استجوب الكونغرس الأمريكي قبل أسبوع الرئيسَ التنفيذي لشركة تيك توك الصينية، شو زي تشيو، أمام وسائل الإعلام العالمية، حول ما إذا كانت الحكومة الصينية تستخدم التطبيق الشهير للتجسس على الأمريكيين. وجاءت جلسة الاستماع لشهادة تشيو بعد بضعة أسابيع فقط من تحليق بالون تجسس صيني فوق الولايات المتحدة.
تقول مجلة The Foreign Policy الأمريكية إن هذين الحدثين يدلان على أن التجسس الصيني على الغرب أشد تغلغلاً بكثير مما كان يُعتقد. وما يشهده الغرب الآن ليس إلا بعض الآثار المترتبة على قرار اتخذته الصين منذ سنوات باستخدام كل وسيلة متاحة لديها لجمع المعلومات الاستخبارية عن الغرب.
ومع ذلك فإن معظم الغربيين لا يقدرون حقَّ التقدير الهجومَ الاستخباراتي الكاسح الذي تشنه الصين على بلدانهم. وحكوماتهم كذلك لم تكن تدرك شدة هذا الهجوم؛ لأن اهتمامها كان منصرفاً إلى مكان آخر، بحسب المجلة.
متى بدأت حرب الجاسوسية بين الصين والغرب؟
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وجَّهت أجهزة الاستخبارات الأمريكية معظم اهتمامها نحو مكافحة الإرهاب. وأولى رؤساء أجهزة الاستخبارات الأمريكية عنايتهم لهذه البرامج التي وضعها صناع القرار في واشنطن. لكن التركيز الاستراتيجي للحكومة الأمريكية على مكافحة الإرهاب جاء على حساب التركيز على الدول الناشئة مثل الصين وروسيا، بحسب فورين بوليسي.
في غضون ذلك، فإن وزارة أمن الدولة الصينية، أي جهاز الاستخبارات الرئيسي في الصين، اتبعت حيال الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول استراتيجيةً مفادها "شاهد الحرائق تشتعل على الضفة المقابلة وأنت آمن على ضفتك، ولا تتدخل في المعركة حتى يستنفد عدوك قواه في قتال غيرك".
وكان غاية الصين طويلة المدى هي احتواء قوة الولايات المتحدة، ثم الحلول مكانها في جنوب شرق آسيا. ولما كانت الولايات المتحدة غارقة في شؤون الشرق الأوسط ومشكلاته، فإن معظم المكاسب التي بلغتها الصين مرَّت دون أن ترصدها الاستخبارات الأمريكية أو تنتبه لأهميتها.
وبداية من عام 2005، أعلنت وزارة أمن الدولة الصينية الحربَ على مجتمع الاستخبارات الأمريكية. وحشدت مواردها وأجود عملائها في مواجهة الاستخبارات الأمريكية التي كانت مشغولة بالحرب العالمية على الإرهاب. وفي هذا السياق، قال مسؤول في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ممن لديهم خبرة ممتدة بالشؤون الصينية، إن العاملين في وزارة أمن الدولة الصينية كانوا سعيدين باستنزاف الولايات المتحدة، وتشتُّت قواها، في الحرب العالمية على الإرهاب.
الصين دائماً ما تسبق أمريكا بخطوة
لذلك، ما لبثت الاستخبارات الصينية أن انتصرت في حربها على جواسيس الولايات المتحدة. فقد تمكنت وزارة أمن الدولة الصينية في عام 2010 من تفكيك شبكة تجسس كبرى تابعة لوكالة الاستخبارات الأمريكية، كانت تعمل في بكين. وأسفر ذلك عن مقتل واعتقال أكثر من 10 عملاء تابعين للاستخبارات الأمريكية في الصين على مدى أكثر من عامين. ولا تزال تفاصيل اختراق المخابرات الصينية للشبكة الأمريكية غامضة حتى الآن، بحسب فورين بوليسي، لكن الواضح أن الاستخبارات الصينية اخترقت قنوات اتصال الاستخبارات الأمريكية التي يفترض أنها آمنة.
وتدور مزاعم بأن عميلاً مزدوجاً هو من اخترق شبكة الاتصال التابعة لوكالة الاستخبارات الأمريكية. وربما يكون هذا الشخص هو جيري لي، ضابط الاستخبارات الأمريكية السابق الذي كان يعمل في قسم الشؤون الصينية. وقد باع "لي" أسراراً أمريكية إلى الصين بعد مغادرته العمل بوكالة الاستخبارات الأمريكية. ثم اعتُقل بعد ذلك، وحُكم عليه في عام 2019 بالسجن 19 عاماً.
ما الطريقة التي تتبعها الصين في التجسس؟
قد يقول بعض المراقبين إن هذا دأب الدول، والصين لا تختلف عن غيرها في اتباع المدرسة الواقعية في إدارة شؤونها الدولية، فهي تتجسس على غيرها كما يتجسس غيرها عليها. لكن هذه الآراء تستخفّ عادةً بما تفعله الصين، وتنخدع به. فأجهزة الاستخبارات الصينية تعمل بطريقة تختلف اختلافاً جوهرياً عن الطريقة التي تعمل بها الاستخبارات في الغرب، من حيث طبيعة العمل ونطاقه وشدته.
فعلى خلاف الأنظمة الغربية، لا تخضع أجهزة الاستخبارات الصينية للمساءلة أمام هيئات سياسية مستقلة أو شعوبها، ولا تحتكم لسيادة القانون. وتتبع الحكومة الصينية نهجاً يقوم على تسخير "المجتمع كله" في خدمة مساعيها لجمع المعلومات الاستخباراتية عن خصومها.
وتدمج الصين -على سبيل المثال- بين عمل الاستخبارات وشؤون التجارة على نحو لا مثيل له في الغرب. وتفرض تشريعات الأمن القومي المتوالية التي أقرتها الصين في عهد الرئيس شي جين بينغ على الشركات في الصين التعاون مع أجهزة الاستخبارات الصينية متى ما طُلب منها ذلك، كما تقول فورين بوليسي.
علاوةً على ذلك، تختلف الصين عن الغرب في اعتمادها الواسع على ما يُعرف في عالم التجسس بوسائل المراقبة الفنية كلية الانتشار، فهي تستعين بأدوات التعرف على الوجوه وتطبيقات الهواتف وكاميرات المراقبة للتجسس في كل مكان، أما الدول الغربية فإن قوانينها تفرض بعض القيود على هذه الأدوات.
"سرقة الأسرار العلمية والتقنية"
ارتقى هجوم الاستخبارات الصينية إلى مستويات جديدة منذ أن تولى الرئيس شي جين بينغ السلطة في عام 2012. غير أن عملها لا يقتصر على ما تفعله جميع وكالات الاستخبارات: استباق مقاصد الخصوم الأجانب والاطلاع على قدراتهم، بل يتعداه إلى أبعد من ذلك بكثير: سرقة أكبر قدر ممكن من الأسرار العلمية والتقنية من القوى الغربية، لا سيما الولايات المتحدة، لتصبح الصين قوة عظمى قادرة على تحدي أمريكا وتجاوزها في ساحة النفوذ العالمي.
في عام 2012، حذر مدير وكالة الأمن القومي الأمريكية من أن التجسس الإلكتروني على العلوم والتكنولوجيا الغربية صار يشكل أكبر عملية نقل للثروة في التاريخ. وقد كانت الصين، ولا تزال، أكثر الجهات تورطاً في هذا النوع من التجسس.
وبلغ الأمر أن تمكن العملاء الصينيون منذ عام 2013 من تنفيذ اختراق هائل لمكتب إدارة شؤون الموظفين بالولايات المتحدة، والذي يحتوي على معلومات شديدة الحساسية عن العاملين بالحكومة الفيدرالية الأمريكية. ومن ثم فقد صار لدى الصين بيانات لابتزاز الملايين من الموظفين الأمريكيين. وأعقب ذلك في عام 2017 اختراق الصين لشركة التصنيف الائتماني "إيكويفاكس"، فأصبح لديها بيانات حساسة عن نحو 150 مليون أمريكي.
ثم هناك رجال الأعمال الصينيون الذين يعتبر بعضهم عملاء متخفين تابعين للاستخبارات الصينية. ومنهم على سبيل المثال: يانغون شو، الذين تظاهر بأنه رجل أعمال لسرقة أسرار عن شركات الطيران الأمريكية. وقد اعتقلته الاستخبارات الأمريكية وهو في السجن الآن.
دروس من الحرب الباردة
تشير بيانات مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي إلى أن المكتب كان يفتح تحقيقاً متعلقاً بالصين كل 12 ساعة في عام 2021. ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة، فحتى أجهزة الاستخبارات البريطانية "إم آي 5″ و"إم آي 6" ومكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية حذرت علناً من مخاطر التجسس الصيني.
والحال كذلك، فإن تاريخ الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ربما لا يعيد نفسه، لكنه يقدم للغرب درسيْن مهمين للاستفادة منهما في هذا السياق: أولاً، أن الجواسيس الصينييين منتشرون ويفعلون الأمور ذاتها التي كان يفعلها الجواسيس السوفييتيون. ومن ثم فإن الولايات المتحدة عليها أن تجري مناقشات صريحة حول طبيعة الطلاب والأكاديميين ورجال الأعمال الصينيين، ومن قد يكون لديه أغراض سيئة بينهم، ومراجعة برامج المواهب وبرامج التوعية الثقافية في الولايات المتحدة.
ثانياً، أن الكشف عن التجسس الصيني في العلن أفضل وسيلة لمواجهته. ومن ثم يجب على حكومة الولايات المتحدة أن تصارح الناس بما تعرفه عن عملاء الاستخبارات الصينية. فهي إن لم تكشف عن هذه المعلومات -لتُفحص وتُناقش وتُنقض- فإن الأمر قد يتحول إلى مطاردة متعسفة تأخذ الجميع بجريرة بعضهم.
وقد صار كثير من الأمريكيين الصينيين ضحايا لما تفعله الحكومة الصينية وأجهزة استخباراتها. ولذلك، فإن التوازن بين الحفاظ على الأمن من جهة، والحريات المدنية من الجهة الأخرى هو التحدي الذي ينتظر الولايات المتحدة.
هل يجب حظر "تيك توك" بالكامل؟
في الختام، تقول فورين بوليسي إن التصرف الناجع في هذه اللحظة هو الذي يعالج المشكلة علاجاً دقيقاً لا الذي يتسبب في تفاقمها، والمقصود أنه صار من المعروف لدى واشنطن أن "تيك توك" يوفر للحكومة الصينية منصة يمكن استخدامها لجمع المعلومات الاستخباراتية عن الأمريكيين، ويمنحها وسيلة لتشكيل الرأي العام الأمريكي.
ومع ذلك، فلم يثبت للكونغرس أن "تيك توك" يفعل ذلك، ومن ثم يجب بلا شك حظر التطبيق من الهواتف التي تحمل أسرار الدول الغربية لاحتمال أن تستخدمه الصين للتجسس، لكن حظره بالجملة في الولايات المتحدة لأسباب تتعلق بالأمن القومي أمر لا مسوغ له حتى الآن. وما لم تظهر أدلة على أن "تيك توك" أكثر من مجرد تهديد أمني محتمل، فمن حق الأمريكيين أن يستمتعوا بنشر بمقاطع الفيديو التي يريدونها عبر الإنترنت.