فتح مكة المكرمة ودخول الأمة الإسلامية إلى النظام العالمي لريادته في ظل الدعوة النبوية

تم النشر: 2023/04/11 الساعة 11:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/04/11 الساعة 11:22 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية/ الشبكات الاجتماعية

لا أتحدث عن تاريخ فتح مكة المكرمة في العام الثامن الهجري بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة "يثرب سابقاً" من الجوانب الدعوية والتاريخية والسيرة والعبر والدروس عن هذا الحدث التاريخي الهام، وانتشار الإسلام وإنما أتحدث عنه من الجهة الاستراتيجية في إحداث تحولات جيوسياسية في العالم تسيطر عليه قوتان حينها هما "الروم والفرس"، وتتجاذبان المصالح والنفوذ فيه في جبهة عربية مفككة ومنهارة لا أثر لها في الأحداث.

في تلك الفترة كان مركز العالم وأحداثه تعيش تدافعاً حاداً وخطيراً بين الإمبراطورية الفارسية الساسانية والإمبراطورية الرومانية، كما أن وحركية نفوذهما تتوسع وتمتد في الجغرافيا والمصالح ومدى الهيمنة على الأرض والثروات.

أهمية الجزيرة العربية قبل الإسلام وفتح مكة

شبه الجزيرة العربية من أكبر المناطق في العالم استهدافاً من الإمبراطوريتين الفارسية والرومية خاصة في عملية تأمين الطرق التجارية ومنها:

طريق البخور: حيث طريق البخور شبكة قديمة من طرق التجارة البرية والبحرية الرئيسية التي تربط بلدان منطقة البحر الأبيض المتوسط بالمناطق الشرقية والجنوبية المنتجة للبخور والتوابل وغيرها من السلع الفاخرة، يمتد الطريق من موانئ البحر الأبيض المتوسط عبر بلاد الشام ومصر وشمال شرق إفريقيا وجنوب الجزيرة العربية حتى الهند.

يبدأ من سواحل ظفار على بحر العرب إلى شمال البحر المتوسط، مروراً باليمن وجنوب الجزيرة العربية وينقسم إلى طريقين؛ أحدهما يتجه إلى نجد ثم العراق وفارس، والآخر يتجه إلى شمال الجزيرة العربية ثم مدينة البتراء في الأردن، ومن بعدها إلى فلسطين على البحر المتوسط. ويأتي إلى البتراء طريق آخر من سيناء في مصر ويلتقي مع الطريق القادم من شمال الجزيرة العربية. كانت القوافل العابرة عبر طريق البخور محملة بالبخور والتوابل ومنتجات الشرق إلى دول أوروبا

بالإضافة لطريق البخور المخارج البحرية والمضايق، حيث وقعت بين الفرس والروم العديد من المواجهات العسكرية والحروب في مواقع نفوذهما وكانت تداعيات تلك الحروب على مختلف الموالين لهما من العرب.

نفوذ الفرس والروم في الجزيرة العربية قبل الإسلام

مملكة الفرس سيطرت على شرق شبه الجزيرة العربية وامتد نفوذهم إلى اليمن والبحرين، والعلاقة بين الفرس وبعض القبائل من العرب اتخذت شكل التبعية السياسية ذات ولاء للإمبراطورية الفارسية ومن هذه القبائل "قبائل التنوخية من قدماء عرب اليمن وقبائل بني معد ونمارة والأزد وقضاعة والكهلان ولخم" واجتمعت القبائل التنوخية بعد هجرتها من الجنوب إلى الشمال واستقرت بالحيرة.

كذلك الوجود الروماني تأسس، وتعمق وتجذر في شبه الجزيرة العربية مع بداية حكم القيصر "أغسطس"، وشهد عهده حركة تجارية كبيرة تربط الهند بالجزيرة وروما مروراً بالحبشة والصومال ومصر، وكان تنافس مع الفرس في جنوب الجزيرة واليمن وشمال الجزيرة العربية من جهة تبوك إلى المدينة المنورة "يثرب" عن طريق بلاد الشام "سوريا والأردن وفلسطين". 

هذا سرد المختصر يظهر مدى خضوع العرب لمنطق التبعية السياسية والنفوذ من خلال مراكز القوى الخارجية؛ حيث شكلوا سوقاً ومعبراً تجارياً كبيراً، كما نضيف إلى كل ذلك أن العرب في الجزيرة في ذاك الوقت ليس لهم راية ولا دولة ولا يملكون عوامل الوحدة أو تشكيل كيان مستقل، ومتوازن لمواجهة التجاذبات الدولية في منطقتهم وهم يسودهم المنطق القبلي في أتعس صورته وشكله.

لكن مع مجيء رسالة الإسلام، خصوصاً مع تاريخ فتح مكة تغيرت مجرى الأحداث، وانطلق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوة العرب إلى الإسلام رغم اعتراض الكثير من قبائل العرب لدعوته ومحاربة قومه له من خلال زمرة من قيادات قبيلة قريش؛ حيث كان مركزهم بدار "الندوة".

كانت قبيلة قريش بمكة تشكل قوة روحية ورمزية عند العرب، فـ "مكة المكرمة" عبر التاريخ تمثل مركزاً روحياً ودينياً للكثير من العرب، لكن قريش لم تؤدّ دورها بمكانة الكعبة الشريفة في تجميع وتوحيد العرب، حيث سقطت قريش "أم القرى" في استثمار الموقع الروحي في الربح التجاري والأنانية القبلية، وانهارت قداسة الكعبة الشريفة وتلوثت بالوثنية وعبادة الأصنام وتفرق العرب في عبادة الأصنام والأوثان.

صورة للمسجد الحرام والكعبة المشرفة عام 1880،

تأسيس الدولة وصولاً لفتح مكة

أول ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته هو إعادة تأهيل رمزية الكعبة المشرفة في نفوس الناس، من خلال تطهير الكعبة واسترجاع قدسيتها وحرمتها وإبعادها عن الوثنية وإعادتها للتوحيد الخالص، حيث يمكن للعرب عندها أن يجتمعوا على عقيدة واحدة وموحدة وتوحيدية وفكرة ورسالة واضحة.

هذه القضية كانت في العرب محل اختلاف واعتراض وعداوة وأثارت فيهم مخاوف وشكوكاً؛ حيث كانوا يخافون من التجاذبات الدولية في المنطقة العربية وقهر الدول العظمى لهم في تلك الفترة، وحادثة هدم الكعبة المشرفة أيام أبرهة الحبشي ليست بعيدة عن ذاكرتهم ونفوسهم.

لكن إصرار النبي صلى الله عليه وسلم وعزيمته في توحيد العرب والإنسانية في ظل عقيدة التوحيد هو ما جعله يواجه كل التحديات والصعوبات والأخطار، وبعد الهجرة النبوية أنجز الرسول دولة الإسلام في المدينة وجمع المجتمع القبلي؛ حيث كان مشتتاً في سياق ونمط مدني وحضاري ومؤسسي.

فأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم مع نبوته رئيس دولة لها حيز جغرافي أقام فيه كياناً وأرسى القواعد التأسيسية للدولة، فأصبح لها منظومات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية وعلمية وتربوية، وإطار دستوري قانوني ينظم كل العلاقات فيها، حتى مع الأقليات الدينية ومنهم اليهود. 

أسس الرسول صلى الله عليه وسلم لدولته جيشاً يدافع به عن هذا الكيان ووحدته الترابية، وحدثت بين دولته وقبائل قريش من مكة مواجهات مسلحة حاسمة في المرحلة التأسيسية لدولته.

حيث هزم النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً في غزوة بدر الكبرى مع قلة إمكاناته العسكرية وعدته وعدد جيشه وكان نصراً عظيماً محورياً أبهر المراقبين، وأثار مخاوف وهواجس أصحاب النفوذ في المنطقة العربية من الفرس والروم، وصار محل متابعة ومراقبة وكذلك القبائل اليهودية، والمنافقين التيار المضاد لدولته وهم عملاؤهم في المنطقة، وضيق عليهم وانحصرت أدوارهم بالمدينة المنورة؛ حيث قيدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بمواثيق وعهود للعيش المشترك والولاء لدولة الرسول.

لقد تجلت مع غزوة بدر الكبرى أن قبائل العرب بالجزيرة اتجهت نحو الاهتمام والمتابعة والإعجاب بانجازات النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة كيان في ظل عقيدة توحيدية واحدة وفكرة ورؤية ومشروع وتحقق معها الاستقلالية في القرار والسيادة، وبدأت القبائل العربية تتأكد من إمكانية تحقيق وحدة العرب؛ حيث أصبح لهم طموح بأن يكون لهم موقع ودولة في ظل التجاذب الدولي، وهيمنة الدول العظمى من الفرس والروم عليهم.

بدأت تتشكل في هذا السياق تحالفات وأحلاف والتحقت بعض قبائل العرب ودخلت الإسلام وتوسعت أرضية الأمة الإسلامية واتسعت الرقعة الجغرافية للأمة الإسلامية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.

نصرة الرسول لقبيلة خزاعة والتمهيد لفتح مكة

لما انتهكت قبيلة بكر بنود صلح الحديبية واعتدت على قبيلة خزاعة وهي في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم فاستنصرت بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بحكم تحالفها معه انتصر لها وجهز جيشاً تعداده 10000 من المقاتلين وبعضهم من القبائل التي انضمت إليه، وهو في طريقه لمكة وكانت تحت رايته لفتح "مكة"، ولم تعلم العرب وقريش حينها بخروجه لهم؛ حيث تم تأمين فتح مكة وخروج الجيش في سرية.

السرية في تجهيز جيش الفتح يدل على مدى تطور جيش النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الجانب الاستخباراتي، ومع الفتح كانت بداية نهاية معسكر الشرك والوثنية، ولما دخل الجيش وفتح مكة وطهرها من الأصنام فلم تجد من يدافع عنها، وضم مكة المكرمة إلى مركز الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة.

قد أنجز النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوعد وفتح مكة، ودخل أغلب سادة قريش وكبار القوم الإسلام، فانضم إلى الإسلام سيد قريش، وكبيرها أبو سفيان، وبعدها أنهى تواجد الوثنية بعد انتصاره في غزوة حنين وتبوك في الجهة الشمالية، حيث كانت معارك حاسمة في إرساء قواعد الدولة الإسلامية.

فتح مكة عام الوفود

في العام التاسع الهجري بعد عام من فتح مكة أقبل على النبي وفوداً عربية من كل القبائل ووصل عددها إلى حدود سبعين وفداً، وسمي هذا العام "عام الوفود"، وظهرت قوة الدولة وصارت مركز توحيد للعرب. 

كانت بعض القبائل مهمة وذات نفوذ وإعداد كبيرة من أفرادها، وبعضها متاخم للدولة الفارسية والرومية منها وفد "بني ثقيف وبني تميم ووفد بني أسد واليمامة وبني سعد ووفد نجران ووفد عبد القيس ووفد هوازن وفزارة ووفود اليمن وماعن وفد بني حنيفة ووفد بني عامر.

كل هذه الوفود جاءت تعلن إسلامها، وبيعتها للنبي محمد صلى الله عليه وسلم فكان ارتباطها بالدولة الإسلامية الناشئة، وولاؤها لها وبهذه الاتساع والانتشار صارت الدولة الإسلامية قوة صاعدة ونامية في النظام العالمي، واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يشكل توازناً في العلاقات الجيوسياسية داخل النظام العالمي.

في جهة المقابلة بدأت ملامح انهيار الإمبراطورية الفارسية ودخلت مرحلة الانشقاقات والانقسامات والصراعات الداخلية خاصة بعد انتصار الروم عليها، ومع فتح مكة المكرمة تحقق إنهاء الوثنية في الجزيرة العربية، خاصة بعد آخر مواجهة في غزوة حنين وهزيمة المشركين، وعودته منها منتصراً نصراً قوياً ومهيباً وفاعلاً في العلاقات الدولية.

أقامت العدل والحرية ونبذ الانتقام لما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة وأمسك بأهلها فقال لهم: "اذهبوا أنتم الطلقاء"، ولم ينتقم منهم وجمع العرب تحت راية واحدة، ورجعت الأطراف العربية المنتشرة في ربوع الجزيرة إلى مركزية الدولة والرمزية الدينية في مكة والمدينة.

بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم انطلقت الفتوحات في تغيير النظام العالمي وتقويض القوى المهيمنة عليه، وحماية الدين والدولة من الحرب المضادة ما يعرف بمواجهة حركة الردة وإخمادها، وهي حرب من داخل الدولة فحسمها الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه. 

فكانت مرحلة حاسمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث شكلت تهديداً مباشراً للدولة والتحدي الأول لها، وانطلقت في السنة الأولى والثانية من بعد وفاة الرسول في خلافة أبي بكر وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. 

سنة ١٤ هجرية كانت الموجة الثانية من الفتوحات الإسلامية، فكانت الوجهة نحو فارس، وفي الوقت نفسه نحو الإمبراطورية الرومانية، وقد تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: "تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله" رواه مسلم.

فدخلت الدولة الإسلامية إلى النظام العالمي لريادته وإدارته، وتغيرت الخريطة العالمية بعد انهيار فارس وفتحها، وإسلام أهلها، وكذلك الروم والفرس.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سعيدي عبدالرحمن
كاتب وسياسي جزائري
سياسي وبرلماني جزائري سابق
تحميل المزيد