لم تمر أي من الهدن التي أُعلنت باتفاق طرفي النزاع في السودان بنجاح، وهذا ما أكدته الوقائع على الأرض طيلة الأيام الماضية في ظل ترنّح كل منها على واقع الخروقات وتقاذف الأطراف المتقاتلة الاتهامات بالمسؤولية عنها، ومع كل هدنة جديدة يتم الإعلان عنها فإنه يبدو لافتاً أن أي هدنة قادمة ستلاقي مصير ما سبقتها ما لم تكن مقرونة بإشراف ورقابة محلية أو إقليمية أو حتى دولية.
لم تنجح أي هدنة أمام المشهد المتأزم سياسياً وعسكرياً، وحتى إنسانياً فإن أي أُفق للتوصل لحل ينزع فتيل هذه الأزمة لا يزال بعيداً كل البُعد في ظل تمسك طرفي النزاع بأن قرار حسم المعركة هو بيد طرف دون آخر، وهذا ما سرّع عملية إجلاء الرعايا العرب والأجانب، ليبدو المشهد بعد انتهاء عمليات الإجلاء ضبابياً.
ما هي فرص نجاح أي هدنة في السودان أمام تفاقم الأمور ميدانياً؟، وما هي القوى المؤثرة دولياً والتي تستطيع فعلياً أن تراقب أي هدنة على الأرض؟، وما هي الضمانات، ومن هو المستفيد، وماذا عن خارطة الصراع اليوم؟، وهل من الممكن أن يتحول السودان إلى ساحة صراع دولي بعد اتمام عمليات الإجلاء؟
الإجابة على كل هذه الاسئلة تظهر تباعاً بعد أكثر من هدنة مضت، وفي نفس الوقت عمليات الإجلاء الكبيرة من العرب والأجانب والبعثات الدبلوماسية، وكانت أول من أعلنت إغلاق سفارتها الخارجية الفرنسية، ولم تعد نقطة للتجمع لمن يرغب بمغادرة الخرطوم.
لكن قبل ذلك وضح أمر آخر، وهو في اعتقادي أن الهدنة كمفهوم لا كتطبيق يبدو أنها ستكون لعبة الموسم، ففي أكثر من خمسة عشر يوماً من القتال نحن نتحدث عن خامس هدنة منقضية وجميعها هدن شكلية إنما فقط لشراء الوقت من جهة، ومن جهة أخرى للتغطية الدولية على اعتبار أن الهدنة كلمة محببة وقريبة لحد ما إلى فكرة وقف القتال.
لكن نلاحظ شيئاً لافتاً أنه في غالب الأحيان من يبادر إلى إعلان الهدنة هو قوات الدعم السريع، فهي تعمل على هذا الأمر لسببين؛ أولهما الواجهة الدولية، وثانيهما ميدان الصراع، خاصة أنه من يراقب اليوم المعارك يرى مثلاً القصف الأخير لقوات الجيش بمنطقة أم درمان، والتي أعقبتها انسحابات متتالية للدعم السريع، صحيح أن الجيش تحدث عن إعادة السيطرة تقريباً على كل المناطق المركزية عدا جزئياً مطار نيالا ومطار الخرطوم.
لكن من الواضح أن هناك تشتتاً لدى قوات الدعم السريع بسبب كثافة القصف الجوي في الأيام الماضية، رغم أن الجميع يعرف أن القصف الجوي لا يحسم معركة من هذا النوع، لكنه يؤثر ميدانياً في الناحية المعنوية في توزيع القوات وسهولة الحركة على الأرض.
أيضاً في المقابل هناك حديث عن تعزيزات أخرى تأتي لقوات الدعم السريع، بمعنى آخر بقدر ما يخرج طيران الجيش ليقصف أهدافاً إذا كان لديك آلاف المقاتلين على الأرض، لا تستطيع أن تحسم الأمور عسكرياً، ما يعطي معادلة مفادها، أنه بغض النظر عن واقعية الهدنة، والإجلاءات التي ستنتهي خلال ساعات أو أيام قليلة فلن تكون حديث الساعة، ويبدو أن الأطراف الدولية والإقليمية جميعها تترك لطرفي النزاع أن يُكملا المعركة وينتظرا إلى أيٍّ منهما سوف تميل الكفة، وبناء عليه سيقرر الوضع السياسي.
فقبل اللحظة الأولى في 15 من نيسان/أبريل 2023 بدأت قوات الدعم السريع حشد قواتها بالقرب من الخرطوم والقواعد والمواقع العسكرية الحساسة، ومع إطلاق الرصاصة الأولى لم تنته المعارك بساعة أو اثنتين ولا بيوم أو يومين، والآن تدخل المعارك أسبوعها الثالث وربما قد تستمر الآمور للأسف لفترة طويلة.
فلا البرهان قادر على كبح جماح حميدتي وقواته، ولا العكس، ويبدو أن لهيب السودان سيكون حارقاً أكثر مع قدوم هذا الصيف على السودانيين والعرب.
بعدما كان هناك شعور ارتياح عام لدى العرب بصورة عامة والفلسطينيين واللبنانيين بصورة خاصة عندما شعروا أن صوت المعارك والحرب تنخفض في مناطقهم في الأيام الماضية، وأن المنطقة ذاهبة نحو تسويات، فجأة اشتعل السودان، والجميع هناك يدعي أن البداية انطلقت من الطرف الآخر، رغم أن الفريقين، وبشهادة المواطنين السودانيين كانا يحشدان قواتهما قبلها، ويستعدان، والجميع كان في حالة جاهزية وتأهب، وأما من بدأ الهجوم فلم يتضح حتى الآن، لكن الواضح كان ولا يزال جلياً فقدان الثقة لدى الجميع ومن بعدها نشب القتال.
لكن أسوأ ما في المشهد هو محاولة التفسيرات الدولية، خصوصاً في الصحافة الغربية لما يحدث، فلو راقبنا مثلاً جزءاً مما كُتب، تحديداً الامريكية منها وما نشرته صحيفة "النيويورك تايمز"، تجد هناك محاولة كبيرة لربط الصراع الدائر اليوم بروسيا والصين بأي طريقة، ويكأن مشكلة السودان ملخصة بالنفوذ الصيني أو الروسي بها.
إذن وماذا عن النفوذ الأمريكي والبريطاني هناك، وماذا عن اللجنة الرباعية التي شُكلت منذ سنوات والتي كان أبرز مهامها حل مشكلات السودان، وإلى أين وصلت اللجنة الدولة السودانية الآن؟
السؤال هنا إذا كانت الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات لم تستطع في السابق أن تجبر الأطراف المختلفة سياسياً على حل سياسي، فلمَ التراخي الآن مع احتدام المعارك العسكرية، ولمَ الانتظار، لو كان هناك حرص حقيقي على الشعب السوداني، كما ادعت في السابق، ولماذا لم تضغط على الأطراف المتناحرة الآن؟، وهي تقدر على فعل ذلك، بل والأدهى من ذلك تتواصل مع قادة طرفي النزاع وكأنهما مسؤولان سياسيان وليسا أمراء حرب.
لو عدنا إلى ما نشرته الصحيفة والتي قالت إن هناك حديثاً أيضاً عن الدور الإماراتي والسعودي، وفي هذه النقطة شيء لافت، ليس عن دور الإمارات وحسب، بل التباين داخل الدولة الواحدة تجاه التيارين العسكريين في السودان؛ حيث يقول المقال إن محمد بن زايد، رئيس الدولة، ومنصور بن زايد، وزير ديوان الرئاسة، يميلان أكثر للتعامل مع حميدتي، بينما طحنون بن زايد مستشار الأمن الوطني يميل للتعامل مع الجيش.
فإذا كان هذا التناقض في دولة واحدة ليس بين متحالفين أقصد لا نتحدث مثلاً عن الإمارات ومصر والإمارات والسعودية بل عن دولة واحدة ولديها هذه العلاقات المتشابكة، ويتعاملون مع الدولة السودانية على أنها منجم أو ممر مصالح اقتصادية، فما الذي نتوقعه من صدق الأطراف أصلاً أن تكون نزيهة وتنهي الصراع، بالعكس تماماً قد يكون من مصلحتها "إشعال" الصراع أكثر وأن يدوم أطول فترة ممكنة من أجل أن تفرض هي شروطها وقت الحل والجلوس على طاولة واحدة.
من يستطيع إنهاء الصراع بين حميدتي والبرهان؟
المسألة هنا ليست من يستطيع إنهاء الصراع، هل القوى الإقليمية "السعودية، مصر، الإمارات، إثيوبيا" أم منظمة إيجاد الإفريقية أم القوى الدولية؟
لإيضاح ذلك لابد لنا أن نعطي إشارة أساسية أنه مع تراجع الاهتمام الامريكي بالإقليم فمن الطبيعي أن تأخذ القوى الإقليمية مساحة أكبر، وهذا الأمر ملحوظ على مدار الأشهر القليلة الماضية، إذا تحدثنا مثلاً عن آخر سنتين بالتحديد فسنجد أن دول الإقليم صار لها تأثير كبير، نعم هي أحياناً تعمل تحت السقف الأمريكي وأحياناً تخرج عنه قليلاً، ولكن المحصلة في النهاية أنها تعمل بموجب الضوء الأخضر المسموح لها، وهذا لا يعني أن الإدارة الأمريكية أهملت ملف السودان فهي لم تسقط ملف أي دولة، بالعكس هناك اهتمام كبير بكل دولة في الشرق الأوسط.
لكن الأمريكان لم يعودوا في قدرة كاملة على متابعة التفاصيل بسبب الحروب الكبيرة المفتوحة أمامهم في العالم والمواجهة الاقتصادية مع الصين، وأيضاً الحرب مع روسيا بصورة غير مباشرة في أوكرانيا.
لذلك تأخذ القوى الإقليمية مجالاً أكبر من أجل إعادة ترتيب أوراقها، ورأينا ذلك على الأقل في نتائج الاتفاق الإيراني السعودي.
أيضاً قبل نشوب الحرب، كان هناك ميل غربي وفق تقارير إلى حميدتي، على اعتبار أنه تعهد لهم بثلاث ملفات أساسية؛ الأول حماية دولهم من الإرهاب ومحاربته، ثانياً ملف الهجرة الذي خدمهم فيه، ثالثاً دعم القوى المدنية، وتحت هذا العنوان أصبح حميدتي يميل لصف القوى المدنية التي هي من الأساس مشتتة، فبناء الرجل على هذا الأساس، وهذا العنوان كان مغرياً بالنسبة إلى المجتمع الأوروبي.
لكن اليوم نرى من كل القوى التي تحدثنا عنها سواء الإقليمية أو الغربية أن الحديث بشأن الحرب بالسودان أصبح فضفاضاً وغير واضح، فلا يوجد فعلياً وصف دقيق ولا حتى تحميل مسؤولية للبرهان ولا لحميدتي، ويفيد ذلك أن هناك مصالح متداخلة بين الطرفين، فمن يضمن أن اشتعال المعركة من الأساس لم يكن بإيعاز أجنبي، ولماذا تصدر لنا فقط نظرية أن هناك خلافاً شخصياً بين الجنرالين!.
الوضع الإنساني بالسودان في ظل صراع حميدتي والبرهان
أما عن الوضع الإنساني وهل يمكن أن يحرك أطرافاً في الشارع السوداني لمحاولة لجم الطرفين: مع بداية المعركة كان المواطنون وكأنهم خارج المعادلة، وكان جزء كبير منهم لم يؤيد طرفاً على الآخر رغم وجود شريحة أخرى كانت تؤيد قوات الدعم السريع وتحديداً جزء من القوى المدنية على خلفية أن هناك تحالفاً مصرياً مع الجيش السوداني ولسان حالهم أننا ضد النفوذ المصري في البلاد.
كان هناك شعور آخر لدى بعض المواطنين السودانيين أنه بغض النظر عن موقفنا من العسكر، ولكن إذا خُيرنا بين المؤسسة العسكرية "الرسمية" وبين "مليشيا" قوات الدعم السريع والتي لها أجندتها الخاصة وعليها ملاحظات كثيرة في الماضي والحاضر فسوف نختار الجيش مؤقتاً ولكن بعد ذلك لنا حديث آخر فيما يتعلق بتسليم السلطة للمدنيين وهذا من باب الانصاف.
أما عن المطالب المترددة بوقف الحرب والعودة إلى طاولة الحوار، حتى وإن ذهب الطرفان إلى السعودية فلا أعتقد أن يسفر الأمر عن شيء، لأنه لا يوجد ضغط حقيقي حتى الآن عربي، ولا دولي. نعم الجميع ضد أي تدخل أجنبي ولكن تدخل عربي قد يكون إلى حد ما مقبولاً على ألا يُترك الأمر لدول الخليج بمفردها.
لماذا العرب أقدر على تحقيق الهدنة واستمرارها بالسودان؟ لأن أكثر الجاليات التي لا زالت متواجدة في السودان، وتسير عمليات إجلائها ببطء ولا زالت عالقة هي عربية، وهؤلاء أكثر جنسيات لا أحد يهتم لأمرهم كما فعلت الحكومات الغربية مع رعاياها، وكثير من الشكاوي على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي من أنهم لا يستطيعون الخروج أو أن سفاراتهم نقلت جزءاً وتركت آخر كبيراً يعاني ويلات الحرب.
أخيراً رسالة للسودانيين العسكريين والمدنيين: إذا كان جيران السودان من إفريقيين أو عرب يريدون تقطيع أوصال هذه الدولة وامتصاص خيراتها بحد قول بعض القوى المدنية هناك قبل الحرب، ألا يحق للسودانيين ولو للحظة واحدة أن يقفوا مع أنفسهم ويفكروا بأن يكفي أن يكونوا وقوداً للحرب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.