوترات الجيوسياسية في المنطقة، إلا أن تلك التطورات تؤكد في الوقت نفسه أن حلفاء الولايات المتحدة في الإقليم، أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، أصبحوا في وضع غير مسبوق للعب دور بارز في تشكيل الأوضاع الأمنية في المنطقة في المستقبل المنظور.
ومن المتوقع أن يكلف الإنفاق الدفاعي أستراليا حوالي 12.7 مليار دولار على مدى السنوات الأربع القادمة، حيث سيأتي ما يناهز 8 مليارات دولار من ميزانية الإنفاق من خلال خفض أو قطع التمويل عن بعض المشاريع المرتبطة بالتسليح التقليدي وتحويلها نحو امتلاك الصواريخ والطائرات بدون طيار.
فعلى سبيل المثال؛ خفضت أستراليا في أعقاب الإعلان عن المراجعة الاستراتيجية مخططات شراء 450 مركبة مشاة من ألمانيا وكوريا الجنوبية، كما ستنفق نحو 2.7 مليار دولار لزيادة مخزونها من الصواريخ بعيدة المدى، وبناء على ذلك؛ سيوسع الجيش الأسترالي نطاق أسلحته من 40 كم فقط إلى مدى صاروخي أولي يبلغ 300 كم، مع مخططات لامتلاك صواريخ هجومية دقيقة، سيتجاوز مدى الصواريخ الأسترالية 500 كم.
وفي الجانب المقابل، سمحت الصين في مطلع يناير/كانون الثاني الماضي للشركات المحلية باستئناف استيراد الفحم الأسترالي، الذي كان محظوراً منذ عام 2020. ويمثل تخفيف القيود الصينية على الصادرات الأسترالية -تزامناً مع إعادة الصين بث المحتوى الإعلامي الكوري الجنوبي بعد حظر دامَ خمس سنوات- تحولاً بارزاً في نهج الصين تجاه إصلاح العلاقات الاقتصادية التي تضررت في السنوات الأخيرة مع شريكيْن تجاريين رئيسيين مثل أستراليا وكوريا الجنوبية.
لا تسعى بكين، من خلال تلك الخطوات، إلى إعادة إنعاش اقتصادها بعد أن أنهت إجراءات الإغلاق الصارمة لفيروس كورونا فحسب، ولكن أيضاً إلى إبطاء تشكيل تحالف مناهض لها بقيادة واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
لكنّ استراتيجية أستراليا الدفاعية الجديدة تؤكد أن الخطوات الصينية لتخفيف التوترات التجارية مع أستراليا من غير المتوقع أن تدفع الأخيرة إلى تخفيف سياستها الأمنية والدفاعية، أو إنهاء التزامها بالشراكة الأمنية الرباعية "كواد" مع الولايات المتحدة والهند واليابان، أو تحالف "أوكوس".