تواجه مصر أزمة ثلاثية معقدة للغاية جراء القتال المستعر في السودان بين الجيش بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، فما التداعيات السياسية والاقتصادية والإنسانية التي تخشاها القاهرة؟
كان السودان قد شهد، منذ يوم 15 أبريل/نيسان، انفجاراً عنيفاً في الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد: الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، الذي يقود قوات الدعم السريع، حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
ومع استمرار القتال لليوم العاشر، وفشل الهدنة 3 مرات، وإجلاء الدول رعاياها، بات شبح تحول القتال إلى حرب أهلية، قد تمتد لأشهر وربما سنوات، على غرار ما حدث في اليمن، يثير تساؤلات متعددة حول التداعيات الكارثية داخل السودان وفي المنطقة، وبصفة خاصة في الجارة الشمالية مصر.
موقف معقد للغاية على المستوى السياسي
إذا بدأنا القصة من شقها السياسي، فسنجد أن الموقف المصري يميل إلى دعم معسكر الجيش السوداني بقيادة البرهان، ويرجع ذلك لأكثر من سبب، الأول يتعلق بقلق مصر من كون خسارة الجيش السوداني لمعركة الصراع على السلطة يعني أن زعيماً لميليشيات قد يصبح الحاكم الفعلي للجارة الجنوبية، وهو ما قد يعني عدم استقرار الأوضاع في السودان لفترات ممتدة.
وفي هذا السياق، ذكر تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية، أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد ألقى بثقله وراء الجنرال البرهان، الذي استولى، مثل الرئيس المصري، على السلطة من خلال انقلاب عسكري، وأرسل بالفعل مقاتلات وطيارين لدعم القوات الجوية السودانية، بهدف تعزيز سيطرة البرهان على سماء البلاد وقدرته على ضرب مواقع منافسيه من الجو.
وبطبيعة الحال، تلتزم القاهرة الصمت حيال تلك التقارير التي تتحدث عن دعم الجيش السوداني، لكن وجود قوات مصرية في السودان لم يعد سراً، بعد أن احتجزتهم قوات الدعم السريع في بداية اندلاع القتال، ونشرت مقطع فيديو لهم، قبل أن تنتهي الأزمة بتسليمهم إلى القاهرة.
وعلى الرغم من أن بيان الجيش المصري قد أكد أن قواته الموجودة في السودان كانت تقوم بمهام تدريبية مشتركة مع الجيش السوداني، فإن الأمر يؤكد، بصورة أو بأخرى، أن القاهرة تقف في صف أحد طرفي الصراع، وهو طرف الجيش.
لكن وقوف القاهرة في صف الجيش السوداني لا يرتبط فقط بكون استيلاء البرهان على السلطة جاء بطريقة مشابهة لما حدث في مصر، وإنما يتعلق الأمر بملفات أخرى تتسم بالخطورة، وهو ما يفسر الرغبة المصرية في وجود استقرار سياسي في السودان عبر سلطة قوية ومسيطرة.
فعدم استقرار السودان ستكون له تداعيات خطيرة للغاية على مصر بشكل مباشر، منها ما يتعلق بملف سد النهضة وخزان مياهه في أقصى الجنوب على النيل في إثيوبيا، حيث تخشى القاهرة من أن المشروع قد يخنق المياه العذبة لملايين المصريين ويعطل الزراعة، بل تعتبره القاهرة "تهديداً وجودياً" لها.
ومن هذه الملفات أيضاً النزوح المتوقع لملايين السودانيين الهاربين من الصراع، والذين قد تعتبر غالبيتهم مصر وجهتهم الأولى، مما سيضيف أعباء اقتصادية على مصر، والموقف الاقتصادي من الأساس يقف على حافة الانهيار.
موقف مصر إذاً واضح، حتى وإن كان غير معلن. لكن ما يزيد الطين بلة هو أن أحد أهم الداعمين لمصر اقتصادياً عبارة عن دولة تقف في صف المعسكر الآخر. والحديث هنا عن الإمارات التي تدعم زعيم قوات الدعم السريع، حميدتي، وتساعده بقوة كي يخرج منتصراً في نهاية المطاف. كما تشير التقارير إلى وقوف حليف آخر لمصر في صف حميدتي، والحديث هنا عن خليفة حفتر زعيم الحرب المسيطر في شرق ليبيا، والذي وقفت القاهرة في صفه ودعمته عندما انقلب على الحكومة الليبية المعترف بها دولياً، وحاول السيطرة على الجارة الغربية لمصر، لكنه فشل في نهاية المطاف. أما الحليف الثالث الذي يلقي بثقله خلف حميدتي فهو روسيا، التي تعتمد عليها مصر اقتصادياً بشكل كبير.
ويمثل هذا الموقف المتشابك والمعقد للغاية كابوساً لمصر بطبيعة الحال، وتسعى القاهرة جاهدة للتوسط لوقف إطلاق النار سريعاً قبل أن تنتهي تماماً أي فرصة للحل السياسي، ويتحول الصراع في السودان إلى حرب أهلية ممتدة، فهل تنجح؟
موقف مصر الاقتصادي لا يتحمّل نزوحاً سودانياً
أما الملف الاقتصادي فحدّث ولا حرج، إذ تستضيف مصر حالياً نحو 5 ملايين سوداني فروا من ويلات الفقر والقتال، وهناك اتفاقية لحرية الحركة بين البلدين، والتي تسمح للمواطنين من الجانبين بالتنقل بينهما في الاتجاهين للإقامة والعمل.
ومن الصعب ألا نلاحظ الزيادة الكبيرة في أعداد المهاجرين السودانيين في العاصمة المصرية القاهرة في السنوات القليلة الماضية، وأصبح الجميع يرى بوضوح تلك الزيادة في أعداد السودانيين في مصر لدرجة ظهور محطتين للحافلات في وسط القاهرة يطلق عليهما المصريون مازحين اسم "المطار السوداني"، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
وتبلغ الرحلة البرية بين العاصمة المصرية القاهرة والعاصمة السودانية الخرطوم نحو 3 أيام، وهناك حالياً نحو 25 حافلة تتحرك ذهاباً وإياباً بين العاصمتين يومياً، وهو ما يشير إلى أن هناك 37000 رحلة شهرياً في الاتجاهين. وسوف ترتفع هذه الأرقام بشدة بطبيعة في حال استمرار القتال في شوارع السودان بين طرفي الصراع على السلطة.
وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الخانقة التي يعاني منها المصريون هذه الأيام، من المؤكد أن استقبال مزيد من السودانيين سينعكس مباشرة على أسعار المواد الأساسية وإيجارات المنازل وغيرها من عناصر تكلفة المعيشة، المرتفعة بالفعل والآخذة في الارتفاع.
إذ فقد الجنيه المصري أكثر من 50% من قيمته مقابل الدولار الأمريكي خلال العام الأخير، ومن المتوقع أن يفقد المزيد في الأيام القليلة المقبلة، في ظل التكهنات بإقدام البنك المركزي المصري على "تعويم" جديد للعملة المحلية، أي تخفيض قيمتها أكثر مقابل الدولار، استجابة لشروط صندوق النقد الدولي والمانحين الرئيسيين للقاهرة. ويبلغ سعر الدولار حالياً نحو 31 جنيهاً مصرياً في البنوك، بينما يتم تداول العملة الأمريكية في السوق الموازي بأسعار تصل إلى 37 جنيهاً (الإثنين 24 أبريل/نيسان، علماً بأن البنوك في عطلة رسمية حتى الأحد 30 أبريل/نيسان).
وينعكس هذا الانخفاض في قيمة الجنيه مقابل الدولار على أسعار السلع وتكاليف المعيشة في مصر بصورة مباشرة، إذ كان التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية قد تسارع إلى أعلى مستوى في 5 سنوات عند 18.7%، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، من 16.2% في أكتوبر/تشرين الأول الذي يسبقه، كما تسارع التضخم الأساسي إلى 21.5% من 19% في أكتوبر/تشرين الأول.
وازدادت وطأة الأزمة الاقتصادية أكثر وأكثر منذ بداية العام الجاري، فسجل المعدل السنوي للتضخم العام 32.7% في مارس/آذار 2023، مقابل 31.9% في فبراير/شباط 2023، ومن المتوقع أن تتواصل الزيادة خلال أبريل/ نيسان. الصورة إذاً لا تحتاج لإيضاح أكثر، وبالتالي، فإن انعكاسات أي موجة نزوح جماعي من السودان إلى مصر ستضيف مزيداً من الأعباء.
استقرار السودان مسألة "حياة أو موت"
وكأن هذه الصورة القاتمة لا تكفي، حيث ينطبق القول إن المصائب لا تأتي فرادى، فكل ذلك لا يمثل السبب الوحيد الذي يجعل إرساء السلام والاستقرار في السودان قضية مهمة بالنسبة لمصر، حيث إن وجود نظام ضعيف في الخرطوم أو ظهور نظام سياسي بديل معادٍ للقاهرة قد تكون له تداعيات خطيرة على الجارة الشمالية.
إذ لطالما اعتبرت مصر السودان حليفاً لا يمكن الاستغناء عنه في نزاعها الطويل مع إثيوبيا حول سد النهضة المثير للجدل، والذي تصفه مصر بأنه تهديد وجودي، نظراً لما ينطوي عليه استكماله من احتمالات التحكم في تدفق مياه النيل إلى مصر، التي تُعد العامل الأكثر أهمية لحياة المصريين.
لكن على الرغم من الأهمية الاستراتيجية الكبيرة التي تتمتع بها السودان بالنسبة لمصالح مصر الاستراتيجية، يبدو أن حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي تواجه صعوبة بالغة في اتخاذ موقف محايد كي تكتسب المصداقية اللازمة للتوسط في الفوضى التي تعصف بالخرطوم وباقي مدن السودان.
وبالتالي، فإن الأسباب التي تجعل من الصعب على مصر إعلان دعمها لأحد طرفي الصراع ربما تكون مفهومة، وأبرزها التعقيد الشديد الذي ينطوي عليه المشهد السياسي في السودان، علاوة على التشابه الصارخ بين التطورات التي شهدها البلدان في الفترة الأخيرة.
فقد كان لكل دولة منهما الثورة الخاصة بها، وأسقطت الثورة المصرية حسني مبارك في 2011، بينما أسقطت الثورة السودانية عمر البشير في 2019، وكان للجيش دور حاسم في إسقاط الزعيمين. ثم أحبط الجيش في مصر الانتقال إلى الديمقراطية، وهو ما أثار مخاوف مبررة لدى النخبة السياسية في الخرطوم حيال أن يشجع الجيش المصري نظيره السوداني على أن يتبع النهج نفسه.
وبالتالي، فإن خيارات مصر تبدو محدودة على صعيد الموقف من الصراع في السودان، والسبب الرئيسي هو هو الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي تمر بها البلاد، وسط مخاوف حيال إمكانية أن تتعرض للتعثر في سداد الدين الخارجي الهائل في وقت لاحق من هذا العام.
وبما أن الإمارات، أحد أكبر الداعمين الماليين الرئيسيين للرئيس المصري في الخليج، تقف في صف قوات الدعم السريع في السودان، سيكون من الصعب أن يجاهر الرئيس السيسي بدعم الجانب المعاكس من الصراع.
والأسوأ هنا هو أن جميع المسارات المحتملة للصراع في السودان تُعد محفوفة بالمخاطر بالنسبة للجيش المصري، وقد يؤدي التدخل بقوة لصالح أي من طرفي الصراع إلى نتائج عكسية تؤثر على المصالح الوطنية المصرية. فبعد أن دعمت مصر أحد طرفي الصراع في ليبيا – الجنرال خليفة حفتر الذي فشل في الانتصار – لابد أن تكون القاهرة قد تعلمت جيدا من هذا الخطأ، بحسب تقرير بي بي سي.
وبينما تتوخى مصر الحيطة والحذر في رهاناتها على صعيد الصراع في السودان، قد لا ينجح أيضاً عدم اتخاذ إجراء حيال الموقف الحالي على المدى الطويل. وعلى الرغم من ذلك، قال وزير الخارجية المصري السابق، نبيل فهمي، لبي بي سي إن بلاده تريد أن يتحقق "الاستقرار والأمن والاستمرارية للسودانيين، وهي العوامل التي تخدم المصالح الوطنية المصرية".