رغم أن الحروب الأهلية في السودان أمر شائع وسمة رئيسية لتاريخ البلاد الحديث، ولكن لأول مرة يشهد السودان حرباً أهلية في قلب عاصمته، الأمر الذي ينذر بأن البلاد وصلت إلى أزمة غير مسبوقة في تاريخها وأن النيران التي طالما اندلعت في الأطراف وصلت لقلب البلاد.
في هذا التقرير نرصد الحرب الأهلية في السودان، وتأثيراتها على اقتصاد البلاد، وتركيبتها السياسية، ومخاطر اندلاعها من جديد جراء الأزمة الحالية.
أسباب الحروب الأهلية في السودان
السودان دولة في شمال شرق إفريقيا، يحدها من الجنوب الغربي جمهورية إفريقيا الوسطى، وتشاد من الغرب، ومصر من الشمال، والبحر الأحمر من الشرق وإريتريا من الشمال الشرقي، وإثيوبيا من الجنوب الشرقي، وليبيا من الشمال الغربي، وجنوب السودان من الجنوب.
يبلغ عدد سكان السودان 45.7 مليون نسمة في عام 2022 ومساحته 1.886.068 كيلومتراً مربعاً، مما يجعلها ثالث أكبر دولة في إفريقيا من حيث المساحة، وثالث أكبر دولة من حيث المساحة في جامعة الدول العربية. كانت أكبر دولة من حيث المساحة في إفريقيا وجامعة الدول العربية حتى انفصال جنوب السودان في عام 2011.
رغم أن السودان دولة طاردة للاجئين، فإنها تستضيف أيضاً عدداً كبيراً من اللاجئين من دول أخرى، بلغ عددهم أكثر من 1.1 مليون لاجئ في عام 2019. غالبيتهم من جنوب السودان (858607 نسمات) وإريتريا (123.413)، إضافة إلى 1.864.195 نازحاً داخلياً، وفقاً لإحصائيات مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين.
ويمثل العرب حوالي 70% من سكان السودان وغالبية السكان الكاسحة من المسلمين، تشمل الأعراق الأخرى البجا والفور والنوبيين والأرمن والأقباط، وكثير منهم يتحدث اللغة العربية أيضاً كلغة تعامل يومي.
عكس معظم الدول العربية فإن مساحة السودان الكبيرة هذه ليست مجرد صحراء فارغة، بل نسبة كبيرة منها سافانا متنوعة الثراء ويعمل نسبة كبيرة من السكان في الرعي، إضافة للمزارعين؛ مما يخلق مشاكل بين الطرفين.
كما أن البلاد عانت دوماً من ضعف السلطة المركزية وتدهور شبكات النقل التي تقلل قدرة السلطة على السيطرة، والتقلب بين الحكم العسكري المستبد والديمقراطي الضعيف.
ومن أكبر المشكلات التي تواجهها البلاد الخلافات بين القبائل خاصة ذات الإثنيات المختلفة حول حقوق الملكية والرعي، في ظل زيادة عدد السكان والهجرات الداخلية والخارجية والتغيرات المناخية وانتشار السلاح، مما خلق نزاعاً على الموارد.
كل ذلك ساهم في تردي أوضاع البلاد ونشوب حروب أهلية متعددة.
وتميل الأدبيات الغربية واليسارية وكذلك التي يقدمها المتمردون في مناطق السودان إلى تركيز اللوم على السلطة المركزية لا سيما الجيش والإسلاميين، وكذلك نخب الوسط المنتمية للقبائل العربية، واتهامهم بتهميش الأطراف والأقليات، والعنصرية العربية أحياناً.
وقد يكون هذا صحيح جزئياً، ولكن تتجاهل هذه الأدبيات حقائق أكثر قوة، منها تبني متمردي ومثقفي وقادة الأطراف والأقليات لمقاربات عنصرية معادية للعروبة (وللإسلام في جنوب السودان)، وكذلك تبني الأطراف سلسلة من المزايدات التي لا تتوقف حول الحقوق والتهميش التي لا يمكن تلبيتها، حتى ولو كان بعضها صحيح.
كما أثبت قادة حركات التمرد المناطقية أنهم أمراء حرب أكثر منهم مناضلين، فكثير من متمردي دارفور تحالفوا مع عدوهم السابق قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي"، والجيش السوداني، ضد المعارضة المدنية السودانية، وساعدوا في إفساد وثيقة تسليم السلطة التي وقعت عام 2019، عبر الإصرار على توقيع اتفاق جوبا في أكتوبر/تشرين الأول 2020 الذي نص على دمج الحركات المسلحة في عملية تسليم السلطة، ولكنه أطاح بالموعد المحدد سابقاً لتسليم قائد الجيش السوداني رئاسة مجلس السيادة لمرشح مدني.
كما أن موقف كثير من الحركات المسلحة المتمردة كان أقرب لتأييد إطاحة الجيش بالحكومة الانتقالية بقيادة عبد الله حمدوك في أكتوبر/تشرين الأول 2021، وهو الانقلاب الذي أدى لتدهور أوضاع البلاد.
ويتم تجاهل تأثير التدخل الأجنبي في أزمات السودان لا سيما التدخل الغربي وكذلك دول مثل إريتريا وتشاد وأثيوبيا، وحتى مصر التي كانت دوماً مع وحدة السودان وضد انفصال الجنوب تعاونت مع الحركة الشعبية لتحرير السودان قائدة التمرد الجنوبي لفترة رداً على أنشطة حكم حزب الجبهة الإسلامية المعادية لها خاصة بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995.
وفي مواجهة صعوبة السيطرة على البلاد المترامية الأطراف، لجأت السلطة المركزية والجيش ليس فقط للعنف الباطش فقط، ولكن أحد التكتيكات الشائعة هو ضرب المكونات المناطقية ببعضها بعضاً، مثل اللجوء للقبائل العربية للتصدي للتمرد في الجنوب قبل الانفصال، وتكرر ذلك في دارفور، وهناك تقارير عن تجنيس النظام لقبائل إريترية مسلمة في الشرق لخلق قوى موالية له، الأمر الذي يخلق بدوره سلسلة من الأزمات الجديدة.
ويرى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى في كتابه "سنوات الجامعة العربية"، أن سياسة التهميش وقعت فيها الحكومات المركزية السودانية تجاه الأطراف كافة، وفشل هذه الحكومات المتعاقبة في تعزيز قيم المواطنة، التي تنصهر فيها النزاعات العرقية والدينية والقبلية.
أبرز الحروب الأهلية في السودان
الحرب الأهلية في جنوب السودان.. أطول حروب القارة التي تعود جذورها لسياسات بريطانيا
عملت بريطانيا خلال استعمارها للسودان على خلق فجوة بين الشمال العربي المسلم والجنوب ذي الأغلبية الوثنية والذي تقوده أقلية مسيحية، لدرجة أنه في عام 1922، صدر إعلان بريطاني بإغلاق مناطق جنوبية يقول "لا يجوز لأي شخص من غير أهالي السودان أن يدخلها ويبقى فيها إلا إذا كان حاملاً رخصة بذلك، ويجوز للسكرتير الإداري أو مدير المديرية منع أي شخص من أهالي السودان من دخول تلك الجهات أو البقاء فيها".
كما عززت السلطات الاستعمارية دور البعثات التبشيرية، وسياسة إضعاف الثقافة العربية، وإحلال الموظفين الجنوبيين محل الشماليين، ومنع التجار الشماليين من الوصول إلى الجنوب، حسبما يقول عمرو موسى في كتابه سنوات الجامعة العربية.
وبعد الاستقلال، اتهمت نخب الجنوب سكان الشمال السودان بالعنصرية ضدهم وركز مثقفو الجنوب على تاريخ الاسترقاق القديم لبعض الجنوبيين.
كما ناصبت النخب الجنوبية المسيحية المتأثرة بالغرب أي مظاهر لعروبة السودان العداء، واعترض الكثير منها على تطبيق الشريعة حتى في الشمال، كما تبنت بعض نخب الجنوب دعوات لوصف السكان العرب الشماليين بالغزاة.
وبعد فترة قليلة من الاستقلال، نشبت أطول الحروب الأهلية في السودان، إن لم يكن في التاريخ البشري الحديث، وهي الحرب في جنوب السودان والتي بدأت جولتها الأولى من عام إلى 1959 إلى 1972، ثم تجددت من عام 1983 إلى 2005، واعتبرت أطول حرب أهلية تشهدها القارة الإفريقية.
وركز خطاب الحركة الشعبية لتحرير السودان القائدة للتمرد الجنوبي والتي تتحكم بها نخب الجنوب المسيحية على التفريق بين العرب والأفارقة في السودان، بهدف جذب القبائل الإفريقية المسلمة في الشمال.
واستهلك الصراع المميت بين المقاتلين الانفصاليين في الجنوب والحكومة في الخرطوم في الشمال قدرات البلاد لعقود؛ مما أودى بحياة أكثر من مليوني شخص.
في 9 يناير/كانون الثاني 2005، تلبية لدعوة الحكومة الكينية، شارك العديد من القادة العرب والأفارقة في مراسم توقيع اتفاق السلام الشامل بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان بنيروبي.
جاء الاتفاق بعد إخفاق قوات الجيش السوداني في حسم الصراع وإحساس كثير من الإسلاميين السودانيين أن الجنوب يعرقل مشروعهم لترسيخ الهوية العربية والإسلامية للبلاد، إضافة لضغوط غربية ولا سيما أمريكية على الخرطوم بما فيها وعود برفع العقوبات عن السودان (لم تتحقق).
ونص الاتفاق الشامل على فترة انتقالية مدتها 6 أعوام يتعاون خلالها الشمال والجنوب في حكم البلاد، ويكلف جون جارنج قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان التي قادت التمرد بمسؤوليات النائب الأول للرئيس السوداني. كما نصت الاتفاقية على تقاسم عائدات النفط (النصف لحكومة الجنوب والنصف للحكومة المركزية)، وحق الحركة الشعبية وحلفائها الجنوبيين في تشكيل حكومة للجنوب لإدارة شؤونه.
تم إجراء استفتاء الانفصال في 9 يناير/كانون الأول 2011 وكانت نتيجته أن اختار 98.83% من سكان جنوب السودان الانفصال عن جمهورية السودان.
من الدول التي ساعدت الجنوب على الانفصال إسرائيل، كما دعمت العديد من الدول الإفريقية المجاورة للسودان مساعي انفصال الجنوب، إضافة للدعم الغربي.
أدى انفصال الجنوب لتضرر الاقتصاد السوداني بشدة لأن معظم النفط كان يتركز في المناطق الجنوبية.
بعد تشكل الدولة الجديدة سرعان ما تفجر صراع بين القبيلتين الرئيسيتين: "الدينكا" التي منها الرئيس سيلفاكير، و"النوير" التي منها نائبه رياك مشار.
انتهى الصراع رسمياً في عام 2018، ولكن أحدث دولة في إفريقيا لا تزال هشة، وتواجه أزمة إنسانية يعاني منها ملايين الأشخاص الذين يكافحون من أجل الغذاء.
وتقلبت العلاقات بين السودان وجنوب السودان بين التوتر والعلاقات الإيجابية، ولكنها بصفة عامة باتت تميل للإيجابية بعد عزل البشير، وتلعب جنوب السودان دوراً في بعض الوساطات بين الحركات المسلحة، والحكومة، ولكن يعتقد أنها تشجع وتمول الحركة الشعبية لتحرير السودان فصيل الشمال، والذي ما زال يتبنى نهجاً معادياً للعروبة والإسلام.
حرب دارفور
إقليم دارفور والغرب السوداني برمته يعاني من تهميش كبير، خاصة أنه إقليم شاسع المساحة بعيد عن العاصمة والبحر والنيل، يعاني من ضعف شديد في شبكة المواصلات وبيئة وعرة تجتمع فيها الصحاري القاحلة والسافانا الفقيرة مع الجبال الشاهقة.
وتمثل القبائل الإفريقية نحو 60% من سكان دارفور، ويعمل أغلبها بالزراعة، بينما تمثل القبائل العربية نحو 40% من السكان ويعمل أغلبها بالرعي، وقد تفاقمت الخلافات بين الفلاحين والرعاة مع زيادة السكان وأعداد حيوانات الرعي وانتشار السلاح والقلاقل من تشاد المجاورة، إضافة لتأثيرات التغيرات المناخية.
ما يسمى القبائل الإفريقية في دارفور، هي قبائل مسلمة تتبنى الثقافة العربية ولعبت دوراً كبيراً في ترسيخ هوية السودان الإسلامية العربية خاصة عبر سلطنة الفور.
التمرد بدأ بدعم من الحركة الشعبية والترابي
بدأ التمرد في دارفور بقيادة حركتين الأولى حركة تحرير السودان، والتي يعتقد أنها تحركت مدفوعة من الحركة الشعبية لتحرير السودان التي كانت تقود التمرد الجنوبي والتي كانت قد وقعت لتوها اتفاق سلام الجنوب مع الحكومة ولكنها أرادت إشغالها بحرب جديدة، كما أن الحركة تتبنى الخطاب القائم على الوقيعة بين العرب والأفارقة.
والحركة الثانية هي حركة العدل والمساواة والتي يعتقد أنها قد تم تأسيسها على يد تلاميذ زعيم الجبهة الإسلامية وشريك البشير السابق حسن الترابي، وذلك بعد الخلاف بين الرجلين، بل يعتقد أن الترابي بنفسه ساهم في الدفع لتأسيس الحركة نكاية في البشير.
في ظل خروج الجيش السوداني للتو من حرب الجنوب المرهقة، وفي ظل حقيقة أن جزءاً كبيراً من جنود الجيش السوداني من إقليم دارفور، لجأ العسكريون لحيلة قديمة.
ففي مواجهة المتمردين من القبائل الأفاريقية التي كانت بعض شكاواهم متصلة بالخلافات مع القبائل العربية الرعوية، حشدت حكومة البشير قوات من الرعاة العرب لمحاربة المتمردين الأفارقة في دارفور، وكانت نواة هذه القوات، التي عرفت لاحقاً باسم "الجنجويد" مؤلفة من رعاة إبل من عشيرتي المحاميد والماهرية، من قبائل الرزيقات في شمال دارفور والمناطق المتاخمة لها في تشاد، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
تفيد تقارير بأنه قتل جراء العنف بدوافع عرقية في دارفور ما يصل إلى 300 ألف شخص منذ عام 2003، وفقاً لما تنقله وسائل إعلام غربية عن تقديرات الأمم المتحدة، حيث قامت جماعات الميليشيات العربية بتدمير وترويع القرى التي تسكنها المجتمعات الإفريقية العرقية بشكل رئيسي.
بالطبع تميل وسائل الإعلام الغربية للتركيز على العنف من قبل الميليشيات العربية المعروفة باسم الجنجاويد، وتتجاهل جرائم حركات التمرد التي تنتمي للقبائل الإفريقية.
وطلبت المحكمة الجنائية الدولية عدداً من قادة التمرد في دارفور للمثول أمامها بسبب شكوك بارتكابهم جرائم حرب، وفي عام 2010، مثل اثنان منهم بارتكاب جرائم قتل وتوجيه هجمات عن عمد في عام 2007 مما أدى إلى مقتل 12 من قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي.
واتهم الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير من قبل المحكمة الجنائية الدولية بالإبادة الجماعية، وأطلقت في الإقليم عملية سلام مستمرة ولكن متقطعة ومتعثرة، ولكن الأمور هدأت بصفة عامة في الإقليم، بفضل الدور الذي لعبته قوات الدعم السريع في التصدي لقوات التمرد، والوساطات الدولية والعربية والإفريقية، فيما انضم بعض قادة التمرد للحكومة.
بعد الإطاحة بالبشير في انتفاضة شعبية عام 2019، تجدد العنف مرة أخرى في العام الماضي، ولكن بشكل محدود.
وأحد الشخصيات الرئيسية في الصراع الحالي في السودان، هو الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي" كان قائداً سابقاً لمجموعة ميليشيا الجنجويد المخيفة التي نفذت بعضاً من أسوأ الفظائع ضد المدنيين في دارفور، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
النزاع على الأراضي مع إثيوبيا
"الفشقة" أرض خصبة بين السودان وإثيوبيا، يشبّهها سكان المنطقة بـ"الجزيرة" لوجودها بين ثلاثة أنهر، وذلك جعلها في فترات الخريف تعاني من انقطاع عن بقية أجزاء السودان بسبب وعورة الطرق (فيها والمؤدية إليها) وعدم تعبيدها.
الفشقة جزء من السودان وفقاً لخط "قوين" الذي رسم ضمن اتفاقية أديس أبابا في عام 1902، العام ذاته، خلال فترة الحكم الثنائي (البريطاني-المصري) للسودان، وجرى الترسيم بواسطة الضابط البريطاني تشارلز قوين، فأصبح الخط يُعرف باسمه.
في 1972، وقّع السودان وإثيوبيا اتفاقاً بشأن القضايا الحدودية، وكانت الدول في منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي حالياً) صادقت عام 1963 على عدم تغيير الحدود المرسومة بواسطة الاستعمار، واعتمادها حدوداً فاصلة بين الدول المستقلة، وبالتالي أصبح خط "قوين" هو المعترف به دولياً بين السودان وإثيوبيا.
ولا يزال السودان وإثيوبيا يعترفان بكل من اتفاقية 1902 (هارنغتون-منيليك)، وبروتوكول الحدود لسنة 1903.
تاريخ النزاع حول "الفشقة" قديم، يعود إلى خمسينات القرن العشرين، لكنه ظل نزاعاً بين المزارعين السودانيين وجيرانهم الإثيوبيين. ويقدر حجم الأراضي الزراعية "المعتدى عليها" من جانب الإثيوبيين بنحو مليون فدان في أراضي "الفشقة"، بحسب السلطات السودانية.
وتُعَد ميليشيات "الشفتة" الإثيوبية أحد عوامل عدم الاستقرار على الشريط الحدودي، إذ ظهرت في خمسينات القرن الماضي كعصابات صغيرة بغرض النهب، وتحوّلت لاحقاً إلى ميليشيات كبيرة ومنظمة وامتلكت أسلحة ثقيلة.
وصارت تشن هجوماً على المزارعين السودانيين، ما أدى إلى إفراغ المنطقة، شرق نهر عطبرة، من السكان السودانيين، بحسب الخرطوم.
وتقول قومية "الأمهرا" في إثيوبيا إن تلك المنطقة هي أرض أجدادهم، وإنهم لن يتركوها. ومنذ نحو 70 سنة، كلما حل الخريف ينتشر المزارعون من "الأمهرا"، بدعم من "الشفتة" داخل الأراضي السودانية، ويزرعون فيها وتحدث احتكاكات ومناوشات.
وشهدت المنطقة حالات اختطاف مواطنين سودانيين مقابل فدية، ومقتل العشرات من عصابات "الشفتة".
واشتد النزاع في أواخر عام 2020 بعد أن دفع القتال في منطقة تيغراي في إثيوبيا الجنود الإثيوبيين في المنطقة إلى المغادرة. ثم انتقلت القوات السودانية إلى الاستيلاء على أجزاء من الأراضي المتنازع عليها، وطردت المزارعين الإثيوبيين في هذه العملية، وفقاً لجماعات الإغاثة. وكان هناك تبادل للقصف عبر المنطقة المتنازع عليها، مع بعض الوفيات. هدأ القتال منذ ذلك الحين، ولكن النزاع الأساسي لا يزال دون حل.
صراع جبال النوبة
ولاية كردفان جزء من شمال السودان، ولكن جبال النوبة في جنوب الولاية تضم سكاناً يعتبرون أنفسهم أقرب للجنوبيين.
وتمتد جبال النوبة على طول 90 كيلو متراً ويصل ارتفاعها إلى 1500 متر، وهي منطقة وعرة بالنسبة لحركة المركبات مساحتها حوالي 30 ألف ميل مربع، وظلت لعقود خارج قبضة السلطة المركزية.
والسكان يعتقد أنهم خليط من المسلمين والمسيحيين والوثنيين، مع تقديرات بأن المسلمين أغلبية، ولكن تزعم تقارير بأن مسلمي جبال النوبة متأثرون بعاداتهم الدينية القديمة.
وتنقسم الجبال بين القمم التي تقطنها قبائل النوبة ذات الجذور الإفريقية (السكان الأصليون في السودان)، والسفوح التي تعيش فيها القبائل الرعوية العربية، وبين الفريقين تتوزع قبائل وفدت من غرب إفريقيا.
ويشدد الباحث تاج السر فضل الله على أن سياسة "فرق تسد" التي اتبعها المستعمر الإنجليزي بضرب طوق من العزلة على سكان الجبال ضمن سياسة "المناطق المقفولة" ساهمت في القطيعة بين القبائل الإفريقية والعربية، ولاحقاً أسهمت السياسات الحكومية الخاطئة (التهميش، غياب المشاريع، التجاوزات الأمنية) في تنامي إحساس الغبن لدى النوبة.
وقال لموقع"رصيف 22" إن تسليح القبائل العربية إبان عهد الديمقراطية الثالثة (1986 – 1989) أدى إلى استقطاب حاد نتج عنه تسليح قبائل الجبال.
بدأ الصراع بين الرعاة والمزارعين، يقول البعض إن الحكومة كان لها دور في تأجيجه؛ لأنها ضيقت مساحة الرعي؛ مما اضطر الرعاة إلى التوسع في الأراضي الزراعية، وهذا لا يتماشى مع الطبيعة الزراعية فنشب الصراع، حسبما ورد في تقرير لموقع "إضاءات".
وتقع منطقة جبال النوبة، على الحدود مع دولة جنوب السودان التي نالت استقلالها نتيجة استفتاء شعبي عام 2011.
وكان "مجلس تحرير جبال النوبة" يتبع سياسياً وعسكرياً للحركة الشعبية – شمال. وخاض مقاتلو النوبة المعارك بجانب الحركة الشعبية في الجنوب قبل انفصاله، ويعتقد أنها تواصل دعم متمردي جبال النوبة.
وساهمت الطبيعة الجبلية للمنطقة في عزلة المنطقة ومنح مقاتلي النوبة ميزة قتالية استراتيجية، تتمثل في حرمان القوات الحكومية من سلاح الطيران، وفي صد الهجومات البرية المتكررة، حسبما ورد في تقرير لموقع "رصيف 22".
وفر العديد من المدنيين في النوبة من قراهم ولجأوا إلى الكهوف الجبلية، وأبلغت منظمات الإغاثة عن نقص الغذاء والوفيات المدنية الناجمة عن الغارات الجوية الحكومية وتشريد الآلاف من الناس.
تم الإعلان عن وقف إطلاق النار في عام 2016، ولكن هناك مزاعم عن استهداف شعب النوبة في المنطقة من قبل الجماعات شبه العسكرية الموالية للحكومة في الخرطوم، حسب ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
التوتر في الشرق
التوتر والصراعات في الشرق السوداني قد تبدو أقل حدة وعنفاً من باقي المناطق ولكنها لديها خطورة استثنائية نظراً لأهمية الإقليم الذي يوجد به موانئ السودان، ويلاصق إثيوبيا وإريتريا أكثر جيران السودان إثارة للمشكلات وتدخلاً في شؤونه الداخلية، إضافة إلى تعرض المنطقة لهجرة كبيرة من إريتريا.
ونتيجة للمظالم التاريخية التي تعرض لها الإقليم منذ فترة الاستعمار، تأسس مؤتمر "البجا" كتنظيم سياسي منذ عام 1950.
وبعد أن كان يطالب بتنمية الشرق بشكل سلمي، انتهج المؤتمر العمل المسلح عام 1994، وأسهم في تأسيس "التجمع الوطني الديمقراطي" مع بقية القوى السياسية المعارضة لنظام "الإنقاذ"، واتخذ من إريتريا مقراً له وقاعدة ينطلق منها عمله المسلح.
وخلال عهد "الإنقاذ"، ارتكبت عمليات قتل نفذها النظام السابق عام 2005، عرفت بـ"مجزرة بورتسودان"، وبعد اندماج مؤتمر "البجا" و"الأسود الحرة" داخل تنظيم "جبهة شرق السودان"، وقّع النظام السابق معها اتفاقية السلام في أسمرا عام 2006، حسبما ورد في تقرير لموقع "إندبندنت عربية".
تعقدت الأزمة باتخاذها أبعاداً إثنية، وذلك بسبب الصراع حول الحقوق التاريخية في الإدارة والموارد، ووصل الأمر إلى احتدام صراعات دامية طالبت فيها بعض المكونات برحيل إثنيات "النوبة" القادمة من جنوب كردفان، و"الهوسا" وبعض القبائل القادمة من غرب السودان من دارفور.
ونشأت مطالب أخرى هي تقرير المصير واعتماد لغة "البداويت" لغة رسمية للإقليم بدعوى أن اللغة العربية لغة الدولة الرسمية لم تستطع صون الهوية اللغوية للمكونات الإثنية بالمنطقة. ووصل الأمر إلى أن يتم التفريق بين مواطن من شرق السودان ولاجئ بالتمييز لغوياً.
وزاد من تأزيم الصراع هجرة قبائل مسلمة من إريتريا هرباً من نظام أسياس أفورقي إلى شرق السودان، ويقول منتقدون للنظام السابق إنه قد منحهم الجنسية وخاصة قبائل بني عامر، من أجل خلق كتلة سكانية موالية له في الشرق، الذي يدعم منافسيه من الاتحاديين (الحزب الاتحادي) وغيرهم، لكن جاءت هذه السياسات على حساب الاستقرار والسلم الاجتماعي في الشرق.
ومع أن الشرق ليس له دور في الأزمة الحالية، ولكن انشغال أكبر قوتين في السودان الجيش وقوات الدعم السريع، بالصراع بينهما قد يتيح للقوى الانفصالية في الشرق، الفرصة للعمل على الانفصال.