تتعدد التقارير الدولية التي تصدر عن المؤسسات المالية أو الصحف العالمية، التي تتحدث عن وضع الاقتصاد المصري والضغوط التي يواجهها، وبعضها يقدم رؤية موضوعية عن طبيعة الأزمة الراهنة وأسبابها، ومن أهم التقارير التي تناولت الاقتصاد المصري مؤخراً، كان تقرير بنك "جولدمان ساكس" الأمريكي.
يُشير التقرير إلى ضرورة تبني مصر إجراءات في الأجل القريب للقضاء على التضخم وحل أزمة شُح العملة الأجنبية، في ظل اتساع الفارق بين سعر الصرف في السوقين الرسمية والموازية. بالإضافة إلى الأسرع في اتخاذ إجراءات شديدة الأهمية، يأتي على رأسها زيادة الصادرات وتحسين بيئة الاستثمار، من أجل تعزيز المصادر الدولارية لإصلاح الاقتصاد المصري.
ما يجعل التقرير مختلفاً ومميزاً كما أظن، أنه غير الإشارة على أسباب الأزمة الاقتصادية المعروفة والأخطاء التي أدت إلى ذلك، حاول تقديم بعض النُصح للحكومة المصرية للخروج من الوضع الراهن.
بالإضافة إلى اقتراح المزيد من الحلول التي قد تكون ذات فاعلية، ووضع سيناريوهين محتملين لمستقبل مصر الاقتصادي، والأهم وربما الأخطر أنه حظر من دخول مصر في "حلقة مفرغة". وفي هذه المقالة سنحاول تسليط الضوء على أهم النقاط التي تناولها التقرير، ومحاولة تفسيرها وتحليلها.
تخفيض الجنيه لم يكن كافياً لإصلاح الاقتصاد المصري
يرى بنك "جولدمان ساكس" أن خفض قيمة الجنيه ثلاث مرات خلال عام واحد، لم يكن كافياً لتصحيح مسار اقتصاد مصر، وجذب الاستثمارات الأجنبية التي خرجت مع بداية الأزمة.
إذ سبق وقامت مصر بتخفيض عملتها ثلاث مرات منذ مارس 2022 حتى يناير الماضي، ما دفع سعر الجنيه المصري للانخفاض مقابل الدولار بنحو 25% خلال الربع الأول من 2023، وبأكثر من 95% منذ مارس من العام الماضي.
مما لا شك فيه أن الحكومة المصرية اتبعت هذه السياسة بسبب مشروطية صندوق النقد الدولي، الذي يأمر بالتوقف عن ضخ الدولار لدعم العملة وتحريرها بالكامل، بهدف القضاء على سعر صرف العملة في السوق الموازي وتشجيع الاستثمار الأجنبي.
لكن لم يتحقق أي من ذلك كله، وما حدث هو سلسلة من التخفيضات في سعر العملة أثبتت أنها لم تكن مدروسة، وكل تخفيض كان يحفز المضاربات في السوق السوداء والعقود الآجلة، فيضطر البنك المركزي إلى الاستجابة لهم ويقوم بخفض جديد، حتى يقلص الفجوة بين السعر الرسمي والموازي، بالإضافة إلى السعر في العقود المستقبلية للشركات، فترتفع الأسعار من جديد نتيجة التخفيض الجديد، كما أن التوقعات المتشائمة لمستقبل الجنيه كانت وما زالت تُحفز المزيد من الخفض في قيمة العملة.
لم يجذب انخفاض الجنيه الاستثمار الأجنبي كما كانت الحكومة المصرية تريد، بل حدث العكس تماماً، خصوصاً مع تخوف المستثمرين من الأزمة الاقتصادية الحالية، بسبب ضعف الثقة في العملة المصرية وشُح الدولار.
ما ألقى بظلاله على الاقتصاد المصري، وعلى الصعوبات التي تواجه القطاع الخاص المحلي، من استمرار الانكماش في مستويات الإنتاج، مع التراجع بوتيرة حادة خلال العام المالي الجاري، إذ تعاني الأسواق من ضعف معدلات الطلب من قبل المستهلكين في ظل ارتفاع الأسعار.
ودفع خفض الجنيه المصري التضخم إلى الارتفاع إلى أعلى مستوى له منذ 5 سنوات و7 أشهر، بالتزامن مع الارتفاع المتواصل لكل اسعار السلع والخدمات، وبحسب بيان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الصادرة منذ أيام قليلة، فقد وصلت نسبة التضخم إلى 32.7% خلال مارس على أساس سنوي، مع العلم أن معدل التضخم يُستثني منه أسعار السلع الغذائية الأكثر تقلباً.
لماذا لم يكن خفض "الجنيه المصري" كافياً لارتفاع الصادرات؟
يرى "جولدمان ساكس" أن تخفيض مصر قيمة العملة لم يكن كافياً لزيادة الصادرات، في ظل اعتماد السلع المُصدّرة على مواد خام مستوردة، لذلك لم تستفد الصادرات بشكل كامل لنقص القدرة على الاستيراد.
عادة ما يُنظر إلى انخفاض قيمة الجنيه المصري على أنها قد تحقق فائدة وتزيد من التدفقات الأجنبية، لأن العملة المنخفضة تحسن من تنافسية أسعار الصادرات عندما يكون سعرها أرخص من غيرها في الأسواق الخارجية، كما أنها تساعد على خفض الواردات من خلال لجوء المستهلكين للمنتج المحلي مع ارتفاع أسعار المنتج من الواردات. ما يؤدي إلى ضبط العجز في الميزان التجاري وتحسين الاقتصاد المصري.
الميزان التجاري يعني ببساطة قيمة الصادرات مقابل الواردات، وحدوث عجز في الميزان التجاري يعني أن قيمة الواردات أكبر من الصادرات، وقد بلغ عجز الميزان التجاري 29 مليار دولار في عام 2020، و34 مليار دولار في عام 2021.
لذا يعود سبب عدم ارتفاع الصادرات على الرغم من انخفاض سعرها، إلى القيود التي يضعها البنك المركزي على الاستيراد، والتي تتسبب في تكدس البضائع في الموانئ، وبالتالي انخفاض حجم الأعمال نتيجة صعوبة الحصول على الواردات وأدوات الإنتاج. وذلك في ظل فشل سعي الحكومة المصرية لجذب تدفقات مالية من العملة الصعبة.
كما أن الخفض لم يكن كافياً للتخفيف من ضغوط ميزان المدفوعات على الاقتصاد. وبحسب جولدمان، استمر الطلب على العملات الأجنبية في الارتفاع، إذ لا يزال يفوق العرض.
زيادة الصادرات لم تعد رفاهية لمنع انهيار الاقتصاد المصري
يرى البنك الأمريكي أن الحكومة المصرية أمام خيار صارم عليها اختياره: إما تنفيذ إصلاحات اقتصادية تهدف إلى زيادة الصادرات، أو التحرك بشكل إجباري نحو تنفيذ مزيد من التعديلات المؤلمة.
تعاني الصادرات المصرية من ضيق القاعدة التصديرية، وتركزها على صادرات الغاز الطبيعي ومشتقات البترول، وهو ما لا يجعل بقية الصادرات السلعية تتمتع بالكثير من المرونة في مواجهة انخفاض سعر الصرف، وتتأثر الصادرات غير البترولية بانخفاض العملة لاعتمادها المفرط على مدخلات الإنتاج المستوردة، وخاصة السلع الوسيطة.
وهو ما يفسر لنا تراجع الصادرات على عكس المتوقع. إذ يكشف هيكل الصادرات السلعية المصرية في 2022 أن 53% من الصادرات، كانت إما صادرات متعلقة بالطاقة من بترول وغاز طبيعي ومشتقاتهما، أو منتجات كثيفة الاعتماد على الطاقة.
إذاً فإن معالجة اختلال الميزان التجاري، لا يعني إيقاف وتعطيل الواردات، لأن ذلك يتسبب في تعطيل القطاع الصناعي المعني بالتصدير، الذي يعتمد جزء كبير منه على المواد الخام والآلات وقطع الغيار المستوردة التي لا يتوفر لها بديل. والعمل على تنمية القطاع التصديري ودعمه لم يعد رفاهية بالنسبة للدولة، في ظل الأزمة الاقتصادية التي تُعانيها واحتياجها الشديد للنقد الأجنبي.
ضرورة البحث عن خيارات أخرى غير الصندوق والخليج
ينصح بنك "جولدمان ساكس" الحكومة المصرية بضرورة البحث عن خيارات بديلة للتمويل، والخروج من فلك الاعتماد على صندوق النقد الدولي ودول مجلس التعاون الخليجي، حتى لا تكون هي الخيارات المتاحة فقط أمام الحكومة للخروج من الأزمة الراهنة.
يلفت البنك الأمريكي إلى أن صندوق النقد الدولي ودول الخليج، وهم المقرضون والمانحون الذين كانوا يسارعون لمساعدة مصر في أوقات الأزمات، أصبحوا يركزون الآن بشكل أكبر على الحاجة إلى إصلاح الاقتصاد المصري، قبل منح أي تمويل للحكومة المصرية. وهو ما أنعكس على تعثر وبطء برنامج الخصخصة.
بعد توقيع مصر اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي في منتصف ديسمبر الماضي، الذي جاء بقيمة 3 مليارات دولار، وهي قيمة تمويل ضئيلة ولا تكفي الفجوة التمويلية المتبقية، كان على الحكومة المصرية اللجوء إلى الدول الخليجية لإتاحة تمويل إضافي بقيمة 14 مليار دولار، حتى تتمكن من توفير تمويلات دولارية من خلال برنامج بيع الأصول للدول الخليجية.
كما أعلنت الحكومة المصرية في فبراير من العام الحالي، عن خطتها لخصخصة حصص 32 شركة مملوكة للدولة ضمن برنامج الطروحات الحكومية المنتظرة، على أن تجري خصخصتها من أجل بيعها لمستثمر استراتيجي أو عبر الطرح بالبورصة.
من المتوقع أن تبيع ما تصل قيمته لملياريْ دولار من أصولها إلى دول مجلس التعاون الخليجي قبل نهاية العام المالي الحالي في يونيو، ولكن دول الخليج ترفض ضخ استثمارات قبل تنفيذ مشروطيتها. وتطالب بتنفيذ إصلاحات مُعلنة مقابل منح مصر تدفقات نقدية تساهم في سد احتياجاتها المُلحة.
وتشترط بشكل أساسي خفض قيمة العملة وتعيين مسؤولين جدد لإدارة الاقتصاد، والأسرع في تقليل دور الجيش في الاقتصاد. ولا تريد تقديم مساعدات يتم تبديدها بلا طائل وتكرار ما حدث في السابق، كما تتوقع تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية من خلال الاستحواذ على قطاعات حيوية واستراتيجية داخل الأسواق المصرية.
سيناريوهان لا ثالث لهما
يضع بنك "جولدمان ساكس" سيناريوهين محتملين لمستقبل الاقتصاد المصري، يرى أنه في كل الحالات، لن يحيد عنهما.
السيناريو المتفائل: أن تكثف الحكومة جهودها في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية، وهو ما سيساعد على تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وأن تعمل على تقليص عجز الحساب التجاري تدريجياً، من خلال دعم نمو الصادرات بشكل أكبر على المدى المتوسط.
يتوقع البنك الأمريكي "جولدمان ساكس" زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 14 مليار دولار سنوياً على مدى السنوات الثلاث المقبلة إذا التزمت مصر ببرنامج الطروحات وعملت على تقليص دورها في القطاع الخاص.
السيناريو المتشائم: في حال عدم الالتزام بالإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، يتوقع البنك ارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 9 مليارات دولار فقط على مدى السنوات الثلاث المقبلة، وهي نسبة غير كافية لتلبية احتياجات مصر من النقد الأجنبي، مع انخفاض الاحتياطي النقدي الأجنبي البالغ نحو 33 مليار دولار في الوقت الحالي، إلى أقل من 13 مليار دولار بحلول العام المالي 2026/2025.
خطر الدخول في حلقة مفرغة
يرى بنك "جولدمان ساكس" أن الخطر الرئيسي الذي يهدد الاقتصاد المصري، هو أن تدخل في "حلقة مفرغة" من انخفاض متواصل في سعر العملة وارتفاع مستمر في التضخم، ما يؤثر على قدرة الدولة على سداد خدمة الدين الخارجي، ويضر بثقة المستثمرين في الاقتصاد، في ظل تقلص خيارات الحصول على تمويل وارتفاع تكلفته.
في الوقت الذي تتسع فيه الفجوة بين السعر الرسمي والسعر في السوق الموازية، مع مراهنة الأسواق على انخفاض الجنيه، إذ واصل انخفاضه في سوق العقود الآجلة غير القابلة للتسليم لمدة 12 شهراً إلى 41.6 جنيه مقابل الدولار.
كل ذلك يزيد من الضغوطات التي يواجهها الاقتصاد بفعل نقص العملة الأجنبية، وإحجام أسواق الديون عن القدوم، وهو ما سبق أن حدث في مارس وأكتوبر من العام الماضي، ويناير من العام الجاري، واستدعى حينها تخفيضاً جديداً في قيمة الجنيه لتقليل تلك الفجوة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.