"الروس أصدقاؤنا ولا نريدهم أن يغادروا المدينة حتى لو كانوا جواسيس"، هكذا يقول سكان مدينة نرويجية صغيرة، التي يواصل ميناؤها استقبال السفن الروسية رغم الشكوك بأنها تحوي معدات تجسس، في تناقض لافت مع العلاقة المتوترة بين النرويج وروسيا.
وتتحدى مدينة كيركينيس النرويجية التي تقع على بعد 400 كلم من الدائرة القطيية الشمالية، بموقفها هذا سياسة حكومة البلاد المعادية لموسكو، بل يبدو أن سكانها يتحدون الغرب كله.
وتبعد روسيا عشر دقائق بالسيارة عن مدينة كيركينيس الساحلية الشمالية النرويجية الهادئة التي لا تزال تعتبر الروس أصدقاء، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
وتوترت العلاقة بين النرويج وروسيا، عقب الحرب الأوكرانية، حيث تعد أوسلو (عضو الناتو)، من الدول الأوروبية المتحمسة لدعم أوكرانيا عسكرياً، وقدمت لها العديد من الأسلحة والمعدات، وفي الوقت ذاته تعد من أكثر دول العالم استفادةً من الحرب؛ بفضل ارتفاع أسعار الغاز والنفط، لأن النرويج منتجاً كبيراً لكليهما.
سفن الصيد الروسية ترسو بالميناء رغم تحذيرات خبراء الأمن
ويُسمح لسفن الصيد الروسية بالرسو في ميناء هذه المدينة، وهو واحد من ثلاثة موانئ مماثلة في النرويج والغرب. على أن خبراء أمن يعتبرون مرور روسيا إلى كيركينيس حلقة ضعيفة في استراتيجية الناتو لصد العمليات الاستخباراتية في بحر الشمال.
المفارقة الغربية في العلاقة بين النرويج وروسيا، أن هذه السفن تواصل دخول ميناء مدينة كيركينيس، رغم أن تحقيقاً أجرته مؤخراً شبكات إسكندنافية تحدث عن وجود حوالي 50 سفينة تجسس تتظاهر بأنها سفن أبحاث وسفن صيد، وهي جزء من برنامج استطلاع روسي شامل في بحر الشمال وبحر البلطيق. وهذه السفن تبحر في المنطقة دون أن تفتح أجهزة تعقب المواقع، بزعم استعدادها لحملة تخريبية في حالة نشوب حرب مع الغرب.
والشهر الماضي، طردت النرويج 15 دبلوماسياً روسياً من سفارتها في أوسلو، وكشف تحقيق أجرته محطة الإذاعة العامة النرويجية NRK مؤخراً عن وجود صلات بين القنصل الروسي في أرخبيل سفالبارد في القطب الشمالي والاستخبارات العسكرية.
عمدة المدينة تعترف بإمكانية قدوم جواسيس روس للمدينة، ولكن هذا لا يقلقها!
وأقرت العمدة لينا نوروم برغينغ بإمكانية قدوم جواسيس إلى المدينة، لكن هذا لا يقلقها. وتقول: "هذه السفن لا تقلقني. فكل دولة لها جواسيس واستخبارات في دول أخرى. والنرويج لديها في روسيا أيضاً. ولو استمر شعورنا بالقلق طوال الوقت، فلن يمكننا العيش هنا".
لكن قائد البحرية النرويجية الأدميرال رون أندرسن في أوسلو، التي تقع على بعد 1800 كيلومتر جنوباً، له رأي مختلف. وقال لصحيفة The Times إنه يدعم مقترحات منع السفن الروسية من العمل في مياه النرويج في غياب رخصة نرويجية.
وقال: "كان علينا تكثيف المراقبة على الساحل وفي المياه المجاورة، باستخدام مجموعة من أجهزة الاستشعار السطحية والفضائية. وأسرع وأفضل طريقة للتغيير هي التوقف عن منح هذه التراخيص، لكنني أدرك أن هذا ليس قراري".
ويقول توم روسيث، الأستاذ المساعد في الدراسات الاستخباراتية في كلية جامعة الدفاع النرويجية، إن وصول روسيا إلى كيركينيس مصدر قلق أمني متزايد.
وقال: "هذه السفن ربما تحمل أجهزة استشعار للتجسس على الاتصالات، ولو أن هذه المعلومات كشفت عن أهداف مرشحة للتخريب مثل كابلات الاتصالات أو خطوط أنابيب البترول، فهذا يمثل أيضاً تهديداً للناتو. وانضمام فنلندا والسويد إلى الناتو يزيد من أهمية النرويج. ففي حالة اندلاع حرب سيُغلق بحر البلطيق، ودعم دول الحلف لهذين البلدين سيمر عبر موانئ النرويج".
وترفض إلغاء آخر اتفاقية صداقة بين النرويج وروسيا
والأسبوع الماضي، دعم العمدة على مضض إلغاء اتفاقية الصداقة بين كيركينيس وسفيرومورسك، وهي بلدة عسكرية روسية مغلقة تضم الأسطول الشمالي الروسي.
وتضمنت الاتفاقية، التي أبرمت عام 1976، فقرة تسمح لروسيا بتفتيش البنية التحتية الرئيسية في المنطقة المحيطة بكيركينيس.
ولكن عارضت تصويت خطوة منفصلة لإلغاء اتفاقيات الصداقة المتبقية مع روسيا.
والشرطة المحلية لا تستجيب لأوامر الحكومة المركزية بتفتيش سفن الروس بدقة
وأكدت الحكومة النرويجية المركزية أن جميع السفن تخضع للتفتيش قبل مغادرة الميناء، وأن الحكومة لا تستبعد اتخاذ مزيد من الإجراءات.
في المقابل، يقول غوران يوهانسن ستينسيث، ضابط الشرطة المسؤول عن الهجرة ومراقبة الحدود، إنه رغم وجود بعض الخطط لتقييد حركة الروس، يتمتع الروس العاملون في المدينة حالياً بحرية التجول في كيركينيس. ونظرياً، تتوقف حدود حرية الحركة على بعد ميل واحد خارج المدينة. أما على أرض الواقع "فهي مبنية على الثقة"، وفقاً لستينسيث.
ويضيف: "من الصعب جداً فرض ضوابط، ليس بإمكاننا الحضور في كل مكان". وقال إن الشرطة لا تصعد على متن كل سفينة روسية لتفتشها في كل مرة تبحر فيها"، "إجراءات التفتيش التي نجريها مع سفينة بريطانية هي نفسها مع السفن الروسية".
هذه الصداقة بدأت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي حين أنقذ الروس اقتصاد المدينة
ورغم أن النرويج وروسيا جارتان منذ أكثر من 700 عام، فالتعاون عبر الحدود في كيركينيس ظاهرة جديدة نسبياً. فمن بين سكان البلدة البالغ عددهم 3000 نسمة، يوجد حوالي 500 من الرعايا الروس الذين قدموا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وحلت خدمة السفن الروسية محل التعدين وأصبحت شريان الحياة المالي لاقتصاد المدينة.
يقول نيلز روين، الرئيس التنفيذي لغرفة التجارة بالمدينة: "إذا أغلق المرفأ، فستقع هذه المدينة في أزمة، وستصبح مئات الوظائف والعائلات والشركات مهددة. وهذا سيدمر الحياة اليومية لهذه المدينة، وعودتها إلى ما كانت عليه ربما تستغرق جيلاً أو 30 عاماً".
وقال متحدث باسم وزارة الخارجية النرويجية: "من الضروري أن نستمر في الضغط على الحكومة الروسية وأنصارها. فالعقوبات تؤثر على الاقتصاد الروسي وتمنع وصول المكونات الرئيسية إلى صناعة الحرب الروسية".
وأضاف قائلاً "والنرويج متحدة مع بقية أوروبا وانضمت إلى جميع حزم عقوبات الاتحاد الأوروبي. ونحن نتضامن مع شعب أوكرانيا وندعم نضاله من أجل الحرية دعماً كاملاً".
البعض يخشى من أن تنتقم روسيا بخرق حصص الصيد في بحر بارنتس
إحدى المفارقات في العلاقة بين النرويج وروسيا هي تمسك أوسلو بالاتفاق مع موسكو الذي تم التوصل إليه بشق والذي يحدد حصص الصيد في بحر بارنتس.
ويقع بحر بارنتس بين النرويج وروسيا، بالقرب من القطب الشمالي، وتحديداً يقع إلى الشمال الشرقي من النرويج والجزء الأوروبي من روسيا.
وشددت الحكومة على أهمية الاتفاق الذي تم التوصل إليه بشق الأنفس مع روسيا عام 1976، حيث سبق أن أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية النرويجية آني هافاردسداتر، أن الوزارة تعتبر أن الاتفاق بين النرويج وروسيا، حول ترسيم المناطق البحرية والتعاون في بحر بارنتس، لا يخضع للنقاش.
ويرى البعض أن روسيا ستخرق الاتفاق وتزيد حصتها من الصيد رداً على أي إجراءات جديدة قد تتخذها النرويج.
أما الناس في كيركينيس، فيستعدون لمستقبل بلا روسيا. يقول تيرجي يورجنسن، رئيس ميناء كيركينيس: "نحن ندرك أن الحكومة قد توقف السفن الروسية في أي لحظة. ولذا نعمل بأقصى سرعة للتحول إلى التعاون التجاري مع الصين".