حاصرت الصين تايوان للمرة الثانية خلال 8 أشهر فقط، بسبب لقاء بين الرئيسة التايوانية ورئيس مجلس النواب الأمريكي، فهل اقتربت ساعة الحسم؟ القصة مرتبطة بمبدأ "الصين الواحدة"، فما هو؟
ورغم أن العالم الآن يخشى من اندلاع حرب أخرى في تايوان على غرار الحرب المستعرة في أوكرانيا، إلا أن جذور القصة وتفاصيلها مختلفة تماماً. فالحرب الأوكرانية هي حرب جيوسياسية بين روسيا والغرب، أما قصة تايوان فهي مرتبطة بمبدأ الصين الواحدة، وعمر هذا المبدأ أقل من نصف قرن.
فالصين تعتبر تايوان جزءاً من أراضيها بموجب مبدأ "الصين الواحدة"، وتقول بكين إن قضية تايوان هي الأمر الأكثر حساسية وأهمية في علاقاتها بالولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه تقوم سياسة الولايات المتحدة على الاعتراف بأن "الصين واحدة" ولا تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع تايوان.
ما قصة الصين وتايوان من البداية؟
حتى نرسم الصورة كاملة، لابد من العودة إلى أصل القضية التايوانية أو الأزمة الصينية مع تايوان. إذ كانت تايوان تاريخياً جزءاً من الصين، لكن عندما اندلعت الحرب الأهلية في البلاد خلال أربعينيات القرن الماضي، بدأت القصة تأخذ منحى تاريخياً مغايراً لما كانت عليه الأمور وقتها.
الحرب الأهلية اندلعت بين الحزب القومي الحاكم في الصين وقتها وبين الحزب الشيوعي الصيني بزعامة ماو تسي تونغ. وعندما انتصر الشيوعيون، فرّ أعضاء الحكومة والحزب الحاكم وعبروا مضيق تايوان ومعهم احتياطي الصين من الذهب بالكامل، ليستقروا على الجزيرة ويعلنوا قيام جمهورية الصين وعاصمتها تايبيه.
وبطبيعة الحال ظل العالم يعترف بجمهورية الصين كممثل للشعب الصيني، بينما لم يعترف العالم بجمهورية الصين الشعبية التي أقامها الحزب الشيوعي الصيني في البر الرئيسي وعاصمتها بكين.
ذلك الفصل من تاريخ الصين بشقيها الصين الشعبية (بكين) وجمهورية الصين (تايبيه) وقعت أحداثه عام 1949، وأصبحت جمهورية الصين (تايوان) تشغل مقعد الصين الدائم في مجلس الأمن الدولي بعد أن اعترفت بها الولايات المتحدة والدول الغربية، بينما لم يعترف أحد تقريباً بجمهورية الصين الشعبية.
واستمرت الأمور على هذا النحو حتى عام 1971 عندما انقلبت الأمور واعترف الغرب، بقيادة واشنطن بطبيعة الحال، بأن جمهورية الصين الشعبية وعاصمتها بكين هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الصيني، وتم نقل مقعد العضوية الدائمة من تايوان إلى الصين، لتبدأ دول العالم تباعاً في سحب اعترافها بتايوان وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع الصين.
كيف يمكن أن تتحول الأمور بهذه الطريقة في الاعتراف بدولة أو سحب الاعتراف بدولة أخرى؟ إنها السياسة والمصالح. فالولايات المتحدة، زعيمة المعسكر الرأسمالي الغربي، لم تكن لتعترف بالحزب الشيوعي الصيني كممثل شرعي ووحيد للشعب الصيني عندما انتصر في الحرب الأهلية عام 1949، وظلت تعترف فقط بحكومة جمهورية الصين التي فرت إلى تايوان واتخذتها مقراً لها.
الحزب القومي الصيني أو حزب الكوميتانغ الذي تعرض للهزيمة في الحرب الأهلية وفرّ إلى تايوان هو الحزب المعارض في تايوان حالياً، ومعروف عنه أنه لا يميل إلى الاستقلال التام عن الصين، على عكس الحزب الديمقراطي التقدمي، الذي تنتمي إليه الرئيسة الحالية تساي إنغ وين، حيث يسعى للاستقلال بتايوان عن البر الرئيسي.
دور أمريكا في قضية تايوان
يمكن القول إن عدم الاعتراف الأمريكي بالحكومة الشيوعية في بكين لعب دور البطولة في أزمة تايوان الحالية. إذ أصرت واشنطن وقتها على استمرار حكومة الحزب القومي الصيني، التي فرّت إلى تايوان، ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الصيني، واحتفظت تايبيه بمقعد العضوية الدائمة في مجلس الأمن.
وعلى خطى واشنطن سارت بقية العواصم حول العالم، وهكذا أصبحت تايوان أو جمهورية الصين هي الممثل الشرعي الوحيد المعترف به عالمياً للشعب الصيني، بينما ظلت حكومة ماو تسي تونغ في البر الرئيسي وعاصمتها بكين غير معترف بها دولياً.
لكن عندما وصلت الخلافات بين الحزب الشيوعي الصيني والحزب الشيوعي السوفييتي إلى درجة اشتعال حرب حدودية بين الصين وروسيا خلال ستينيات القرن الماضي، بدأت تختمر فكرة الاعتراف بالحكومة الشيوعية ممثلاً للصين لتحل محل "جمهورية الصين" على المسرح العالمي، مادامت بكين لن تتحالف مع المعسكر السوفييتي.
وهكذا بدأت فكرة الاعتراف بالصين الشعبية تتشكل، وكان للبعد الاقتصادي أيضاً دور مهم، فموارد البر الرئيسي الطبيعية والبشرية مثلت عنصر إغراء إضافياً للعالم، وهكذا صدر قرار عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1971 باعتبار جمهورية الصين الشعبية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الصيني، بما فيه من يعيشون في جزيرة تايوان أيضاً، أي سحب الاعتراف بجمهورية الصين ومقرها تايوان.
لكن هذا التصويت لم يحسم الأمور بشكل نهائي، فجمهورية الصين أو تايوان سعت أيضاً إلى استمرار الاعتراف بها كدولة، بينما سعت الولايات المتحدة إلى تخفيف شروط الصين الشعبية وأهمها سحب الاعتراف بتايوان كدولة وعدم قبولها مطلقاً في أي منظمة أو هيئة دولية، واستمر الشد والجذب نحو 8 سنوات حتى توصلت أمريكا والصين الشعبية إلى اتفاق لتطبيع العلاقات بينهما، تتويجاً لسياسة البنغ بونغ التي أطلقها هنري كيسنغر.
عندما أغلقت واشنطن سفارتها لدى جمهورية الصين (تايوان) عام 1979 وافتتحت سفارة لها في بكين، حولت مقر السفارة في تايبيه إلى مكتب للتمثيل التجاري، وسرّع القرار الأمريكي من عملية اعتراف الدول الأخرى بالصين الشعبية (البر الرئيسي وعاصمته بكين) وسحب الاعتراف بجمهورية الصين أو تايوان.
ولم يعد لجمهورية الصين تمثيل في المنظمات والهيئات الدولية، وأصبحت عبارة "تايوان جزء من الصين" حاضرة باستمرار في الوثائق الأممية، ولم يتم قبول عضوية تايوان في منظمة التجارة العالمية أو اللجنة الأولمبية الدولية إلا بعد تغيير الاسم ليصبح تايبيه الصينية.
حساسية مبدأ الصين الواحدة
وهكذا أصبح مبدأ الصين الواحدة هو كلمة السر التي على أساسها تحدد بكين علاقاتها مع باقي الدول حول العالم، والمقصود هنا هو أن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين، شأنها شأن هونغ كونغ، التي كانت تحت السيطرة البريطانية حتى استردتها بكين عام 1997، وماكاو التي كانت تحت السيطرة البرتغالية حتى استردتها الصين عام 1999.
أما فيما يتعلق بتايوان فالأمور تبدو مختلفة إلى حد كبير، فتايوان دولة كانت تتمتع باعتراف دول العالم أجمع، بل إنها كانت عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي، وبالتالي لا توجد قوة عظمى أو دولة استعمارية تسيطر عليها يمكن أن تتفاوض معها الصين الشعبية لاستردادها كما حدث مع هونغ كونغ وماكاو.
وبالتالي اتبعت بكين سياسة مختلفة تقوم على ممارسة الضغوط على الدول التي تعترف بتايوان حتى تسحب ذلك الاعتراف، ونجحت تلك السياسة بالفعل، فعلى مر السنين نجحت الصين في تصيّد العديد من حلفاء تايوان الرسميين وتحويل موقفهم، ما أدى إلى تقليص عدد الحكومات التي تعترف بتايبيه إلى 13 حكومة فقط، منها باراغواي في أمريكا الجنوبية، وهايتي في أمريكا الشمالية، وإيسواتيني في إفريقيا، والباقي دول جزرية صغيرة ربما لم يسمع بها أحد، إضافة إلى الفاتيكان.
أما فيما يتعلق بالولايات المتحدة وعلاقتها مع تايوان، فقد اتبعت واشنطن منذ الاعتراف ببكين استراتيجية الغموض الاستراتيجي فيما يتعلق بتايبيه والموقف منها في حالة إقدام بكين على إعادة الجزيرة ذات الحكم الذاتي إلى حظيرة البر الرئيسي بالقوة، والمقصود هو أن الأمريكيين لا يفصحون عن نواياهم في حالة إقدام الصين على ضم تايوان بالقوة.
وعلى الرغم من أنه لا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، إلا أنه لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها، كما أن الرئيس الحالي جو بايدن قد أنهى عملياً سياسة الغموض الاستراتيجي، وأعلن أكثر من مرة أن أمريكا ستدافع عن تايوان إذا هاجمتها الصين.
وفي هذا السياق، تنظر الصين إلى النظام الديمقراطي ذاتي الحكم في تايوان على أنه محافظة صينية منفصلة، ولم تستبعد استخدام القوة لتحقيق الوحدة، ووصلت التوترات بين بكين وتايبيه إلى ذروتها منذ عقود، في ظل إصرار الصين على الرد بقوة على أي تحرك أمريكي يكرس فكرة استقلال تايوان، سواء زيارة رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي إلى تايوان، في أغسطس/آب 2022، أو استقبال رئيسة تايوان تساي في أمريكا ولقاؤها مع كيفين مكارثي رئيس مجلس النواب الحالي في أبريل/نيسان 2023، ففي الحالتين ضربت الصين حصاراً خانقاً حول الجزيرة.