أصبحت سياسة الحكم والإدارة الإماراتية القائمة على الشبكات جزءاً من المعركة الإقليمية الأوسع لفرض النفوذ في الشمال الإفريقي، وذلك بحسب ما كتبه الدكتور أندرياس كريغ وهو أستاذ مشارك في قسم الدراسات الدفاعية في كينجز كوليدج لندن، في مقاله لموقع Middle East Eye البريطاني. ويرى كريغ أن الحرب في السودان تُعَدُّ من نزاعات القرن الـ21 متعددة الأقطاب وسط عالمنا متعدد الأقطاب اليوم.
إذ تحول أصحاب المصالح في البلاد -وأولهم عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو "حميدتي"- إلى بيادق في المنافسة الأوسع لفرض النفوذ داخل منطقة القرن الإفريقي، التي تتمتع بأهمية استراتيجية بحسب كريغ.
ما الأدوار التي تلعبها الإمارات في السودان؟
تلعب الإمارات العربية المتحدة هذه اللعبة بحزمٍ أكبر من غيرها في رأي كريغ، حيث ترعى وتنظّم مجموعةً متنوعة من الشبكات بطول المنطقة.
ورجّح الكاتب أن التصعيد الحالي وزعزعة استقرار السودان هي أمور لا تصب في صالح أبوظبي، حيث اقترح أحد المسؤولين الغربيين أن الإمارات تعاني من حالة "ندم المشتري". لكن أصول الحكم والإدارة المتمحورة حول الشبكات تسببت في خلق شبكة معقدة من الترابط والمنافسة، لدرجة أن الإمارات أصبحت عاجزةً عن السيطرة عليها اليوم.
ثم وصف كريغ قصة الإمارات في السودان بأنها قصةُ ملكيةٍ قبلية صغيرة نسبياً، لكنها تحاول فرض نفوذ أكبر بكثير مما يُمكن اعتباره ثقلها الجيوستراتيجي. وفي تحدٍ لقيود الحكم والإدارة التقليدية، اتبع فرع بني فاطمة في العائلة الملكية بأبوظبي طريقةً مبتكرة لتفويض الحكم والإدارة إلى الأفراد، والشركات، والمصارف، والتجار، والميليشيات، والمرتزقة.
ولا شك أن قصة الإمارات في السودان هي قصة الشبكات التي ترعاها أبوظبي لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، مع الحفاظ على السرية وقدرة الإنكار المعقول، حتى تُكمِّل القدرات الداخلية المحدودة لمؤسسات دولتها المثقلة بالأعباء.
وتجري إدارة المشاركة الرسمية للإمارات داخل السودان عبر الوزارات المكلفة بالسياسة الخارجية والأمنية، لكن شبكات الظل التي تتداخل جميعها في أبوظبي ودبي -بالصدفة الظاهرية- تمنح بني فاطمة مقاليد السلطة الحقيقية على الأرض وفقاً لكريغ.
وتسمح هذه الشبكات لأبوظبي أن تربط الشركاء والمتنافسين، والأطراف الحكومية وغير الحكومية، والقوى الصغرى والكبرى بالإمارات، ما يرتقي بمكانة الدولة الخليجية لتتحول إلى مركز لا غنى عنه للربط بين الأطراف الإقليمية والدولية المتباعدة.
شبكة علاقات أسستها أبوظبي في السودان بعيد الربيع العربي
يرى كريغ أن الارتباط الإماراتي بجنرال الحرب السوداني حميدتي تحديداً يكشف عن شبكة من العلاقات والأنشطة التي تبدو عرضية، لكنها ترتبط بأصحاب النفوذ في أبوظبي بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ويُمكن وصف الشبكة الداعمة لصاحب محاولة الانقلاب في السودان بأنها دوامة خيل متداخلة من رؤوس الأموال، والأسلحة، والذهب، والمرتزقة. وقد أسستها أبوظبي في أعقاب ثورات الربيع العربي.
وإذا أردنا النظر إلى الشبكات الشخصية الفورية التي تدفع جنرال الحرب إلى اتباع كتيب التعليمات الإماراتي للثورة المضادة، فيقول كريغ إن المصارف والشركات الصورية -التي يقع مقرها في الإمارات- تلعب دوراً أساسياً ومحورياً في تأمين التدفق المالي لقوات الدعم السريع.
وتحوّل حميدتي إلى عقدة مهمة في الشبكات الموجودة داخل المنطقة، وخاصةً الشبكات الإماراتية، بعد أن أرسل جنرال الحرب آلاف الجنود للمشاركة مع السعودية والإمارات في حرب اليمن. حيث تلقى حميدتي أسلحة وأجور مرتزقته بعد عمله إلى جانب ميليشيات المجلس الانتقالي الجنوبي، وكيل أبوظبي في اليمن.
وأوضح كريغ أن اكتشاف القنابل الفراغية -التي اشترتها الإمارات- في حوزة قوات الدعم السريع، يمثل دلالةً على دعم أبوظبي المباشر لقوة حميدتي القتالية على الأرض. ولا نعلم حالياً ما إذا كانت هذه الأسلحة قد وصلت إلى حميدتي من الإمارات مباشرةً، أو عبر شبكة وكلائها في ليبيا حسب المرجح.
ويبدو أن قطار أبوظبي السريع بدأ يمتد الآن لبلوغ السودان بحسب كريغ. حيث يمثل الشبكة التي أججت الحرب الأهلية في ليبيا منذ عام 2019، وذلك عبر مجموعة فاغنر والحاكم القوي الذي صنعته الإمارات خليفة حفتر.
ولا شك أن العلاقة بين حفتر وبين مرتزقة الحرب الروس أصحاب السمعة السيئة قد تشكّلت داخل الإمارات، التي تُعَدُّ أهم حليف استراتيجي لروسيا في المنطقة. حيث ساعد التمويل الإماراتي في تسهيل إنشاء مجموعة فاغنر لنقطة انطلاق داخل شمال إفريقيا، بحسب الاستخبارات الأمريكية.
ذهب وأسلحة ومرتزقة
بمجرد أن بدأت مجموعة فاغنر توسعها جنوباً، يقول كريغ إن أنشطة المرتزقة تشعّبت لتشمل الصناعات الاستخراجية، وحققوا الثراء لأنفسهم عبر الحصول على امتيازات الذهب المربحة في السودان. وبرز حميدتي كمستفيدٍ رئيسي من تجارة الذهب في الظل، التي تحتاج بدورها إلى مركزٍ يساعد في إدخال الذهب إلى الأسواق، ناهيك عن السماح لمجموعة فاغنر بدفع تكاليف عملياتها في القارة الإفريقية.
وتُعَدُّ دبي من مراكز تجارة الذهب الرائدة عالمياً، لهذا وفّرت السبل اللازمة لتداول ذلك الذهب مقابل النقود. وبهذا برزت الإمارات ثانيةً كمركزٍ رئيسي يربط الأطراف المحلية بالقوى العالمية، ويضمن حصول الحرب في أوكرانيا على التدفقات النقدية اللازمة بحسب كريغ.
علاوةً على ذلك، سمحت الإمارات للشركات التابعة لشبكة فاغنر الواسعة بتأسيس مقراتها داخل البلاد. وقد فرضت وزارة الخزانة الأمريكية مؤخراً عقوبات على شركة دعم لوجيستي كانت تنقل الأفراد، والأسلحة، والذهب، إلى مختلف أنحاء إفريقيا. بينما تتخفى أبوظبي وراء عباءة الإنكار المعقول في هذه الأثناء، وفقاً لكريغ.
أصبحت الشركات التي رعتها الإمارات عبر مسارح الأحداث في المنطقة تعمل بطريقةٍ طبيعية إلى حد كبير، بينما لا تفعل أبوظبي شيئاً سوى تسهيل تدفق رؤوس الأموال ودعم البنية التحتية.
"دوامة خيل تعمل بانتظام"
ويرى كريغ أن "دوامة الخيل الإماراتية تعمل بانتظام"، لأن عُقَد الشبكة تحتفظ باستقلاليتها لتطبيق أجنداتها الخاصة. فبينما أرسل حميدتي 1,000 مقاتل من قوات الدعم السريع إلى ليبيا عام 2019، سنجد أن حفتر يبعث اليوم بمساعدات رمزية إلى رفيقه في الثورة المضادة داخل السودان.
وقد يبدو للعين المجردة أن التسلسل الهيكلي الذي ظهر هو تسلسل فوضوي بعض الشيء، وأنه لا يوجد طرف واحد يسيطر عليه. لكن كريغ يؤمن بأن الإمارات هي مجرد مركزٍ يستطيع فتح وإغلاق بعض الصمامات الرئيسية في المنطقة، ما يجعلها طرفاً لا غنى عنه ويمنحها القدرة على ممارسة النفوذ.
واختتم كريغ كلماته بالقول إن الدبلوماسيين الغربيين يوجهون أصابع الاتهام إلى الإمارات اليوم، لأنها استغلت أصول الحكم والإدارة المتمحورة حول شبكتها لمساعدة جنرالات الحرب، ومغازلة روسيا، وتعزيز الارتزاق، بعد التساهل معه ضمنياً طيلة سنوات. وفي جميع الأحوال، نستطيع القول إن أي شخص يرغب في إنهاء القتال في السودان سيتعين عليه الاتصال برقمٍ يبدأ رمزه الدولي بـ971 -بما في ذلك الولايات المتحدة-، لأن كل الطرق إلى حميدتي ستمر عبر الإمارات دون شك.