خطوة جريئة صدمت الغرب، نفذها الرئيس قيس سعيد برفض قرض صندوق النقد لتونس بقيمة 1.9 مليار دولار، وسط أزمة اقتصادية خطيرة تحدق بالبلاد، ولكن البعض يراها خطوة صحيحة.
وأحدثت هذه الخطوة، التي أعلن عنها في وقت سابق من هذا الشهر، موجة من الصدمة في المجتمع الدولي، مما أثار مخاوف بشأن مصير الاقتصاد الهش في البلاد.
كما يضيف المشهد السياسي المقلق في البلاد، والذي شهد انقلاباً ناعماً من قِبَلِ الرئيس الحالي قيس سعيد في 25 يوليو/تموز 2021، مخاوف إضافية؛ نظراً لسلوك الرئيس غير العقلاني والقيادة غير المستقرة، حسب وصف مقال نُشر بمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
ومع ذلك، تمتلك تونس أدوات أخرى تحت تصرفها لتجنب الانهيار التام لاقتصادها، واقتراض المزيد من الأموال من صندوق النقد الدولي لن يبشر بالخير بالنسبة لمستقبل البلاد، وفقاً للتقرير الذي كتبته أليسا بافيا، المديرة المشاركة لبرنامج شمال إفريقيا في مركز رفيق الحريري وبرامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي.
سعيد رفض قرض صندوق النقد لتونس لأنه يرى أنه يزيد البلاد فقراً
واتفقت السلطات التونسية وقادة صندوق النقد الدولي على قرض إنقاذ في أكتوبر/تشرين الأول 2022، لكن سعيد، الذي يحكم بمرسوم منذ يوليو/تموز 2021، رفض التوقيع على الصفقة، قائلاً إن "الإملاءات الأجنبية" ستؤدي إلى مزيد من الفقر.
وأدى رفضه إلى نوبة جنون في الدول الغربية، لا سيما تلك التي تحد البحر الأبيض المتوسط، مثل إيطاليا، التي تخشى أن يصل التدفق الهائل للمهاجرين إلى شواطئها ويدفع الاتحاد الأوروبي في حالة من الفوضى.
كما أثار رفضه قلق الدائنين الدوليين الذين توقعوا أن تتخلف البلاد عن السداد بحلول أغسطس/آب 2023.
إليك أسباب الأزمة
منذ عام 2011 وانتقال تونس إلى الديمقراطية بعد الربيع العربي، واجه اقتصاد البلاد تحديات كبيرة أثرت بشكل أساسي على الشرائح الأفقر في المجتمع التونسي. بعد فترة وجيزة من الثورة، قفز معدل البطالة إلى 18.33%، وارتفع التضخم 1.4 نقطة مئوية، وانخفض الميزان التجاري للبلاد إلى أدنى مستوى له على الإطلاق في عام 2014 واستمر في الانخفاض، حيث وصل إلى أدنى مستوى له على الإطلاق في عام 2018.
في عامي 2013 و2016، أصدر صندوق النقد الدولي قرضين منفصلين لتونس؛ الأول بقيمة 1.74 مليار دولار والثاني بقيمة 2.9 مليار دولار. لم يكن لأي من القرضين آثار ملحوظة على الاقتصاد. ظل النمو الاقتصادي بطيئاً، إن لم يكن معدوماً، في حين ظل معدل البطالة والتضخم مرتفعاً. اليوم، بعد جائحة كوفيد واندلاع الحرب في أوكرانيا، تواجه تونس نقصاً كبيراً في الغذاء والوقود، مما يترك السكان المحليين متوترين بسبب طوابير طويلة في محطات الوقود وأرفف فارغة في المتاجر.
مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية في تونس بشكل كبير يوماً بعد يوم، يعتقد الكثيرون أن قرض صندوق النقد الدولي هو السبيل الوحيد لإنقاذ البلاد من الانهيار التام. قد يؤدي التخلف عن السداد إلى عواقب وخيمة، مثل عدم القدرة على دفع أجور القطاع العام، وإبقاء المدارس مفتوحة، وضمان استمرار المستشفيات في العمل.
وهذا ما فعلته القروض السابقة باقتصاد البلاد
ومع ذلك، هناك أسباب جدية للشك في السبب الذي يجعل قرضاً من المؤسسة المالية العالمية يساعد التونسيين على المدى الطويل.
يأتي قرض صندوق النقد الدولي لتونس مقروناً بشروط مهمة. من بين الإجراءات الأخرى، يطالب صندوق النقد الدولي الحكومة التونسية بإلغاء الدعم عن السلع الاستهلاكية -الوقود والغذاء- الذي ظل قائماً منذ عدة عقود لتزويد السكان المحليين بإمكانية الحصول إلى السلع الأساسية بأسعار معقولة. وبحسب صندوق النقد الدولي، فإن إلغاء هذا الدعم سيحسن الاقتصاد العام لتونس على الفور من خلال زيادة نموه وتعزيز المزيد من العدالة.
ومع ذلك، أدت المحاولات السابقة التي قامت بها الحكومة التونسية لإلغاء الدعم إلى زيادة التوترات داخل البلاد، مما أدى إلى احتجاجات واسعة النطاق على الارتفاع المفاجئ في أسعار السلع الأساسية. في عام 1978 ومرة أخرى في عام 1983، عقب توصيات البنك الدولي أولاً والمطالب القاسية التي قدمها صندوق النقد الدولي لاحقاً، خفضت الحكومة التونسية أو ألغت الدعم على السلع الأساسية. وأدى ارتفاع أسعار سلع مثل الخبز والسميد بنسبة 100% ودعوات الاتحاد العام التونسي للشغل للإضراب إلى احتجاج الآلاف.
في كلتا الحالتين، أرسلت الحكومة الجيش لقمع المتظاهرين السلميين للحد من الاضطرابات، مما أسفر عن مقتل المئات وإصابة الكثيرين غيرهم. كانت النتائج التي خلفتها الاحتجاجات على الاقتصاد التونسي كارثية، إذ أعلن زعيم البلاد، الحبيب بورقيبة، حالة الطوارئ، وظلت المتاجر والمقاهي مغلقة لأشهر بينما تأثرت خدمات النقل العام في البلاد بالتأخيرات الكبيرة.
شروط الصندوق ستزيد أزمة الفقراء والمناطق المهمشة
ستؤدي إزالة الدعم عن السلع الأساسية أيضاً إلى زيادة التفاوتات وتوسيع الفجوة بين المناطق الساحلية والداخلية في تونس، مما يضر بدوره بالنمو الاقتصادي للبلاد.
تخضع هذه المناطق لتفاوتات اقتصادية حادة، حيث تتمتع المناطق الساحلية التونسية بنمو اقتصادي أفضل وفرص عمل؛ نظراً لارتفاع حجم الصناعات والأعمال الموجودة هناك.
تمتلك تونس وصفاقس وسوسة، المدن الثلاث الأكثر اكتظاظاً بالسكان في البلاد، قدراً غير متناسب من ثروتها، حيث يتركز 85% من النشاط الاقتصادي في البلاد على الساحل.
في حين يرى صندوق النقد الدولي أن خفض دعم المواد الغذائية سيحقق فوائد طويلة الأجل لاقتصاد البلاد من خلال إعادة التوازن في الميزانية وبالتالي تحفيز النشاط الاقتصادي، فإن الدراسات الحديثة، بما في ذلك تلك التي نظرت في التأثير السابق لسياسات صندوق النقد الدولي في تونس والأردن والمغرب، تشير إلى أن إلغاء الدعم سيؤدي إلى زيادة الفقر بين الأسر ذات الدخل المتوسط والمنخفض، وأن نظام الدعم التونسي تقدمي ومنصف. وبالتالي، في حالة تونس، سيؤدي إلغاء الدعم عن السلع الأساسية إلى انخفاض القوة الشرائية للفقراء والطبقة الوسطى.
البديل هو ضرائب تصاعدية
ويرى التقرير أن هناك طرقاً لا تعد ولا تحصى لتعزيز الاقتصاد التونسي دون اللجوء إلى تدابير التقشف. تتمثل إحدى التوصيات في أن تقوم الحكومة بتنفيذ ضريبة تصاعدية مع فئات إضافية ذات دخل أعلى، بحيث تُفرَض ضرائب على التونسيين الذين يكسبون أكثر بمعدلات أعلى.
تقترح المنظمة غير الحكومية التونسية المستقلة المؤيدة للديمقراطية، "البوصلة"، أن تعيد الحكومة ضريبة الدخل التصاعدية السابقة -وهي سياسة مالية جرى إصلاحها في عام 1986 لزيادة الإيرادات الحكومية- لإعادة توزيع الثروة من ذوي الدخل المرتفع إلى ذوي الدخل المنخفض.
وحالياً، تُحدَّد الضرائب على أصحاب الدخل المرتفع بنسبة 35% لأي شخص يكسب 50 ألف دينار أو أكثر (حوالي 16 ألف دولار). ستؤدي استعادة ضريبة الدخل الأكثر تصاعدية إلى تعبئة موارد ضريبية كبيرة والمساعدة في تحقيق التوازن في ميزانية تونس مع مكافحة عدم المساواة في الدخل أيضاً.
وتعزيز زراعة القمح محلياً
هناك حل آخر طويل المدى يتفق عليه الكثيرون وهو أن تصبح تونس أكثر اعتماداً على إنتاج القمح بحيث تكون البلاد أقل تأثراً بتقلب الأسعار في السوق العالمية عند حدوث أزمة، مثل الأزمة في أوكرانيا. تعتمد تونس بشكل كبير على واردات القمح من أوكرانيا. بعد بضعة أشهر فقط من بدء الحرب وارتفعت أسعار القمح إلى أعلى مستوياتها في التاريخ، رفضت أوكرانيا إرسال الطلبات إلى تونس دون دفع مسبق بنسبة 50% من البضائع.
إن إعادة هيكلة الإنتاج الزراعي في تونس مهمة شاقة يتفق معظم الناس على أنها ستستغرق أكثر من ستة أشهر. لكنها أيضاً ضرورية يمكن أن تعود بفوائد طويلة الأجل على البلاد، والتي يمكن للمنظمات الدولية مثل البنك الدولي مساعدتها.
إذا كانت تونس تبحث عن حلول طويلة الأجل ومستدامة من شأنها أن تساعد اقتصادها من خلال التخفيف من التفاوتات ومنعها من الوقوع في حلقة مفرغة من الديون والتقشف، فإن صندوق النقد الدولي ليس هو الحل. ربما الآن بعد أن تدهور الاقتصاد التونسي بشكل خاص، أصبح لدى البلاد فرصة للتراجع في النهاية وتنفيذ الحلول التي يمكن أن تساعد في التخفيف من مخاطر التخلف عن السداد في المستقبل.