كانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل، لكن مواهب محمد اتجهت للاستحمام مباشرةً في مرةٍ هي الأولى منذ أسبوع. وبصفتها واحدةً من آلاف السودانيين الذين عبروا الحدود إلى مصر في الأسابيع الأخيرة، لم تنم مواهب تقريباً على مدار ستة أيام ولم تستخدم الحمام سوى مرةٍ واحدة، على حد قولها لصحيفة New York Times الأمريكية، إذ لم تُصادف أي مراحيض شبه مناسبة بطول الطريق.
وقالت مواهب إنها ظلت تشعر بالقذارة حتى بعد استحمامها، ولهذا استحمت لأربع مرات متتالية على الفور. ثم خرجت قائلةً: "الحمد لله"، للتعبير عن ارتياحها.
كانت مواهب (47 عاماً) تتوقع شيئاً آخر عندما عادت إلى العاصمة السودانية الخرطوم قادمةً من دبي قبل أربع سنوات. إذ حلمت بالمساعدة في بناء مجتمع ديمقراطي معاصر بعد الثورة التي أسقطت عمر البشير.
وبدلاً من ذلك، وجدت نفسها تهرب مع عائلتها على عجل من الخرطوم، بالتزامن مع اتجاه المدينة نحو الحرب الأهلية. وقالت يوم الأربعاء 4 مايو/أيار 2023: "كانت لديّ آمال للسودان. ولم أتصور أنني سأغادره ثانيةً على الإطلاق".
أكثر من 50 ألف سوداني عبروا الحدود نحو مصر
بينما يقول المسؤولون المصريون إن أكثر من 52,500 سوداني ونحو 4,000 أجنبي عبروا الحدود المصرية منذ اندلاع المعارك، متجهين إلى بلد تجمعهم به اللغة المشتركة والعلاقات التاريخية والثقافية العميقة. ويُمكن القول إن هؤلاء العابرين هم أصحاب الإمكانيات إلى حدٍّ كبير، لكنهم أنفقوا آخر نقودهم في الرحلة نحو الشمال.
ويمثل هؤلاء العابرون طليعة ما يخشى مسؤولو مصر والأمم المتحدة أن يتحول إلى اندفاعٍ متزايد من اللاجئين السودانيين صوب جارتهم الشمالية، في ظل الانتهاكات المتتالية لوقف إطلاق النار بواسطة الفصائل المتحاربة في السودان وبالتزامن مع استمرار المعارك.
وقد خففت الحكومة المصرية من الضوابط الحدودية المفروضة على الواصلين السودانيين، وسمحت للنساء والأطفال وكبار السن بالدخول دون تأشيرة. كما أرسلت قطارات وحافلات إضافية إلى أسوان، أقرب مدينة كبرى للحدود، من أجل مساعدة اللاجئين في التنقل إلى مسافات أبعد داخل مصر. بينما رحّب المواطنون باللاجئين، وساعدوهم في العثور على شقق سكنية، وأحضروا لهم الطعام.
لكن صحيفة نيويورك تايمز تقول إن المسؤولين يشعرون بالقلق حيال ما سيحدث لاحقاً؛ لأنهم يتوقعون وصول حافلات محمّلة باللاجئين الأفقر. وحتى أوائل الوافدين الذين يمكن وصفهم بالموسرين نسبياً ليست لديهم فكرة عن خطواتهم التالية.
إذ قال محمود عبد الرحمن (35 عاماً)، المتطوع السوداني الكندي الذي قطع إجازته في القاهرة للمساعدة في أسوان: "هناك أشخاص اتخذوا قرارهم بالذهاب إلى مصر ثم اكتشاف ما سيفعلونه بعدها". بينما علق والده ووالدته في القاهرة عاجزين عن العودة إلى الخرطوم. وأردف: "يحاول الجميع تحديد خطتهم التالية".
قناصة وسطو مسلح وخوف يدق أبواب السودانيين
نزلت مواهب وزوجها محمد هاشم (48 عاماً) من الحافلة في أسوان مع أبنائهما الثلاثة (فراس 14 عاماً، وهاشم 11 عاماً، وعبد الله 6 أعوام)، وذلك في تمام الواحدة من صباح الأربعاء الثالث من مايو/أيار.
وكانت الرحلة نحو الشمال صعبةً بالنسبة لهم ولغيرهم من اللاجئين، وبأسعار استغلالية وغير نظامية، حيث وصلت تكلفة تذاكر الحافلة من الجانب السوداني إلى خمسة أضعاف التكلفة العادية قبل الحرب، وفقاً لتصريحات عاملين وسائقين في محطة حافلات أسوان.
يُذكر أن هاشم كان في زيارةٍ إلى بلده لقضاء شهر رمضان المبارك. ومع اقتراب عطلة العيد، احتل القناصة أسطح المنازل في حيهم، لتسقط رصاصة عند أقدام أفراد العائلة أثناء محاولتهم إلقاء نظرةٍ على ما يحدث في الخارج.
فاحتموا داخل منزلهم وتقاسموا ما تبقى لديهم من طعام مع الجيران. ومع انقطاع التيار الكهربائي، كان مولد الكهرباء يضخ الماء إلى البناية لمدة ساعةٍ واحدة كل يوم. وأصبحت أصوات إطلاق النار والمتفجرات متواصلةً بلا انقطاع، لدرجة أن مواهب ظلت تواجه مشكلات في السمع بعد أسبوع من مغادرتها الخرطوم.
وقررت الأسرة البقاء في السودان أول الأمر لعدم رغبتها في ترك والد مواهب البالغ 80 عاماً، الذي يعاني من الشلل الجزئي. كما كان هاشم يفكر في والديه المسنين وشقيقه من ذوي الاحتياجات الخاصة. لكن سطو قوات الدعم السريع على مصرفٍ قريبٍ من بنايتهم دفعهم لاتخاذ قرار الرحيل.
ورفعت محطات الوقود وشركات الحافلات أسعارها، بينما أصبحت بطاقات الائتمان بلا فائدة. واضطرت الأسرة لاقتراض المال من الأصدقاء لشراء ما يكفي من الوقود، حتى يتمكنوا من قيادة سيارتهم نحو محطة الحافلات، ثم شراء تذاكر الحافلة إلى مصر. واستمرت الرحلة من الخرطوم إلى مدينة وادي حلفا الحدودية لمدة 18 ساعة تقريباً، مروراً بست نقاط تفتيش يحرسها رجال مسلحون. بينما حمل الأطفال جهاز البلاي ستيشن الخاص بهم طوال الطريق.
لكن المال لم يفدهم كثيراً في وادي حلفا، حيث استخرجوا أوراق جواز السفر الطارئة وانتظروا خمسة أيام حتى تصل الحافلة المتجهة إلى أسوان. إذ نام هاشم والأولاد بحقائبهم في الشارع لمدة يومين، بينما نامت مواهب داخل الحافلة. ثم عثروا في النهاية على غرفة فندقية تقاسموها مع 30 شخصاً آخرين. وفي الليلة التالية، توسّلت مواهب إلى مدير الفندق حتى يسمح لأبنائها بالنوم في المكتب.
وبعد مُضيّ ستة أيامٍ على خروجهم من الخرطوم، عبرت الأسرة الحدود المشمسة، ثم استقلوا العبارة لاجتياز بحيرة ناصر. يُذكر أن أسوان تقع على بعد بضع ساعات بالحافلة من البحيرة.
إلى أين يذهب السودانيون الفارون من جحيم الحرب؟
تقول الصحيفة الأمريكية إنه لا يزال عدد غير معروف من اللاجئين السودانيين في انتظار الحافلات هناك عند المعبرين الحدوديين المؤديين إلى مصر، رغم أن حركة المرور تباطأت بالتزامن مع خلو الخرطوم من الأشخاص القادرين على تحمل تكلفة الفرار. ويبدو أن من يعجزون عن مغادرة البلاد، إلى مصر أو إثيوبيا أو تشاد أو حتى السعودية، يتجهون الآن إلى أماكن أخرى داخل السودان.
ويوفر الهلال الأحمر المصري مساعدات إنسانية ورعاية طبية على الجانب المصري من الحدود. فيما يعاني الجانب الآخر من ندرة الطعام والماء والمراحيض العاملة، وتتجاوز درجات الحرارة الـ37 درجة مئوية، ما أدى إلى وفاة العديدين أثناء انتظارهم في الصحراء، بحسب طبيب سوداني وسائق حافلة قطع رحلة أسوان ثلاث مرات.
وقال السائق نادر عبد الله حسين (51 عاماً) إن العصابات المسلحة استغلت أولئك الذين ينتظرون العبور. ورغم السوء الذي تبدو عليه الأمور، لكن الوضع الحالي عند الحدود يمثل تحسناً عند مقارنته بأيام النزوح الأولى، عندما انتظر بعض اللاجئين لأيام متتالية في الصحراء.
وضمت تلك القائمة علياء أمين (32 عاماً)، وأختها غير الشقيقة هناء عبد الواحد (24 عاماً)، وعمتهما سارة صالح (39 عاماً). إذ قلن إنهن علقن لنحو أسبوع عند الحدود، واضطررن للنوم في منتصف الصحراء، وتناولن التمور المجففة التي كان القرويون المحليون يوزعونها، وشربن الماء من النيل مباشرة بينما كانت الشمس تحرق رؤوسهن.
وأوضحن أن نيتهن لم تكن الهرب إلى مصر، لكنهن سرن مع الحشود المتكدسة في الحافلات وسط الفوضى. ولم يحضرن شيئاً معهن سوى الفساتين التي يحملنها على ظهورهن وبعض المال؛ لأن المعارك اندلعت فجأةً وهن في العمل.
كما قلن إن أطفالهن لا يزالون عالقين في مكانٍ ما بالسودان. وقد فقدوا الاتصال بهم بعد بدء إطلاق النار بوقتٍ قصير.
ويخطط بعض اللاجئين مثل هؤلاء النسوة للبقاء في أسوان والبحث عن وظائف. بينما سينتقل اللاجئون الأكثر سعةً، مثل مواهب وهاشم، إلى مدنٍ أخرى.
وبعد ظهر يوم الأربعاء، كانت أسرة هاشم تنتظر ثانيةً أمام مقهى فلسطين، القريب من محطة قطار أسوان. إذ كانت الأسرة تستعد لركوب القطار في رحلةٍ مدتها 13 ساعة إلى القاهرة. وفي محطة الوصول، كانت تنتظرهم شقة نجحوا في العثور عليها بمساعدة الأصدقاء، بينما يتطلعون إلى حياةٍ جديدة سواء في القاهرة أو دبي أو أي مكانٍ آخر.
وقبل لحظات من الصعود إلى القطار تلقت مواهب مكالمة هاتفية من أقاربها الذين أخبروها بأن مقاتلي قوات الدعم السريع نهبوا شقة العائلة في الخرطوم. وقالت مواهب بأنفاس مختنقة إن الأسرة تركت بعض الوثائق المهمة، والمجوهرات، والأجهزة الإلكترونية.
ثم عقّبت ببساطة قائلةً: "الحمد لله"، قبل أن ترفع حقيبة ابنها عبد الله إلى متن القطار.