يمتلك ألكسندر أوتديلنوف مَعْلَماً غير عادي يجذب الزوار: متحف تهريب. تتدفق البضائع المهربة عبر موطنه الأصلي، أوديسا، منذ القرن الثامن عشر. وحتى إغلاقه بسبب جائحة كوفيد، عرض المتحف كل شيء من اللآلئ والمسدسات التي تسلَّلت من الإمبراطورية الروسية إلى النهب الأكثر حداثة.
ثم جاءت الحرب في فبراير/شباط 2022. يقول أوتديلنوف لمجلة The Economist البريطانية: "توقف كل شيء"، ولم تكن التدفقات السياحية فقط هي التي توقفت، كانت أوديسا عقدة رئيسية في شبكة واسعة من الجريمة تركزت في أوكرانيا وروسيا، والتي وصلت من أفغانستان إلى جبال الأنديز في أمريكا الجنوبية. كان جزءاً من "أقوى نظام إجرامي في أوروبا"، حسب تقديرات مركز المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للقوميات.
اقرأ أيضاً
ما حجم الضربة التي وجهتها الحرب في أوكرانيا لعصابات المافيا العالمية؟
ضرب الغزو الروسي هذا العالم السفلي بقوة زلزالية بحسب الإيكونومست. توقفت الغالبية العظمى من رجال العصابات الأوكرانيين المتشددين عن التعاون مع أقرانهم الروس، وقال أحدهم: "نحن لصوص، نحن ضد أي دولة، لكننا قررنا أننا مع أوكرانيا". يُعاد رسم مسارات تهريب الهيروين المربحة، ما يؤثر على أسعار وأرباح العصابات الإجرامية على بعد آلاف الأميال. إذا ثبت أن الاضطراب مستدام، فقد يغير وجه الجريمة العالمية. وسوف يغير أوكرانيا أيضاً.
كافحت البلاد ضد الفساد منذ خروجها من الاتحاد السوفييتي في عام 1991. أطاحت ثورة الميادين 2013-2014 برئيس فاسد وبعض من النخبة الأوليغارشية التي تدعمه. وفي عام 2019، انتُخِبَ فولوديمير زيلينسكي رئيساً وأقر إصلاحات للقضاء على المافيا، لكن في أحسن الأحوال كانت تلك عملية تطهير نصف منتهية، كما تقول الإيكونومست.
قبل الغزو، صنفت المباراة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للقوميات أوكرانيا في المرتبة 34 في المرتبة الأولى من بين 193 دولة على مؤشر الجريمة، والثالثة في أوروبا. وسجلت أوكرانيا أيضاً نتائج سيئة بشكل ملحوظ في تقديرات الفساد.
اقرأ أيضاً
لماذا أوكرانيا هي عقدة أساسية في شبكة المافيا العالمية؟
كان "العالم السفلي" في الأجزاء التي تسيطر عليها الحكومة في أوكرانيا قبل عام 2022 محل نزاعات متقطعة وعنيفاً بين مجموعات مختلفة، ومع ذلك فقد كانت هناك ثلاثة جوانب ربطت أوكرانيا بأسواق الجريمة العالمية:
أولاً، طريق سريع ممنوع يربط بين روسيا وأوكرانيا، ويمر عبر أجزاء من شرق أوكرانيا التي احتلتها روسيا في عام 2014.
ثانياً، مراكز التهريب العالمية في أوديسا وموانئ البحر الأسود الأخرى.
ثالثاً: مصانع في أوكرانيا لإنتاج سلع غير مشروعة للتصدير.
دعمت هذه البنية التحتية نماذج أعمال مختلفة لمنتجات مختلفة، كانت أوكرانيا طريقاً "عرضياً" متنامياً لعبور الهيروين من أفغانستان، ما زاد من الطرق عبر البلقان والقوقاز. قبل الحرب كان لديها رابع أكبر مضبوطات هيروين في أوروبا، وتدفق الكوكايين من أمريكا اللاتينية عبر البحر الأسود.
وفي الاتجاه الآخر، قام رجال العصابات بتصدير الأسلحة إلى آسيا وإفريقيا، ولاسيما من ميناء ميكولايف. وفي عام 2020، تفوقت أوكرانيا على الصين لتصبح أكبر مصدر للتبغ غير القانوني في أوروبا، كان التصنيع المحلي للأمفيتامينات في ارتفاع، حيث تم تفكيك 67 معملاً غير قانوني في ذلك العام، وهو أعلى رقم أُبلِغَ به في أي بلد.
كيف ضربت الحرب المافيا في مقتل؟
يقول تقرير جديد صادر عن الحكومة الأمريكية إن الحرب غيّرت كل شيء من خلال خلق "بيئة من المخاطر غير المواتية للاتجار الدولي غير المشروع". أُغلِقَت موانئ البحر الأسود، وأصبحت الحدود بين أوكرانيا التي تديرها الحكومة والأراضي التي تسيطر عليها روسيا الآن سلسلة محصنة من حقول القتل، ودُمِّرَ الطريق السريع. وحرم التجنيد في أوكرانيا هذا العالم السفلي من القوى البشرية، بينما أوقفت الأحكام العرفية مجموعة واسعة من الأنشطة الإجرامية، يجعل حظر التجول والتنقل ليلاً أكثر صعوبة.
أما الآثار غير المباشرة على مستوى العالم فهي ملموسة من خلال إعادة تشكيل شبكات التهريب لتتجاوز أوكرانيا. يقول مسؤولو الجمارك الأتراك إن المزيد من الهيروين والميثامفيتامين يتدفق عبر الحدود مع إيران.
وشهد مسؤولو الحدود الليتوانية ارتفاعاً بمقدار أربعة أضعاف على أساس سنوي في أحجام التبغ غير المشروع، في الربع الأول من عام 2022. وقد احتجز المسؤولون الإستونيون الذين يعملون مع يوروبول، وكالة شرطة الاتحاد الأوروبي، 3.5 أطنان من الكوكايين من أمريكا اللاتينية في ميناء مووغا، تبلغ قيمتها حوالي نصف مليار يورو العام الماضي.
كما أن إغلاق موانئ أوكرانيا على البحر الأسود وزيادة الضوابط في أوروبا الغربية قد يفسر أيضاً المصادرات الكبيرة مؤخراً في روسيا. في 10 أبريل/نيسان الجاري، صادرت السلطات الروسية ما يقرب من 700 كيلوغرام من الكوكايين في موسكو.
الاتجار بالبشر على وقع الحرب
كانت الحرب تعني أيضاً فرصاً جديدة قصيرة المدى لأفراد العصابات في أوكرانيا. وأبرز هذه الفرص هي تهريب البشر. تُقدر الأمم المتحدة أن حوالي 5 ملايين لاجئ أوكراني يعيشون في "حماية مؤقتة" في أوروبا، وتشير نمذجتها الإحصائية للاتجاهات التاريخية إلى احتمال وقوع 100 ألف شخص ضحية للاتجار بالبشر.
هناك أيضاً سوق لتهريب المجندين من أوكرانيا. في بعض الأحيان يمكن أن يكون هذا بسيطاً مثل التسلل إلى ما وراء مراقبة الجوازات الأوكرانية. أُلقِيَ القبض على ما لا يقل عن 8 آلاف شخص وهم يحاولون مغادرة البلاد، معظمهم إلى مولدوفا أو بولندا. وبحسب ما ورد يتقاضى المهربون من 5500 دولار إلى 11 ألف دولار. ومع ذلك، فإن حجم الاتجار بالبشر ليس بالسوء الذي يمكن أن يكون عليه حتى الآن، يقول مسؤول كبير في اليوروبول: "هذا يحدث، لكن أقل بكثير مما توقعنا".
التعاون مع المافيا في روسيا
تقول المجلة البريطانية، من المحتمل أن يكون التأثير طويل المدى للحرب على الإجرام في روسيا خبيثاً، قامت الدولة بتكثيف الروابط التي كانت قائمةً بالفعل مع المجرمين المنظمين، رغم استغلال هذه الروابط في بعض الأحيان وليس دائماً، طُلب من رجال العصابات الروس الذين يعملون خارج البلاد إيداع حصة من أرباحهم فيما يسمى بـ"الحسابات السوداء" التي يمكن للجواسيس الروس الوصول إليها لتغطية تكاليف عملهم.
وقد جُنِّدَ المجرمون للعمل كعملاء استخباراتيين في الكرملين، ولا سيما للمساعدة في الحصول على أشباه الموصلات المحظورة التي تشتد الحاجة إليها من أجل المجهود الحربي. وسيؤجج استيلاء الكرملين أو وكلائه على الشركات المملوكة للغرب في روسيا حقبة جديدة من المحسوبية، بينما سيقلل شرط إخفاء المعاملات عبر الحدود أو تجاوز النظام المالي الغربي من الشفافية والمساءلة بشكل أكبر.
قد ينتعش الإنتاج المحلي للمخدرات مرة أخرى، أبلغت الحكومة الأمريكية مؤخراً عن نمو شبكات أكثر توزيعاً لمعامل المخدرات الأصغر في أوكرانيا، والتي تستخدم الإنترنت للمبيعات والنظام البريدي للتسليم. يأتي الخطر الأكبر على الإطلاق من عملية إعادة الإعمار. في الشهر الماضي، قدر البنك الدولي تكلفة إعادة بناء أوكرانيا بمبلغ 411 مليار دولار، بما في ذلك 92 مليار دولار للنقل و69 مليار دولار للإسكان. يمكن بسهولة أن تنهب عصابات المافيا مثل هذه المشاريع الكبيرة، إذ تتلاعب المافيا بأنظمة المشتريات العامة وأنظمة العطاءات للوصول إلى الأراضي والإعانات والتراخيص.
ظروف قد تقود لنتائج مختلفة
قد يكون الضغط الخارجي مفيداً، فمن المرجح أن تأتي أموال إعادة الإعمار هذه بشكل كبير من الأجانب، وتأتي مرهونة بشروط، لا تزال عضوية أوكرانيا النهائية في الاتحاد الأوروبي على بعد سنوات عديدة، لكن عملية التقارب مع معايير الاتحاد الأوروبي يمكن من خلالها مكافحة الجريمة المنظمة. وقد مُنِحَت أوكرانيا وضع المرشح، في يونيو/حزيران الماضي.
من البديهي بين أولئك الذين يدرسون الجريمة المنظمة في جميع أنحاء العالم أن الحرب والتفكك الاجتماعي يخلقان فرصاً لأفراد العصابات والمتعاونين معهم من المسؤولين، ومع ذلك هناك عناصر غير عادية في تجربة أوكرانيا قد تسمح بنتيجة مختلفة.
لقد قطعت الحرب الشرايين المادية والاجتماعية القائمة منذ عقود بين الدولة والشبكات الإجرامية الروسية، ربما لسنوات قادمة. وقد منح ذلك الدولة الأوكرانية مزيداً من الشرعية العامة لمحاربة الأوليغارشية، وربما يزيد من المشاركة الغربية في الاقتصاد والتدقيق فيه. هناك احتمال أن تنتهي صورة أوكرانيا أخيراً باعتبارها جنة للعصابات، كما تقول الإيكونومست.