تواصل الصين تدريباتها العسكرية حول تايوان فيما يشبه الحصار التام للمرة الثانية خلال 8 أشهر، ما يثير تساؤلات بشأن ما إذا كانت بكين قد قررت تطبيق مبدأ الصين الواحدة بالقوة رداً على ما تراها استفزازات أمريكية؟
يأتي الحصار الصيني لتايوان هذه المرة رداً على اللقاء الذي جمع بين رئيسة تايوان تساي إينغ وين ورئيس مجلس النواب الأمريكي كيفين مكارثي في ولاية كاليفورنيا قبل أيام، وهو اللقاء الذي اعتبرته بكين "اعتداءً على سيادتها وتشجيعاً للانفصاليين في تايوان".
فالصين تعتبر تايوان جزءاً من أراضيها بموجب سياسة "الصين الواحدة"، وتقول بكين إن قضية تايوان هي الأمر الأكثر حساسية وأهمية في علاقاتها بالولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه تقوم سياسة الولايات المتحدة على الاعتراف بأن "الصين واحدة"، ولا تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع تايوان، إلا أن واشنطن ترسل إشارات متناقضة طوال الوقت.
الحصار الأول بسبب زيارة بيلوسي
عندما زارت رئيسة مجلس النواب السابقة، نانسي بيلوسي، تايوان، في أغسطس/آب 2022، يمكن القول إنها تسببت في تغيير الوضع الراهن في مضيق تايوان بشكل جذري، إذ جاء رد فعل الصين صارماً وحاسماً، ففرضت بكين حصاراً تاماً حول الجزيرة ذات الحكم الذاتي، وأجرت مناورات عسكرية بالذخيرة الحية شاركت فيها جميع أفرع القوات المسلحة الصينية.
كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولةً ذات سيادة، وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين تصرُّ على أنها ستستعيد الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر. ولا يعترف بتايوان سوى عدد قليل من الدول، منها باراغواي في أمريكا الجنوبية، وهايتي في آسيا، وإيسواتيني في إفريقيا، والباقي بضعة دول جزرية صغيرة.
وفي هذا السياق، تنظر الصين إلى النظام الديمقراطي ذاتي الحكم في تايوان على أنه محافظة صينية منفصلة، ولم تستبعد استخدام القوة لتحقيق الوحدة، ووصلت التوترات بين بكين وتايبيه إلى ذروتها مؤخراً، في ظل رئاسة تساي إينغ وين والحزب الديمقراطي التقدمي، الذي يريد الاستقلال وإقامة دولة ذات سيادة ومستقلة عن الصين.
وعلى الرغم من الاعتراف الأمريكي بمبدأ الصين الواحدة، والذي يعني بالضرورة أن تايوان جزء من الصين وأن مسألة عودتها لحظيرة البر الرئيسي كما حدث مع هونغ وكونغ وماكاو هي مسألة وقت فقط، إلا أن الرئيس الأمريكي جو بايدن قد صرح في أكثر من مناسبة بأن بلاده مستعدة للدفاع عن تايوان إذا حاولت الصين ضمها بالقوة.
وبالتالي عندما أعلنت بيلوسي أنها ستزور تايوان، اعتبرت الصين ذلك تحدياً لسيادتها واختراقاً لمبدأ الصين الواحدة، حيث كانت بيلوسي أول مسؤول أمريكي من هذا المستوى الرفيع للغاية يزور تايوان منذ زيارة نيوت غينغريتش، رئيس مجلس النواب الأسبق، قبل نحو ربع قرن.
وجهت الصين تهديدات مباشرة لأمريكا ولتايوان بأنها لن تسمح بأن تمر زيارة بيلوسي دون رد فعل لا يستبعد استخدام القوة، لكن بيلوسي أصرت على الزيارة وقالت إدارة بايدن إنها لا تملك منعها، لتتم الزيارة بالفعل يوم 2 أغسطس/آب 2022، وتنقلب الأمور في مضيق تايوان رأساً على عقب.
فقبل الزيارة كان لتايوان مياهها وأجواؤها الإقليمية، وكان دخول طائرات صينية إلى تلك الأجواء أو عبور سفن للمياه في مضيق تايوان بأقل من 12 ميلاً بحرياً من شواطئ تايوان يثير أزمة دبلوماسية كبيرة، وتجد بكين نفسها موضع اتهامات بأنها تسعى لتغيير الأمر الواقع بالقوة. وصحيح أن الصين كانت تفعل ذلك من وقت لآخر قبل الزيارة، لكن بأعداد محدودة من الطائرات وعلى فترات متباعدة، وكانت تتعرض لانتقادات شديدة.
أما بمجرد أن أقلعت طائرة بيلوسي من تايوان عائدة إلى الولايات المتحدة، اختلفت الأمور تماماً، فأعلنت الصين عن تدريبات عسكرية بالذخيرة الحية وعلى مستوى لم يحدث من قبل قط، وصفتها الأوساط العسكرية الغربية بأنها "تدريبات الصدمة والرعب".
ومن المستحيل أن تكون تلك التدريبات، بذلك الحجم والدقة، قد تم التخطيط لها قُبيل زيارة بيلوسي، بل الواضح أنها مُعدَّة منذ سنوات، فما الذي كانت تنتظره الصين كي تُجري تدريباً شاملاً على السيطرة على تايوان وتجاهل "مياهها وأجوائها" الإقليمية كما حدث؟ كانت الصين تنتظر "استفزازاً" يمثل غطاءً لتدريباتها تلك، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية، وجاءت زيارة بيلوسي لتقدم لها "ذلك الغطاء على طبق من ذهب".
ما تفاصيل الحصار الصيني لتايوان؟
التدريبات العسكرية غير المسبوقة التي نفّذها جيش التحرير الشعبي بأفرعه المختلفة وفرض من خلالها حصاراً كاملاً على تايوان جاء بمثابة مفاجأة كاملة للخبراء العسكريين في الولايات المتحدة والغرب عموماً.
إذ كان عام 1996 قد شهد أزمة صواريخ حادة بين الصين وتايوان، على غرار أزمة الصواريخ الكوبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في ستينيات القرن الماضي، وكانت استعدادات جيش التحرير الشعبي الصيني وقتها ضعيفة للغاية، ويمكن القول إن تايوان لقنت الصين درساً قاسياً وقتها.
لكن أداء الجيش الصيني في أغسطس/آب الماضي أذهل الأمريكيين أنفسهم، ووصفه خبراء عسكريون بأنه كان "نموذجياً"، فالتدريبات العسكرية تكونت من أربع مراحل، شهدت اختراقاً جوياً وبحرياً لتايوان دون أدنى مقاومة.
ففي البداية، حددت الصين بدقة ووضوح المناطق التي ستجري فيها تدريباتها بالذخيرة الحية، وبعدها تم إخطار الطائرات المدنية وسفن الشحن بتلك المناطق كي تخليها، ولم تكن هناك مساحة زمنية للاعتراض أو التردد. وفي المرحلة الثانية، وعلى موجات بأوقات محددة، أطلقت الصين 11 صاروخاً باليستياً من طراز دونغفينغ في المياه المحيطة بتايوان من الشمال والجنوب والشرق، بينما اخترقت 4 صواريخ أجواء العاصمة تايبيه، وكانت تلك هي المرة الأولى على الإطلاق بطبيعة الحال.
وعبَرت أكثر من 120 طائرة حربية الأجواء التايوانية فوق مضيق تايوان، متجاهلة ما تعتبره الجزيرة أجواءها الإقليمية، التي لا يمكن العبور منها إلا بتصريح مسبق. وفي المرحلة الثانية، مارست قوات مشتركة من الجيش الصيني عملياتها التدريبية لاختراق الدفاعات التايوانية من نقاط أرضية وبحرية وجوية داخل المياه والأجواء التايوانية بالفعل، وهذه أيضاً المرة الأولى على الإطلاق التي يحدث فيها ذلك.
أما المرحلة الأخيرة فقد شهدت تدريبات عسكرية صينية في البحر الأصفر شمال تايوان، أما الهدف من هذه الخطوة فهو إظهار قدرة الجيش الصيني على منع أي قوات أمريكية متمركزة في اليابان أو كوريا الجنوبية من الوصول إلى تايوان لتقديم الدعم وقت الأزمة.
ويمكن القول أيضاً إن هذه التطورات قد انعكست على المستوى السياسي داخل تايوان، فتعرض الحزب الحاكم لهزيمة غير متوقعة في الانتخابات البلدية أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2022، بعد أن فقد حزب تساي الحاكم منصب 13 رئيس بلدية ومقاطعة لصالح حزب كومينتانغ في أنحاء الجزيرة، بما في ذلك العاصمة تايبيه، ولم يحقق الفوز إلا في 5 بلديات ومقاطعات فقط.
وعلى الرغم من أنها انتخابات محلية يفترض أنها تتمحور بالأساس حول سياسات محلية بحتة ولا علاقة لها بالسياسة الخارجية للدولة، إلا أن تساي إينغ وين كانت قد وضعت استراتيجية للحزب الحاكم، تصور تلك الانتخابات على أنها فرصة لرفع راية التحدي الشعبي في وجه ما تصفه بالنوايا العدوانية من بكين تجاه تايبيه.
الحصار الثاني لتايوان.. هل اقتربت لحظة الحسم؟
لكن تساي، التي استقالت من رئاسة الحزب، تواصل خطواتها التي تعتبرها الصين "استفزازاً"، فقامت بزيارة إلى أمريكا اللاتينية وتوقفت لمدة أسبوع في الولايات المتحدة الأمريكية، لتعقد اجتماعات مع مسؤولين، كان أبرزهم كيفين مكارثي رئيس مجلس النواب.
التقى مكارثي بتساي إينغ وين في كاليفورنيا، يوم الأربعاء 5 أبريل/نيسان، ليصبح أكبر شخصية أمريكية تلتقي برئيس لتايوان على الأراضي الأمريكية منذ عام 1979، متجاهلاً غضب الصين كما فعلت بيلوسي من قبله.
فأعلنت قيادة جيش التحرير الشعبي وضع القوات في حالة تأهب قصوى، بينما بدأت السلطات البحرية في إقليم فوجيان الصيني دورية خاصة وعمليات تفتيش لمدة ثلاثة أيام في مضيق تايوان، تشمل تحركات على متن السفن، أو بمعنى أكثر دقة أعيد فرض نوع من الحصار البحري على الجزيرة.
وكما حدث بعد زيارة بيلوسي، أجرت القوات الصينية بأفرعها المختلفة تدريبات لمدة ثلاثة أيام، لكن المختلف هذه المرة هو أنه بعد انتهاء تلك التدريبات، لم تغادر جميع السفن مضيق تايوان كما لم تغادر جميع الطائرات أجواء الجزيرة.
بدأت الصين المناورات العسكرية يوم السبت 8 أبريل/ نيسان بعد عودة تساي إلى تايبيه عقب اجتماعها مع مكارثي. وأجرت الصين أثناء المناورات محاكاة لضربات دقيقة لتايوان وحصارها، وذلك بمشاركة العشرات من الطائرات المقاتلة والقاذفات. ولم تستبعد الصين أبداً إمكانية استخدام القوة لإخضاع الجزيرة ذات النظام الديمقراطي لسيطرة بكين.
لكن بعد انتهاء الأيام الثلاثة المفترضة لتلك المناورات العسكرية، قالت وزارة الدفاع في تايوان إنها رصدت 9 سفن حربية و26 طائرة صينية في محيط الجزيرة الثلاثاء 11 أبريل/نيسان، وأضافت الوزارة أن بكين قد حشدت "طائرات عسكرية صباح الثلاثاء وعبرت خط الوسط من الشمال والوسط والجنوب"، مشيرة إلى أن السفن رُصدت قرابة الساعة 11,00 بالتوقيت المحلي.
وخط المنتصف عبارة عن خط وهمي في مضيق تايوان يفترض أنه يحدد الأجواء والمياه الإقليمية لتايوان، لكن الصين لم تعد تعير ذلك الخط أي اهتمام منذ أغسطس/آب الماضي، فسفنها وطائراتها تعبره بشكل شبه يومي.
والأربعاء 12 أبريل/نيسان، قالت 4 مصادر لرويترز إن الصين تخطط لإغلاق المجال الجوي شمالي تايوان في الفترة من 16 إلى 18 أبريل/نيسان، في خطوة قد تعطل الرحلات الجوية في أنحاء المنطقة. وأكدت تايوان الأنباء نفسها، لكنها قالت إن الصين قررت التراجع عن الخطوة بعد أن قدمت تايوان احتجاجاً للخارجية الصينية.
وقالت وزارة النقل في تايوان إنه بعد احتجاجها، قلصت الصين القيود على الطيران شمالي تايوان، والتي كان من المقرر في البداية أن تستمر ثلاثة أيام، لتكون أقل من نصف ساعة صباح يوم الأحد.
الخلاصة هنا هي أنه على الأرجح بدأ صبر بكين ينفد تجاه ما تراه انتهاكاً أمريكياً لسيادتها فيما يتعلق بتايوان، وفي ظل إصرار رئيسة تايوان الحالية تساي إينغ وين على المضي قدماً في سياسة الانفصال والاستقلال، ربما تكون اللحظة التي تقرر فيها بكين إعادة توحيد الجزيرة بالقوة قد اقتربت فعلاً.