من الملاحظ للوهلة الأولى أن السودان يأتي على رأس الدول العربية والإفريقية في كثرة وقوع الانقلابات العسكرية الناجحة والفاشلة فيها، حتى إنه لا يمر عقد من الزمن منذ الاستقلال عن بريطانيا في عام 1956م وحتى يومنا هذا، إلا ونجد على الأقل محاولتين إلى أربع محاولات انقلابية لضباط من رتب متفاوتة أدناها رائد وأعلاها فريق ومشير، نجح منها طوال الستين عاماً الماضية 5 انقلابات عسكرية وفشلت أمامها العديد من المحاولات الأخرى.
تاريخ الانقلابات العسكرية في السودان
لقد تعرض السودان لأول انقلاب عسكري بعد عام واحد فقط على استقلاله عام 1957م على يد الضابط إسماعيل كبيدة وبعض ضباط وطلاب الكلية الحربية، ولكن رئيس الوزراء السوداني وقتها إسماعيل الأزهري تمكن من وأد هذه الحركة في مهدها.
بسبب الخلافات الشرسة بين الأحزاب السياسية مِن قبل الاستقلال عن بريطانيا وبعدها. هذه الخلافات التي قامت ولا تزال على صراع أيديولوجي شرس بين العلمانيين واليساريين من جهة والإسلاميين؛ إخواناً وحركات صوفية من جهة؛ فقد استغل قائد الجيش وقتذاك الفريق إبراهيم عبود ذلك الصراع واستولى على الحُكم في عام 1958م، وقيل إن رئيس الوزراء حينها إبراهيم خليل هو من تنازل عن السلطة طواعية له!.
طوال السنوات الست التالية هدأت الأوضاع الأمنية والسياسية في البلاد، ولكن على الدوام لم ينجح الجيش في تاريخ السودان وربما في معظم تجارب الانقلابات الأخرى في القارة الإفريقية والمنطقتين العربية والآسيوية في إدارة الملف الاقتصادي بصورة ناجحة، وقد فشل إبراهيم عبود في هذا الملف فشلاً ذريعاً، حتى سرت شائعات أن السودان على شفا انهيار اقتصادي وشيك بين عامة الناس، ولهذا السبب خرج الشعب ممتعضاً ومعارضاً، واضطر الفريق عبود إلى تسليم الحكم للأحزاب من جديد في عام 1964.
لكن من جديد تصارعت هذه الأحزاب السياسية طوال 5 سنوات على تشكيل الحكومات وكتابة دستور جديد وإدارة الملف الاقتصادي والسياسي، ثم تباين وجهات النظر الفكرية والأيديولوجية، وبسبب هذا الانسداد السياسي استغلت مجموعة داخل الجيش أطلقت على نفسها "الضباط الأحرار" كانوا ينتمون إلى الفكر الشيوعي والقومي بقيادة العميد جعفر النميري بانقلاب عسكري ناجح تسلموا بمقتضاه مقاليد الحكم في البلاد في عام 1969م.
جعفر النميري الذي قاد الانقلاب الثاني الناجح في تاريخ السودان تولى الحكم فترة استمرت 16 عاماً، نجح خلالها في سحق 4 انقلابات عسكرية قامت ضده في الأعوام 1971 بقيادة الضابط هاشم العطا ومجموعة من الضباط المحسوبين على الحزب الشيوعي وتمكن من القبض عليهم وإعدامهم.
كما حدث انقلاب فاشل عام 1973م استمر ثلاثة أيام لمجموعة وقفت ضد ما سمته تبعية النميري للقوى الغربية، وكان النميري قد بدأ في تولي وجهة الولايات المتحدة الأمريكية بالتوازن مع علاقته بالروس، ولكن في عام 1975م وقع انقلاب جديد بقيادة المقدم حسن حسين عثمان وكان محسوباً على الإسلاميين حاول هو ومجموعته التي وقفت ضد الأفكار الشيوعية للنميري وتبعيته للغرب أن يتخلص منه، ولكنه فشل وأُعدم ومعاونه بالرصاص.
الجيش السوداني بين النميري وعبد الرحمن سوار الذهب
لئن استطاع النميري النجاح في التخلص من المنقلبين العسكريين عليه في المحاولات الثلاث الماضية، فقد خرج عليه الشعب أثناء سفره للولايات المتحدة في أبريل/نيسان عام 1985م محاولاً الحصول على مساعدات اقتصادية وغذائية عاجلة بسبب تدهور الأحوال الاقتصادية في البلد.
لما رأى قائد الجيش المشير عبد الرحمن سوار الذهب هذه الحالة الهادرة من الوقوف في وجه النميري بين صفوف الشعب وأيضاً في القوات المسلحة أعلن عزله من منصبه، وإنشاء مجلس عسكري يدير شؤون البلاد لمدة عام واحد تتم في نهايته انتخابات وتُسلم السلطة لمن يختاره الشعب، ويُعتبر سوار الذهب العسكري السوداني الوحيد الذي لم يطمع في منصب، وأوفى بوعده وسلّم السلطة بالفعل لحزب الصادق المهدي الذي حصل على أصوات الأغلبية حينذاك.
السودان والجنرال عمر البشير
من جديد وبسبب الخلافات بين حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي، والجبهة الإسلامية الصاعدة بقيادة حسن الترابي، واتجاه المهدي إلى التحالف مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، ووقف إطلاق النار، وإلغاء قانون الشريعة، كان الترابي قد اتفق سراً مع الجنرال عمر البشير على الانقلاب على حكومة الصادق المهدي، وقد نجحا في ذلك.
بدأ حكم عمر البشير للسودان منذ 30 يونيو/حزيران 1989م، ويعتبر الرئيس عمر حسن البشير أطول الرؤساء والجنرالات العسكريين حكماً للسودان؛ إذ استمر 30 عاماً كاملة، واجه خلالها العديد من الانقلابات العسكرية الفاشلة، مثل حركة رمضان في عام 1990م بقيادة الفريق خالد نمر ومجموعته، حيث فشل انقلابهم وأُعدموا جميعهم.
كذلك محاولة انقلاب العميد أحمد خالد في عام 1992م، وقد فشلت وسُجن قادتها، ثم انقلابه على حسن الترابي منذ عام 1999م وقد ذكر البشير أن الإسلاميين حاولوا الانقلاب عليه في عام 2004 وقد أفشل انقلابهم.
الجيش السوداني وسقوط نظام البشير
طوال هذه السنوات المرة من تاريخ السودان شهدت البلاد تردياً على المستويات الاقتصادية والأمنية، تخللتها صراعات في مناطق الجنوب والغرب نتجت في نهاية الأمر بانفصال الجنوب في عام 2011م، وإنشاء قوات الدعم السريع المنبثقة عن قوات الجنجويد التي أصبحت جيشاً موازياً للجيش الرسمي في البلاد.
مع تردي الأوضاع الاقتصادية في السودان في أواخر عهد عمر البشير، وانهيار قيمة الجنيه السوداني، حتى خرج طلاب الجامعات والمدارس والنقابيون، وتزعموا هذه الانتفاضة في أبريل/نيسان 2019 م واتفق العسكريون وقوات الدعم السريع على الانقلاب على البشير وخلعه وسجنه.
منذ عام 2019م وحتى يومنا هذا جرت عدة محاولات انقلابية على الانقلاب، مثل محاولة يوليو/تموز 2021م التي قام بها رئيس أركان الجيش هاشم عبد المطلب ومجموعته، وبعد شهرين في سبتمبر/أيلول من نفس العام أحبط رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان محاولة انقلاب أخرى تزعمها اللواء الركن عبد الباقي الحسن عثمان ومجموعته، وقد تمكن البرهان نفسه من الانقلاب على حكومة عبد الله حمدوك المدعومة خارجياً ومن التيار الشيوعي والقومي في البلاد، بسبب عدائها الشديد للتيار الإسلامي، وتهديدها للأمن والسلم الداخلي.
الجيش السوداني والدعم السريع
نظراً لحالة الانسداد السياسي منذ عام 2019 وحتى الآن، وبسبب التدخلات الخارجية الواضحة، وجعل السودان ساحة للصراعات الدولية التي تقودها روسيا وقوات فاغنر والإمارات وأمريكا وفرنسا وبريطانيا وإثيوبيا وتشاد وقوات حفتر في ليبيا وغيرها، وكل طرف من هذه الأطراف يدعم طرفاً داخلياً لتأمين مصالحه الجيوسياسية في شرق ووسط إفريقيا، وبسبب المكانة الجغرافية شديدة الأهمية للسودان سواء في شرقه على البحر الأحمر أم في غربه في دارفور.
اشتعلت حرب المدن بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع في الأيام الماضية طمعاً في السُّلطة، وبحجة الحفاظ على مصالح الشعب والديمقراطية، كل طرف فيها يتهم الطرف الآخر بأنه كان السبب في الطلقة الأولى، وكل طرف فيها يتهم الآخر بالكذب والاستحواذ على السلطة والتبعية للخارج.
الذي يمكن أن نستشفه لمستقبل السودان يمكن معرفته من خلال التأمل في تاريخه، فالقوى الخارجية التي دعمت قوات جنوب السودان وغرب السودان ضد الجيش، ووقعت البلد في حروب دموية طوال عقود كلفتها انهياراً اقتصادياً وسياسياً، وانقلابات عسكرية، وأحزاباً متصارعة، هي ذاتها التي ستقوم بدعم الطرفين.
أطراف الصراع السياسي والعسكري في السودان اليوم كثر، ولكن الأشد قتامة إن لم يتمكن أي طرف منهما في حسم الصراع لصالحه في غضون الأيام القليلة القادمة، فسيدخل السودان في حالة من الفوضى والتفكك، وتردي الخدمات المعيشية والأمنية، وهذا ما لا نرجوه.
لماذا امتلأ تاريخ السودان بالانقلابات العسكرية؟
على أن الإجابة عن السؤال الأهم الذي صدّرنا به رأس هذه المقالة، هو لماذا امتلأ تاريخ السودان بالانقلابات العسكرية الناجحة والفاشلة على السواء، وترتبت على ذلك اضطرابات إقليمية وجهوية في الشرق والغرب على السواء؟
لذلك فإننا نرى أن السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى طبيعة الدولة السودانية نفسها منذ أقدم العصور؛ إذ لم تكن في أي لحظة من لحظاتها دولة مركزية موحّدة، سواء قبل دخول القوات المصرية في زمن محمد علي باشا لضم هذا البلد وتجنيد أبنائه لمصالح الباشا، حيث كانت ممالك وقبائل مختلفة غير موحّدة مثل النوبة والشايقية والقبائل العربية وسلطنات في الشرق والجنوب مثل سلطنة سنّار، وسلطنة دارفور في الغرب، وحركات صوفية سياسية مثل الحركة المهدية والتجانية، ولقد حكم السودان دول من الخارج مثل المماليك في الأجزاء الشمالية، والعثمانيين في المناطق الشمالية والشرقية على البحر الأحمر مثل سواكن وكسلا وغيرها.
الأمر الآخر الجغرافيا السودانية ذاتها تساعد على هذا الانقسام بين العرب والأفارقة، والإسلاميين واليساريين والعلمانيين، ولا نستبعد الأهواء العسكرية التي تجعل كل منقلب من هؤلاء الضباط الذين استعرضنا تاريخهم بإيجاز أن يسعى إلى بناء مجده الشخصي، وأيضاً الاجتماع السياسي للسودان والولاءات الشخصية المقدمة على الولاء للجيش أو الدولة.
كما يُلاحظ أيضاً هشاشة الأوضاع الاقتصادية والسياسية لدولة ما بعد الاستقلال في السودان، فتبعية السودان للمحتل البريطاني جعلته حتى يومنا هذا والأمريكي من خلفه يتدخلون لحياد هذا البلد أو إبقائه ضمن المصالح الجيوسياسية العالمية للغرب، على الرغم من تقارب السودان في معظم فترات تاريخه الحديث مع روسيا الشيوعية ثم روسيا بوتين، وهذا سبب آخر من أسباب احتدام الصراع في البلاد في السنوات العشر الأخيرة.
الروس الذين يعيدون إحياء مشروعهم السياسي والأيديولوجي العالمي على يد بوتين محاولاً بعث القطبية العالمية لأمجاد زمن الاتحاد السوفييتي من جديد يسعون أن يكون لهم موطئ قدم في السودان لنهب ثروات مناجم الذهب التي يستولي عليها قائد الدعم السريع، ومن خلال إنشاء قاعدة عسكرية بحرية على البحر الأحمر، والأمريكان والفرنسيون من خلفهم لا يرغبون في زيادة النفوذ الروسي في السودان إلى هذا الحد، كما توسع نفوذهم في وسط وغرب إفريقيا من قبل وإلا ستكون خسارتهم الإمبريالية كبيرة.
هذه الأسباب التاريخية والسياسية والتدخلات الغربية والأيديولوجيات المتفاوتة، كلها تشي بأن السودان قد يكون في طريقه إلى التفكك ما لم يحسم أي طرف من الطرفين المواجهة العسكرية الحاصلة اليوم بين الجيش وقوات الدعم السريع، وسيكون تفكك السودان مدعاة أكثر للتدخلات الخارجية في البلاد، وخضوعها للأقطاب والقوى الغربية والشرقية، ولن تكون هذه النهاية جيدة لمصر والسعودية التي تشبه نهايات سوريا واليمن وليبيا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.