انقسام حاد داخل الاتحاد الأوروبي إلى كتلتين يكاد يتحول لانقسام شبه رسمي، إحدى الكتل يمكن تسميتها "أوروبا القديمة" والأخرى "أوروبا الجديدة"، وذلك بسبب الخلاف حول التعامل مع أزمة أوكرانيا وطبيعة العلاقة مع أمريكا وروسيا.
ومع أن هذا الانقسام كان كامناً وجرى الحديث عنه أو تأجيجه، من قبل مسؤوليين أمريكيين منذ سنوات طويلة، ولكن الأزمة الأوكرانية جعلته أمراً ظاهراً للعيان، بما يمثل مشكلة ليست لسياسات الاتحاد الأوروبي في التعامل مع أمريكا وروسيا بل أيضاً مع الصين، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
وزير دفاع أمريكي أول من تحدث عن أوروبا القديمة وأوروبا الجديدة
قبل عقدين من الزمن، كانت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش تتعجل إشعال الحرب في العراق، وأطلق وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد حينها تصريحاً تحول بعد ذلك إلى صورة مجازية معبرة عن عالم ما بعد الحرب الباردة. فقد سأله مراسل هولندي عن رأيه في المعارضة الأوروبية للغزو الذي وصفته الولايات المتحدة بـ"الوقائي"، فأجاب رامسفيلد: "إنك تظن أن أوروبا إنما هي ألمانيا وفرنسا"، "أما أنا فلست كذلك، فأنا أرى أن هذه (أوروبا القديمة)"، وأنك "إن نظرت إلى أوروبا المنضمة إلى حلف الناتو في مجملها، فسترى أن مركز الثقل ينزاح إلى الشرق، فنحن لدينا كثير من الأعضاء الجدد" في الحلف.
كانت ألمانيا وفرنسا الدولتين اللتين تحتلان مكان الصدارة في المشروع الأوروبي، وقد توافق كذلك أنهما كانتا من بين أكثر الدول ارتياباً في خطط بوش لغزو العراق. وكانت بعض دول أوروبا الغربية تنتقد انتقاداً صريحاً الحجةَ التي قدمها بوش ورامسفيلد وزمرة الحكم في الولايات المتحدة للإطاحة بالديكتاتور العراقي صدام حسين، وحذرت تلك الدول من بدء العمل العسكري قبل أن يستكمل مفتشو الأسلحة التابعون للأمم المتحدة تحقيقاتهم فيما إذا كان النظام العراقي قد تخلص من مخزون أسلحة الدمار الشامل المحظورة التي يُفترض أنه يمتلكها، أو أنها كانت موجودة أصلاً على نحو ما ذهبت إليه المزاعم الأمريكية.
وافتقرت الرؤية التي قدمها رامسفيلد إلى الإحكام، فبعض الحكومات المحسوبة على ما وصفه بأوروبا "القديمة"، مثل بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، كانت في ذلك الوقت تدعم بقدرٍ ما موقف الولايات المتحدة من صدام حسين؛ وفي الوقت نفسه، قالت عدة حكومات في شرق أوروبا ووسطها إنها ستدعم عملية أمريكية في العراق، بشرط أن تحصل العملية على تفويض من مجلس الأمن. لكن مهما كان الأمر، فإن ذلك لم يحدث، ولم تلبث الولايات المتحدة ومعها "التحالف المؤيد [لغزو العراق]" أن خاضوا غمار تلك الحرب التي صار كثيرون يصفونها بعد ذلك بأنها حرب غير شرعية زعزعت استقرار الشرق الأوسط سنوات طويلة.
تسببت الحرب في العراق في صراعات شتى خلَّفت مئات الآلاف من المدنيين القتلى، وتذهب كثير من السرديات الآن إلى أنها كانت مثالاً نموذجياً على الغطرسة الأمريكية، وما أفضت إليه من توسع استعماري، وخداع سياسي، لا سيما وقد صار "في حكم المعروف" أن مزاعم رامسفيلد بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل كانت كاذبة، والأدلة المزعومة كانت مزيفة.
يبدو أن الاتحاد الأوروبي قد انقسم بالفعل إلى كيانين إليك أعضاء كل واحد منهما
مع ذلك، فإن التقسيم الذي قدمه رامسفيلد عن "أوروبا قديمة" أو تقادم العهد بها و"أوروبا جديدة" أكثر حيوية -وأكثر قبولاً لتغيير تصوراتها، من وجهة نظر واشنطن- لا يزال قائماً اليوم بعد 20 عاماً من تقديمه.
وقد انبثَّت فيه الحياة على إثر الحرب المفتوحة التي اندلعت على الحدود الشرقية لأوروبا، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وبعثت هذه الحرب دوافع الانقسام داخل أوروبا بسبب المواقف الحادة ضد موسكو التي تتخذها مجموعة من دول أوروبا الشرقية التي كانت تدور من قبل في فلك الكرملين. ولا سيما الدول الأقرب لروسيا.
وهي أغلبها دول لم تخضع فقط للسيطرة السوفييتية غير الرسمية عبر حلف وارسو، بل السيطرة الروسية المباشرة سواء في العهد السوفييتي أو القيصري، وهي بالتحديد بولندا ودول البلطيق الثلاث.
وهكذا، كان قادة بولندا ودول البلطيق هم أثبت الزعماء في دعمهم لكييف، وأكثرهم ارتياباً في أي مبادرات دبلوماسية عُرضت على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
في زيارة لرئيس الوزراء البولندي ماتيوز موراويكي إلى واشنطن الأسبوع الماضي، استدعى موراويكي هذا الانقسام بين أوروبا قديمة وأوروبا جديدة، مستنداً إلى ما شهدته الأشهر الماضية من توترات وخلافات في الرأي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي استجلب كثيراً من الاستنكار الغربي بسبب محاولاته الفاشلة للتواصل مع بوتين قبل الغزو الروسي لأوكرانيا العام الماضي، ثم حملة التقرب من الصين التي شارك فيها خلال الأسابيع الماضية على رأس وفد يضم عشرات من كبار رجال الأعمال الفرنسيين.
أوروبا الجديدة الفقيرة تتولى الزمام
وقال موراويكي في مؤتمر صحفي مشترك مع نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس: "أوروبا القديمة آمنت بجدوى الاتفاق مع روسيا، وقد فشل رهان أوروبا القديمة"، لكن "هناك أوروبا جديدة: أوروبا تتذكر جيداً كيف كانت الشيوعية الروسية، وبولندا على رأس أوروبا الجديدة هذه".
تجدر الإشارة إلى أن دول أوروبا الشرقية التي تتكون منها ما يسمى "أوروبا الجديدة" هي أفقر وأقل في القوة العسكرية والتكنولوجية كثيراً من دول أوروبا الغربية أو القديمة.
وقد لاحظ آخرون هذه الظاهرة وناقشوها علناً منذ مدة، فقد قال المستشار الألماني أولاف شولتز في تصريحات له بالعاصمة التشيكية في أغسطس/آب، إن "وسط أوروبا ينزاح شرقاً"، أي أن دول وسط أوروبا أخذت تميل إلى تأييد دول أوروبا الشرقية في نظرتها للعلاقة مع روسيا.
فقد كانت الحرب في أوكرانيا صدمةً للقارة التي بدت راضية بما آلت إليه الأمور في العلاقة مع موسكو، ولكن الحرب الأوكرانية كانت هزةً لبنيةِ النظام القائم بأكمله، ويبدو أن البلدان الواقعة في محيط روسيا كانت أكثر استعداداً للرد على ما جسَّدته تلك الصدمة.
إليك دول أوروبا الغنية التي تسير وراء فكرة العداء للروس
وتبدو الدول الإسكندنافية وألمانيا وبصورة أقل هولندا والنمسا الأكثر تفهماً لوجهة نظر بولندا ودول البلطيق المتشددة تجاه الروس والمتحمسة في دعم أوكرانيا.
ولكن الأمر ليس كذلك مع فرنسا، وقد يكون الحماس للعداء مع روسيا أيضاً أقل حتى لو بشكل غير معلن، في دول جنوب أوروبا مثل إيطاليا وإسبانيا وبالأكثر اليونان صاحبة العلاقة الوثيقة تاريخياً مع موسكو (كل منهما دولة أرثوذكسية تشترك في العداء التاريخي مع العثمانيين).
وفي شرق أوروبا قد لا تكون بلغاريا ورومانيا أقل حماساً في العداء لموسكو من جيرانهما، لأن الدولتين أرثوذكسيتان مثل روسيا في جنوب أوروبا مثل إيطاليا وإسبانيا وبالأكثر اليونان صاحبة العلاقة الوثيقة تاريخياً مع موسكو (كلتاهما دولة أرثوذكسية تشترك في العداء التاريخي مع العثمانيين)، وإن كانت رومانيا أكثر قلقاً من موسكو؛ لأنها عانت من قضم الروس لأراضيها، بينما بلغاريا يجمعها مع موسكو العرقية السلافية، وهناك المجر الكاثوليكية التي لا يخفي زعيمها فيكتور أوربان إعجابه وصلابته ببوتين، خاصة أن مشكلاتها التاريخية كانت مع جيرانها الأقربين بما فيها أوكرانيا وليس موسكو (باستثناء الفترة الشيوعية).
في حديث لصحيفة The New York Times الأمريكية في وقت سابق من هذا العام، قال تيموثي جارتون آش، المؤرخ الأوروبي بجامعة أكسفورد البريطانية: "شولتز على حق"، "لقد تزايد الاستماع إلى الآراء القادمة من وسط أوروبا وشرقها، وتزايد الاعتداد بها في مجالس أوروبا، وهناك خطة كبيرة قيد النقاش لتوسيع دور أوروبا الشرقية".
ومع ذلك، لا يُعرف بعد تأثير هذا الانقسام المفترض في مسار الأعمال اليومية لنشاط الجغرافيا السياسية الأوروبية، فرئيس الوزراء البولندي، يرى أن دول وسط أوروبا وشرقها يمكن "أن تكون قوة محركة في المنافسة العالمية، وفي الدفاع عن الحرية"، ومن ثم يميل إلى تعزيز الدفاع الأوروبي بزيادةِ الإنفاق العسكري مع التخلي عن الاعتماد على واردات الطاقة الروسية.
في فعالية استضافها المجلس الأطلسي، قال موراويكي: "إن الغرب في مجمله يريد لأوكرانيا أن تنتصر، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن جميع دول الغرب تريد الأمر بالقدر نفسه"، ومضى يشكو تركيزَ دول أوروبا الغربية الزائد على مصالحها الاقتصادية، وما أدى إليه ذلك من نفوذ كبير للصين وروسيا على القارة الأوروبية المتعطشة للسلع الصينية ثم الوصول إلى أسواق الصين بعد ذلك، بما يعني تعزيز الطلب على الطاقة الروسية.
ومع ذلك، تناول محللون آخرون مكمن الخلاف القائم على نحو أوضح، إذ كتب جيريمي شابيرو وجانا بوجليرين، من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، في سياق الحديث عن الغاية السياسية لتحركات لماكرون خصوصاً: "على الرغم من الجهود التي يبذلها الاتحاد الأوروبي لبلوغ (الاستقلال الاستراتيجي)، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا كشف اعتماد الأوروبيين الشديد على الولايات المتحدة في الحفاظ على أمنهم".
بولندا تلطم ماكرون وتربط بين حرب أوكرانيا وأزمة تايوان كما تريد أمريكا
في ضربة قوية لماكرون، ربط موراويكي الحرب في أوكرانيا باحتمال الغزو الصيني لتايوان. وقد جاء ذلك بعدما أثار الرئيس الفرنسي الجدلَ هذا الشهر على إثر تصريحاته التي قال فيها إنه ليس من مصلحة أوروبا الانغماس في الصراع الدائر حول ديمقراطية الجزيرة بين "الدفع الأمريكي من جهة، ورد الفعل الصيني المبالغ فيه من الجهة الأخرى".
وقال موراويكي: "عليك أن تدعم أوكرانيا إذا أردت بقاء تايوان كما هي.. أما إذا احتُلت أوكرانيا، فإن الصين قد تهاجم تايوان في اليوم التالي".
أما جوزيب بوريل، كبير الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي، فقال في بيان يوم الجمعة 14 أبريل/نيسان، إنه يتعين على الصين استخدام نفوذها لإجبار روسيا على التخلي عن حربها الانتقامية في أوكرانيا.
و"سيصعب، إن لم يستحلْ، على الاتحاد الأوروبي أن يحافظ على ثقته بالصين، إذا لم تساهم في البحث عن حل سياسي قائم على انسحاب روسيا من أوكرانيا".
ومع ذلك، فإن بوريل ومعظم نظرائه في الاتحاد الأوروبي يشاركون ماكرون في الغالب تلك الرغبة بعدم ربط السياسة الخارجية الأوروبية بالكامل بسياسة الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، كتب شابيرو وبوليرين، من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، بلغة لطالما استخدمها ماكرون: "التبعية ليست بالسياسة الذكية الجديرة بالاتباع فيما سيشهده العصر القادم من منافسة جيوسياسية محتدمة، سواء للولايات المتحدة أم لأوروبا".
وأضاف الكاتبان: صحيح أن "التحالف مع الولايات المتحدة لا يزال شديد الأهمية للأمن الأوروبي، ولكن اعتماد أوروبا الكامل على أمريكا المشتتة، المنكفئة على شؤونها الداخلية، في الحفاظ على أهم أركان السيادة الأوروبية [الأمن] سيحكُم على أوروبا بأن تكون على قوة هامشية في الحسابات الجيوسياسية، أو ألعوبة بين القوى العظمى في أسوأ الأحوال".