بشكل مفاجئ ودون إعلان مسبق، نشر مجلس النواب في ليبيا قانون إنشاء محكمة دستورية في الجريدة الرسمية، رغم اتفاقه سابقاً مع المجلس الأعلى للدولة على تعليقه، ناهيك عن صدور حكم من المحكمة العليا بعدم دستوريته.
وصدر قانون المحكمة الدستورية العليا بالجريدة الرسمية في 29 مارس/آذار الماضي، دون أن ينتبه له كثيرون، بدليل أنه لم يحدث الكثير من اللغط إلا مؤخراً، رغم الضجة التي أحدثها عند تصديق مجلس النواب عليه في 6 ديسمبر/كانون الأول 2022.
وتعتبر المادة الأولى من أكثر المواد إثارة للجدل، لأنها تنص على أن يكون مقر المحكمة الدستورية مدينة بنغازي (شرق)، بدلاً من العاصمة طرابلس، ما يعني هيمنة المنطقة الشرقية على السلطة القضائية بعدما سيطرت على السلطة التشريعية، ولم يبق لها سوى السلطة التنفيذية لإحكام قبضتها على البلاد.
مجلس الدولة يعرقل إصدار القانون
وهذا الأمر دفع المجلس الأعلى للدولة في طرابلس (نيابي استشاري) لتعليق تواصله مع مجلس النواب "إلى حين إلغاء القانون"، بعد يوم فقط من تصديق برلمان طبرق على القانون.
وفي اليوم نفسه، راسل خالد المشري، رئيس مجلس الدولة، كلاً من رئيس المحكمة العليا ومستشاريها، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء وأعضائه، وأعضاء الهيئات القضائية، مشدداً على رفض المجلس الذي يرأسه "رفضاً قاطعاً لهذا القانون، ويؤكد على بطلانه، وهو والعدم سواء".
وتحت ضغط من مجلس الدولة وعدة أطراف في المنطقة الغربية بما فيها السلطة القضائية، اضطر رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، للتراجع، واتفق مع رئيس مجلس الدولة، في 23 من الشهر ذاته، على عدم إصدار "قانون المحكمة الدستورية العليا".
وبناءً عليه، استأنف مجلس الدولة تواصله مع مجلس النواب في 2 يناير/كانون الثاني الماضي، رغم تحذيرات عدة أطراف في المنطقة الغربية من أن تعليق إصدار قانون المحكمة الدستورية لا يعني إلغاءه، ويمكن لعقيلة صالح تفعيله.
وتزامن رفع تعليق مجلس الدولة تواصله مع مجلس النواب، مع إعلانه قرب التوصل إلى توافق بينهما بخصوص القاعدة الدستورية، التي ستجرى على أساسها الانتخابات.
وتبين فيما بعد أن التوافق بين المجلسين كان حول تعديل بعض مواد الإعلان الدستوري، والذي صدّق عليها مجلس النواب، بشكل مفاجئ في 10 فبراير/شباط، لكن أكثر من 50 عضواً في مجلس الدولة عارضوا التعديل وقاطعوا الجلسات، ما عطل انعقاد جلسة التصويت أكثر من مرة، فسارع مجلس النواب لنشر التعديل في الجريدة الرسمية، دون انتظار التصديق عليه من مجلس الدولة، كما ينص عليه الاتفاق السياسي.
وتحت تلويح المبعوث الأممي عبد الله باتيلي، بتشكيل لجنة تسييرية عليا، تكون بديلاً لمجلسي النواب والدولة، سارع مجلس الدولة بالتصديق على تعديل الإعلان الدستوري، حتى بعد نشره في الجريدة الرسمية، ما أثار مزيداً من الانقسام والجدل بين أعضائه.
المحكمة العليا تستبق الأحداث
وفي ظل هذه التجاذبات السياسية سارعت المحكمة العليا في 5 مارس/آذار الماضي، إلى إصدار حكم "بعدم دستورية" قانون إنشاء محكمة دستورية.
وبعد صدور هذا الحكم من أعلى هيئة قضائية، ظن الجميع أن ملف المحكمة الدستورية العليا في بنغازي "طوي وأصبح من الماضي"، لكن مجلس النواب ضرب مجدداً بحكم المحكمة العليا عرض الحائط، متجاهلاً اتفاقه مع مجلس النواب، وأصدر القانون في الجريدة الرسمية ما يعني دخوله حيز التنفيذ.
ووفق الجريدة الرسمية، فإن قانون إنشاء المحكمة العليا صدر في 29 مارس/آذار.
بينما يقول المحلل السياسي صلاح البكوش، إن مجلس النواب نشر القانون في الجريدة الرسمية في 6 أبريل/نيسان الجاري، "بعد يومين فقط من أول اجتماع للجنة المشتركة بين مجلسي النواب والدولة (6+6) لإعداد قوانين الانتخابات".
ما يرجح أنه تم التوقيع على القانون ونشره في الجريدة الرسمية قبل الإعلان عنه رسمياً، حتى لا يؤثر ذلك على اجتماع لجنة (6+6)، التي أوكلت لها مهمة خطيرة وحساسة تتمثل في الاتفاق وحسم مسألة ترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية، وعلى رأسهم خليفة حفتر، قائد قوات الشرق.
انقسام السلطة القضائية
إصرار مجلس النواب على تحدي سلطة المحكمة العليا، التي سبق أن أصدرت حكماً بعدم دستوريته في 2014، يهدد بتقسيم السلطة القضائية التي ظلت موحدة، طيلة السنوات التي انقسمت فيها مؤسسات البلاد التشريعية والتنفيذية والسيادية.
فتمسك كل طرف بموقفه سيؤدي إلى وجود مؤسستين قضائيتين بالمهام نفسها تقريباً: الدائرة الدستورية التابعة للمحكمة العليا في طرابلس، والمحكمة الدستورية العليا في بنغازي.
ومن شأن انقسام السلطة القضائية تعطيل إجراء الانتخابات، لأنه لن تكون جهة قضائية موحدة للفصل في القضايا المتعلقة بالانتخابات.
غير أن موقف مجلس النواب ضعيف، فمن الناحية القانونية المحكمة العليا لديها الحق في النظر في دستورية القوانين ونقضها، حتى ولو صدرت في الجريدة الرسمية.
كما أن المجلس الأعلى للدولة سبق أن رفض قانون إنشاء المحكمة الدستورية، ودعا السلطة القضائية إلى اعتباره كأنه لم يكن، خاصة أن الاتفاق السياسي يفرض على مجلس النواب التوافق معه بشأن إصدار القوانين، وهو ما لم يحدث.
وتعمد مجلس النواب إقصاء أي دور لمجلس الدولة في تشكيل المحكمة الدستورية، سيدفع الأخير للتشدد أكثر في رفض إنشاء المحكمة الدستورية، خاصة أنها ستضعف موقفه السياسي، كممثل ومدافع عن حقوق المنطقة الغربية.
والأمر الأكثر أهمية، أن تشكيلة المحكمة الدستورية، تضم 13 عضواً، 4 منهم من بين مستشاري محكمة النقض (المحكمة العليا) تختارهم الجمعية العمومية للمحكمة، و3 يختارهم المجلس الأعلى للقضاء، و3 تختارهم هيئة رئاسة مجلس النواب، و3 يختارهم رئيس الدولة.
وفي حال رفض القضاة، سواء في المحكمة العليا أم المجلس الأعلى للقضاء، انتخاب أو اختيار ممثليهم في المحكمة الدستورية، فلا يمكن تشكيل المحكمة أو انعقادها في غياب نصف أعضائها.
كما أن المجلس الرئاسي، الذي يعتبر حالياً بمثابة القائم بمهام رئيس الدولة، يمكن هو الآخر ألا يختار الأعضاء الثلاثة في المحكمة الدستورية، وبالتالي سيصب ذلك في مصلحة القضاة.
فمن الناحية العملية من الصعب على مجلس النواب تشكيل المحكمة الدستورية، لكن خطوة من هذا النوع يمكن استخدامها كورقة للمساومة.
كأن يتنازل مجلس النواب عن قانون إنشاء المحكمة الدستورية مقابل أن يتنازل ممثلو مجلس الدولة في لجنة (6+6) عن رفض ترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية.
لكن تمسك كل طرف بموقفه سيؤدي إلى انسداد سياسي، ما سيعجل تفعيل المبعوث الأممي لخياره البديل المتمثل في اللجنة التسييرية العليا، ما يعني إلغاء أي دور مباشر لمجلسي النواب والدولة في إعداد قوانين الانتخابات.