بينما تستمر الاشتباكات الدامية في السودان، اكتفت الولايات المتحدة بعمليات إجلاء دبلوماسييها ومواطنيها، فكيف تستغل البحرية الأمريكية مهمات الإنقاذ تلك للاستعداد للحرب؟
وصفت وكالة Bloomberg الأمريكية، في تقرير لها عنوانه "مهمة إنقاذ في السودان تساعد البحرية الأمريكية في الاستعداد للحرب"، مهام الإجلاء بأنها أكبر من مجرد مهمة إنسانية. فعملية السودان تتيح للبحرية فرصة لاختبار قدرات بعض سفن الدعم القتالي على أرض الواقع.
كان السودان، يوم 15 أبريل/نيسان، قد شهد انفجار الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد: الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، والذي يقود "قوات الدعم السريع"، حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
عمليات الإجلاء الأمريكية من السودان
وفي ظل استمرار تدهور الوضع الأمني بالسودان، ووجود آلاف المواطنين الأمريكيين الذين لا يزالون في البلد الذي مزقته الحرب، بدأت البحرية الأمريكية مهمة أدتها مرات كثيرة من قبل: إجلاء الدبلوماسيين والأمريكيين الآخرين من مناطق القتال.
إذ إن عمليات إجلاء المدنيين والجنود خطيرة ولا يمكن التنبؤ بها، ففي بعض الأحيان، مثلما حدث بعد سقوط كابول في أفغانستان عام 2021، قد تسير عمليات الإجلاء بشكل غاية في السوء. فالانسحاب الفوضوي يمثل كابوساً لإدارة الرئيس جو بايدن.
وفي أوقات أخرى- مثل فيتنام عام 1975- قد تشوبها الفوضى لكنها تنجح بشكل عام. وفي كثير من الأحيان حين يكون للدولة المعنية ساحل، مثلما هو الحال مع السودان المطل على البحر الأحمر، تنفذ البحرية الأمريكية الجزء الأكبر من هذه العمليات.
وعادةً ما تنفذ هذه المهام سفن حربية برمائية ضخمة مثل حاملات طائرات الهليكوبتر "ذات السطح الكبير" من فئتي واسب Wasp وأمريكا America. لكن عملية السودان، وهي (حتى الآن) صغيرة نسبياً، تبدو مختلفة تماماً.
لماذا عمليات الإجلاء مختلفة هذه المرة؟
ورغم أن الخطر يحيق دائماً بعمليات الإجلاء، يستبعد الأمريكيون أن يستهدف أي من طرفي الحرب الأهلية في السودان المدنيين عمداً، ولذلك تستعين البحرية الأمريكية بسفينتين حربيتين بقدرة قتالية هجومية محدودة ولكن بقدرات دعم لوجستي ممتازة: برونزويك Brunswick ولويس بي بولر Lewis B. Puller.
وتعتبر سفينة لويس بي بولر "قاعدة متنقلة للحملات الاستكشافية"، وتضم طاقماً قوامه نحو 150 فرداً فقط (مقابل 5000 في حاملة طائرات)، لكنها تتمتع بقدرة هائلة ومرنة على تشغيل طائرات الهليكوبتر، وإنزال القوات الخاصة، وتوفير الدعم الطبي واللوجستي على الشاطئ، واستضافة المئات من المدنيين الذين يتم إجلاؤهم.
وبدأت البحرية تجربة هذا النوع من القواعد البحرية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. إذ لم ترغب البحرية في تخصيص حاملات طائرات نووية أو حتى سفن برمائية كبيرة السطح لهذه المهام، لذلك بحثت عن بدائل أقل تكلفة بكثير، سواء من حيث القوة العاملة أو السعر.
فهذه القواعد المتنقلة، التي لها هياكل تشبه الخاصة بناقلات النفط، ضخمة وقوية، ويتجاوز طولها 750 قدماً (228 متراً) وتبلغ إزاحتها 80 ألف طن. لكنها رخيصة نسبياً، إذ تبلغ تكلفتها 650 مليون دولار، مقارنة بنحو 15 مليار دولار لناقلة نووية جديدة.
والسفينة الرئيسية الأخرى في عملية السودان، برونزويك، أصغر بكثير ولكنها أسرع بثلاث مرات تقريباً. واستعانت البحرية بست من هذه السفن، التي تُعرف باسم "النقل السريع الاستكشافي"، وتحمل هيكلاً مزدوجاً وتزيد سرعتها على 40 عقدة، فيما يبلغ طولها 300 قدم (91 متراً تقريباً) فقط، ويمكنها حمل أكثر من 600 طن من البضائع، لفترات وجيزة، ومئات الركاب. ويديرها طاقم صغير من نحو 40 فرداً، وبها مهبط مروحيات صغير ولكن قوي.
ونظراً إلى أن السفينتين لا تُسلحان إلا بمدافع رشاشة خفيفة، فعادةً ما ترافقهما مدمرة بحرية لتوفير قوة نيران دفاعية. وفي السودان، ترافق المدمرة الصاروخية الموجهة Truxton من فئة Arleigh Burke، سفينتي بولر وبرونزويك. وتُستخدم طائرات مسيرة أيضاً لمراقبة أي تهديد لعمليات إجلاء المدنيين على الشاطئ.
وهاتان الفئتان الجديدتان من السفن لهما مجموعة واسعة من الاستخدامات، في المهام غير القتالية مثل عمليات الإجلاء وفي دعم القتال أيضاً. وعلى سبيل المثال لا الحصر: العمليات في سلاسل جزر غرب المحيط الهادئ؛ وحماية النفط والغاز قبالة سواحل النرويج؛ ومكافحة الإرهاب في القرن الإفريقي أو جزر الفلبين؛ والإغاثة من الكوارث الطبيعية؛ وتوفير المساعدات الطبية وعمليات إجلاء غير المقاتلين.
وطبيعة الأمن أوسع بكثير من مجرد الضغط على صواريخ توماهوك وإلقاء قنابل دقيقة التوجيه أو إنزال مشاة البحرية. ولذلك تتمتع برونزويك وبولر بمجموعة واسعة من القدرات المناسبة للعصر الحديث.
الدور الأمريكي في صراع السودان
اللافت هنا هو أن الولايات المتحدة -أو سياساتها بمعنى أدق- كان لها دور محوري في وصول الأوضاع بالسودان إلى تلك الفوضى المدمرة، بحسب مجلة Foreign Policy الأمريكية في تحليل لها بعنوان "السياسات الأمريكية مهّدت الطريق للحرب في السودان"، رصد كيف فوّتت واشنطن وحلفاؤها الغربيون الفرصة على السودانيين الطامحين إلى التخلص من الحكم العسكري، من خلال التركيز على المصالح الغربية الضيقة في اللحظات الحاسمة.
وترى المجلة الأمريكية أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين قد يكونون هم القوى الوحيدة القادرة بشكلٍ محدود على تشكيل الأحداث في السودان، حيث تعمل الحكومة الأمريكية مع حكومات دول عربية -تحديداً مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات- في محاولة لمنع التوقعات القاتمة لانهيار دولة السودان. وقال دبلوماسيون غربيون لمجلة Foreign Policy الأمريكية إنَّهم يدركون أنَّ العودة إلى الوضع القائم قبل 15 أبريل/نيسان أصبح أمراً مستبعداً على نحوٍ متزايد مع استمرار القتال. يأتي هذا الغياب للنفوذ الأمريكي بعد 4 سنوات فقط من بلوغ واشنطن ذروة آمالها بشأن السودان.
إذ كانت أشهرٌ من الاحتجاجات في أوائل عام 2019 قد أدت إلى قيام الجيش بعزل الرئيس السابق عمر البشير، وبدا حينها أنَّ ثلاثة عقود من السياسة الأمريكية التي تعلن أن هدفها هو دعم الديمقراطية قد تؤتي ثمارها أخيراً. لكن الولايات المتحدة ودولاً غربية أخرى ضغطت على المتظاهرين المدنيين والجيش لتشكيل حكومة انتقالية مع صياغة دستور انتقالي تقرَّر بموجبه إجراء الانتخابات في عام 2022.
وإذا كانت هناك لحظة ضاع فيها أمل إرساء الديمقراطية في السودان، فقد كانت لحظة الاتفاق على هذا الدستور الانتقالي، الذي سمح للجيش بإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية. سارة عبد الجليل، المتحدثة باسم تجمّع المهنيين السودانيين الذي ساعد في تنظيم الاحتجاجات، قالت لمجلة Foreign Policy في عام 2019: "ما زلنا لم نحقق ما نقاتل من أجله. لقد رحل عمر البشير، لكن النظام نفسه لم يرحل. لقد حققنا الهدف الأول، لكن هدف تشكيل حكومة مدنية لم يتحقق بعد".
تولَّى البرهان قيادة البلاد حتى يوفي بوعده بقيادة السودان إلى الديمقراطية، لكن فور بدء الفترة الانتقالية، كان واضحاً أنَّ "آمال" الغرب في الديمقراطية باتت بعيدة المنال، وانتهى وهْم انتقال السودان إلى السلطة المدنية في عام 2021 عندما أُطيح برئيس الوزراء المدني، عبد الله حمدوك، في انقلاب عسكري. فقد أثبت العسكريون في ذلك الوقت أنَّ وعدهم بتسليم السلطة إلى المدنيين كان مجرّد كلام فارغ. واتضح أنَّ العملية الانتقالية المدعومة من الولايات المتحدة تشوبها عيوب جوهرية.
استمرار القتال ووساطة السعودية
على أية حال، انفجر الموقف في السودان ولا يزال الانفجار مستمراً، حيث سُمعت أصوات قتال في جنوب الخرطوم الأحد 7 مايو/أيار، في الوقت الذي يوجد فيه ممثلون عن طرفي الحرب السودانيَّين في السعودية؛ لإجراء محادثات يأمل وسطاء دوليون أن تضع حداً للصراع المستمر منذ ثلاثة أسابيع وتسبب في مقتل المئات وموجات فرار جماعي.
وتأتي المحادثات الجارية بجدة في إطار مبادرة أمريكية سعودية هي أول محاولة جادة لإنهاء القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع والذي حوّل أجزاء من العاصمة الخرطوم إلى مناطق حرب. وتسببت المعارك منذ اندلاعها، في مقتل مئات الأشخاص وإصابة الآلاف وعرقلة إمدادات المساعدات وفرار 100 ألف لاجئ إلى خارج البلاد.
واستقلت مناهل صلاح (28 عاماً)، وهي طبيبة في معمل للتحاليل، رحلة لمن يتم إجلاؤهم من بورتسودان إلى الإمارات، وقالت إن أسرتها اختبأت لثلاثة أيام في منزلهم القريب من مقر الجيش في العاصمة قبل أن تسافر بعد ذلك للمدينة المطلة على البحر الأحمر.
وتابعت قائلة لـ"رويترز": "نعم أنا سعيدة بالنجاة… لكنني أشعر بحزن عميق، لأنني تركت أمي وأبي في السودان، وحزينة لكل هذا الألم الذي يحدث في وطني".
ويسعى الآلاف للمغادرة عبر بورتسودان على متن قوارب متجهة للسعودية، أو الدفع مقابل رحلات جوية تجارية باهظة الثمن للرحيل من المطار الوحيد الذي يعمل في البلاد، أو من خلال رحلات الإجلاء.
وقال عبد القادر (75 عاماً)، الذي استقل طائرة إجلاء متجهة للإمارات، لـ"رويترز": "حالفنا الحظ أن نسافر لأبوظبي، لكن ما يحدث في الخرطوم التي قضيت فيها كل سنوات عمري أمر مؤلم… ترك حياتك وذكرياتك أمر لا يمكن وصفه".
وبينما يسعى الوسطاء إلى إيجاد مسار يُفضي إلى السلام، أوضح الجانبان أنهما سيناقشان فقط هدنة إنسانية ولن يتفاوضا لإنهاء الحرب. وأكد حميدتي مشاركة جماعته في المحادثات، قائلاً إنه يأمل أن تحقق الهدف المرجو منها وهو فتح ممر آمن للمدنيين.
وكان حميدتي قد تعهد إما بالقبض على البرهان وإما بقتله، وثمة أدلة على الأرض تشير إلى أن الجانبين ما زالا عازفين عن التوصل لحل وسط يوقف إراقة الدماء. وقالت دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام إن الاستخدام المفرط للذخائر المتفجرة في القتال زاد من الخطر على المدنيين، خاصةً الأطفال الذين قد يعتقدون أن تلك الذخائر ألعاب ويلهون بها.
وقال مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان، إنه سيتوجه إلى السعودية مطلع هذا الأسبوع؛ لإجراء محادثات مع كبار المسؤولين السعوديين.