رغم أن تركيا توصف بأنها دولة عابرة للقارات، فإن المعارضة التركية ولاسيما العلمانية لديها ولع تاريخي بالغرب، ومحاولة إنكار البعد الإسلامي والآسيوي في تركيبة البلاد وتجاهل مصالح تركيا في آسيا، ولكن الواقع أن آسيا تعد منطقة زاخرة بالفرص والتحديات على السواء لأنقرة.
فبينما كانت معظم حروب الدولة العثمانية ومشكلاتها وانتصاراتها وهزائمها في أوروبا، فإن فقدانها معظم أراضيها الأوروبية بعد حرب البلقان الأولى، ثم الاتفاقات التي أبرمتها بعد حرب الاستقلال، وتبادل السكان مع اليونان، وعدد من الدول الأوروبية الأخرى، أدى إلى استقرار الحدود الأوروبية لتركيا، رغم أن أحقاد الماضي ظلت دوماً تحلق فوقها.
والآن يتمتع الجانب الأوروبي من البلاد بالأمن والهدوء، فسنجد أن الوضع مختلفٌ تماماً على الجانب الآسيوي، ومنذ انهيار اتفاقية سايكس بيكو التي أدت لتفكيك الحدود الإقليمية من الداخل، سعت الدول الكبرى إلى تشكيل مناطق نفوذها الخاص في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز، وتؤثر كل هذه الأنشطة بصورةٍ مباشرة وغير مباشرة على تركيا، حسبما ورد في تقرير لمركز أسباب للدراسات السياسية والاستراتيجية.
تركيا.. أغلبها يقع في آسيا ولكنها تولي شطرها تجاه أوروبا
يحتل الشطر الأعظم من تركيا شبه جزيرة الأناضول في الشرق بما يعادل 97% من مساحة البلاد تحديداً.
وتفصل شبه الجزيرة بين البحرين المتوسط والأسود، وتعتبر جزءاً من آسيا، بل هي التي أعطت لآسيا اسمها، ومازال يطلق عليها آحياناً آسيا الصغري.
وتُعَدُّ الأناضول عبارةً عن أراضٍ شاسعة ووعرة، تفتقر إلى الأنهار الصالحة للملاحة، كما أنّ مشروعات البنية التحتية والشركات التجارية أقل جدوى من الناحية الاقتصادية، فيها مقارنة بغرب البلاد.
فكلما تقدمنا شرق خط طول 36° زادت وعورة التضاريس في الأناضول، وارتفعت تكلفة المشروعات الاقتصادية.
تتمتع الأناضول بساحل طويل، وغالبية أجزائه عبارة عن سهولٍ ممتدة وهي ميزة رائعة للسياحة.
إن قلة موانئ المياه العميقة بطول ساحل الأناضول تعني محدودية الوصول البحري للبلاد.
ولا شك أن هناك بعض الاستثناءات في أضنة وأنطاليا، لكن الأناضول تُعتبر منطقة معزولةً بشكلٍ عام، حسب تقرير لمركز أسباب للدراسات السياسية والاستراتيجية.
الأناضول.. قلعة تركيا الحصينة
من الناحية التاريخية خدمت هذه الطبيعة الجغرافية الأمن، والحوكمة المركزية، وثقافة الانطواء في وضع مناقضٍ تماماً لوضع منطقة مرمرة ذات الآفاق العالمية المنفتحة على أوروبا.
لكن الأناضول توفر بعض المزايا الخاصة لتركيا وأولها أنها:
تمثل منطقةً عازلة تضمن منع أي قوةٍ آسيوية من تهديد قلب تركيا في الغرب.
ستكون تكلفة أي تدخل عسكري أجنبي من اتجاه الأناضول باهظة للغاية.
لن تكون غالبية الدول مستعدةً للمخاطرة بها.
وعورة في التضاريس ووفرة في المياه
لا تمتلك تركيا الكثير من الموارد الهيدروكربونية، لكنها تمتلك مورداً أعلى في القيمة بمراحل، إذ تتمتع بوفرةٍ من المياه داخل واحدةٍ من أكثر مناطق العالم جفافاً.
وهذه المياه تتركز بشكل كبيرة في جبال شرق الأناضول الوعرة والشاهقة الارتفاع التي تكسوها الثلوج في الشتاء.
ووفقاً للإحصاءات المائية يستقر المتوسط السنوي لمنطقة الشرق الأوسط عند 300 متر مكعب من الماء للفرد، بينما يتجاوز الرقم في تركيا حاجز 3100 متر مكعب للفرد كل عام (بدأ يتراجع ولذا تسعى الحكومة للتوسع في مشروعات المياه).
ولا شك أن امتلاك تركيا لحصة مياه تعادل 10 أضعاف حصة جيرانها في الجنوب يُعَدُّ بمثابة أفضليةٍ طويلة الأجل لصالح أنقرة، إذ إن نحو 90% من المياه التي تجري في نهر الفرات، تحديداً تنبُع من جبال الأناضول في تركيا، إضافة إلى 40% من مياه نهر دجلة.
أي أن أنظمة الأنهار القادمة من تركيا تملأ سلة طعام المنطقة التاريخية التي تمثل العراق المعاصر.
ولجأت الحكومة التركية، خلال الـ20 عاماً الماضية، إلى الاستفادة من مياه النهرَين (اقتصاديّاً وتنمويّاً) عبر أحدث التقنيات في تعمير منطقة غرب وشرق الأناضول.
سيطرة تركيا على ضفاف منابع حوض دجلة والفرات تمنح أنقرة أفضليةً جيوسياسية طويلة الأجل على جيرانها في الجنوب.
وبرزت مشكلة المياه بين تركيا والعراق وسوريا إلى الوجود منذ عام ١٩٨٤، مع تنفيذ تركيا مشروعاً تكاملياً ضخماً لتطوير نهري دجلة والفرات والنجد الصحراوي، البالغة مساحته ٧٤٠٠٠ كم، وهو المشروع المعروف باسم مشروع "الغاب"، وقد لخص الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، في خطاب ألقاه في مؤتمر دولي، الأهداف الموضوعة لمشروع "غاب" بإنشاء شبكة ضخمة للري وتوليد الطاقة الكهربائية، تشمل 21 محطة للطاقة الكهربائية، ومضاعفة إنتاج تركيا الزراعي".
مما يزيد الإشكاليات بهذا الملف حقيقة عدم وجود اتفاقٍ رسمي حول إدارة الماء بين العراق وسوريا وتركيا، إضافة للفوضى الضاربة في العراق وسوريا، وأن نظامي البلدين فعلياً خاضعان لقوى تعد منافسة لأنقرة تاريخياً، حيث يفرض الإيرانيون نفوذهم على بغداد، بينما يقتسمون النفوذ مع روسيا على دمشق.
تركيا تراهن على السدود لتحقيق أهداف داخلية وخارجية
يحاول صناع السياسة في أنقرة الاستفادة من هذا الواقع جيداً، حيث شيّدت تركيا نحو 600 سد على النهرين منذ الستينيات، مع التخطيط لـ600 سد آخر خلال الـ40 عاماً المقبلة، تُعتبر العديد من هذه السدود جزءاً من مشروع جنوب شرق الأناضول، الذي يستهدف تعزيز النشاط الاقتصادي في المنطقة، وخاصةً في وسط شبه الجزيرة، الذي يحتوي على هضبةٍ غنية بالزراعة.
جزء من الاهتمام مرتبط بالوضع الداخلي لتركيا، فالأناضول، وخاصةً الجنوب الشرقي التركي، كانت منطقة محافظة ومهمشة تاريخياً من قبل القوى العلمانية الحاكمة، التي كانت تركز على إسطنبول وأنقرة وإزمير، بينما ينظر لها حزب العدالة والتنمية الحاكم بشكل مختلف، ويرى أن جزءاً من إرثه هو الاهتمام بهذه المنطقة، ونقل التنمية إليها.
ويؤكّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن "الجنوب الشرقي للبلاد لم يعد مهملاً، والسدود التي تشيد هناك دليل على ذلك، فهو يقدم سدّ إيليصو على سبيل المثال على أنه جزء من خطة طويلة الأجل لتطوير المنطقة الفقيرة التي تسكنها أغلبية كردية، وسيخلق أكثر من 10 آلاف وظيفة، كما سيساعد على ريّ الأراضي الزراعية وتنشيط حركة السياحة".
ويعدّ سد إيليصو جزءاً من مشروع جنوب شرق الأناضول، وهو قادر على إنتاج 4.12 مليارات كيلوواط/ ساعة من الطاقة الكهربائية سنويّاً، وسيوفّر لتركيا حوالي 250 مليون دولار سنويّاً في إنتاج الكهرباء، ويسهم في توفير المياه لريّ 1.2 مليون هكتار من الأراضي.
لكن أهمية السدود بالنسبة لتركيا لا تتوقف عند مجرد إنتاج الطاقة وري المحاصيل فقط، بل يتعلق الأمر بالنفوذ الجيوسياسي أيضاً.
إذ تسعى تركيا لتعزيز نفوذها الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة عن طريق تشييد السدود، حسب تقرير مركز أسباب.
سد أتاتورك خلق أزمة في المنطقة
وتجلّى هذا الأمر في التسعينيات، عندما شيّدت البلاد سد أتاتورك الذي يُعتبر من أكبر السدود في العالم.
أوقفت تركيا تدفق نهر الفرات لتعبئة الخزانات بعد الانتهاء من المشروع.
استغرقت العملية برمتها قرابة الشهر أو أكثر قليلاً.
أبلغ الأتراك نظراءهم السوريين والعراقيين مسبقاً، لكن رد فعل دول المصب جاء غاضباً، ليستجيب لهم الرئيس التركي أوزال آنذاك، قائلاً:
"نحن لا نخبر العرب بما يجب أن يفعلوه بنفطهم… ولهذا لن نقبل منهم أي مقترحات حول ما يجب أن نفعله بمياهنا"، يكشف الستار عن المشاعر الجيوسياسية، ويزداد الموقف تعقيداً بسبب طفرة السكان في العراق وسوريا، وضعف الحكومات في البلدين، خاصةً بعد هزيمة العراق في حرب الخليج عام 1991، بعد أن كان قوة عسكرية تحسب لها تركيا وإيران ألف حساب.
ولكن حكومة حزب العدالة والتنمية جاءت بسياسة مختلفة نسبياً، عززت فيها مشروعات السدود، ولكن دون محاولة التعامل مع الأمر كأنه تعمُّد للإضرار بالدول العربية.
وتقول دراسة عراقية بعنوان سياسة تركيا المائية وانعكاساتها على دول الجوار (العراق وسوريا)، إن قضية المياه تُعد من أعقد القضايا والمشاكل التي واجهت العلاقات التركية العربية، وعلى وجه الدقة العلاقة مع العراق وسوريا، وهي كذلك من القضايا المشتركة بين هذه الدول، إلا أن جانب التعاون في هذه القضية كان ضعيفاً، وموقف الضعف فيها يأتي من عدم اعتراف أي طرف من الأطراف بحقوق الآخر، اعتقدت تركيا منذ البداية أن المياه الجارية في حوضي دجلة والفرات هي مياه تركية، لأنها تنبع من الأرض التركية، وعليه فإنها غير ملزمة قانوناً بإعطاء حصة ثابتة للدول المتشاطئة معها، في الوقت الذي تهتم فيه بتقدير حاجة البلدين لمياه دجلة والفرات، وأنها غير ملتزمة بالقوانين الدولية التي تنص على عدم الإضرار بالآخرين، ولذلك فإنها تزود العراق وسوريا بالمياه شريطة ألا يتعارض ذلك ومصلحة البلاد، وهي تبدي استعدادها للاتفاق وإقامة المشاريع التنموية والاقتصادية.
بالمقابل فإن العراق وسوريا حاولا الوقوف بوجه السياسة التركية، وطالبا بحقوقهما القانونية في مياه دجلة والفرات، غير أنهما لم يتوصلا إلى حل مشترك يتفقان عليه لمواجهة سياسة تركيا المائية، بل كان الخلاف بينهما هو الأبرز في هذه القضية.
وتقول دراسة عراقية أخرى، رصدت العلاقة بين بغداد وأنقرة بعد تولي حزب العدالة والتنمية الحكم، إن تصريحات الحكومات التركية السابقة، القائلة بأن نهري دجلة والفرات ثروة قومية خاضعة للسيادة التركية وحدها، لم يعد يتم ترديدها على لسان أقطاب حزب العدالة.
وربما لا تمتلك تركيا أي موارد نفط كبيرة كالسعودية، وتفتقر إلى ما لدى إيران من اتباع يعملون كوكلاء أكفاء، مثل حزب الله والحشد الشعبي والحوثيين، لكن سيطرة أنقرة على حوض دجلة والفرات تمنحها نفوذاً جيوسياسياً لا مثيل له، يُمكن وصف هذا النفوذ بأنه الخيار النووي التركي، حسب تقرير مركز أسباب.
ويأتي هذا الخيار ليشكل عامل توازن مع حقيقة أن إيران هي المسيطر الفعلي على منطقة الهلال الخصيب برمتها (العراق وسوريا ولبنان)، إضافة لليمن، ويحلو للمسؤولين الإيرانيين الحاليين التفاخر بالقول إنهم قد بنوا إمبراطورية فارسية جديدة عبر سيطرتهم على أربع عواصم عربية.
وربما تحظى طهران باليد العليا الآن بفضل حزب الله ونظام الأسد والحشد الشعبي.
لكن الأفضلية التي تتمتع بها أنقرة على حوض دجلة والفرات، والتواجد البحري التركي في المتوسط، سيفسدان الخطط الإيرانية الموضوعة على المدى البعيد.
ويقول تقرير مركز "أسباب" في هذا السياق من الأفضل لتركيا ترك منطقة الشام على حالها حالياً.
لماذا تزعج سدود الأناضول حزب العمال الكردستاني؟
يشعر فصيل آخر بالانزعاج من تنامي النفوذ التركي على حوض دجلة والفرات، وهو حزب العمال الكردستاني، المصنف كجماعة إرهابية، يستهدف حزب العمال الكردستاني سدود الأناضول ويهاجمها منذ زمن، ويزعم كبار أعضائه أن أنقرة تسعى لاستغلال سيطرتها على تدفق الماء من أجل تقويض حركة حزب العمال الكردستاني.
تحمل هذه المزاعم شيئاً من الصحة، لأن تركيا تستطيع تقييد تحركات الجماعة عبر الحدود، عن طريق إغراق بعض المناطق الاستراتيجية، حسب التقرير.
وتركيا هي موطن لملايين الأكراد، تربطهم علاقة معقدة مع الحكومة المركزية، فالمفارقة أن حزب العدالة الحاكم يحصل على نصيب كبير من أصوات الأكراد، ويرونه خياراً أفضل من حزب العمال المفرط في شيوعيته وعنفه وعلمانيته، وبين الأحزاب التركية الرئيسية المفرطة في قوميتها.
وسعى حزب العمال الكردستاني لاستغلال التوترات الاجتماعية طيلة عقود لخلق اضطرابات في تركيا.
سعت القوى الغربية لاستغلال صراع تركيا مع الحزب من أجل تقويض سلطة أنقرة، كما أنها تدعم الإدارة الذاتية الكردية، التي أسسها مقاتلون سوريون يمثلون الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، رغم أن الحزب مصنف إرهابياً في تركيا والدول الغربية.
ويُعَدُّ هذا الانكشاف للتدخلات الخارجية في منطقة جنوب الأناضول بمثابة أكبر نقاط الضعف التركية، حسب تقرير مركز أسباب، كما أنه يعمي ان تركيا يجب عليها أن يكون لها دور سوريا والعراق البلدين المضطربين اللذين يسيطر عليهما خصوم أنقرة وهم إيران وروسيا ومجموعات متنوعة تابعة لحزب العمال، لأنه من دون ذلك فإن الحدود التركية مع سوريا والعراق، قد تمثل خطراً كبيراً على البلاد.
من المستبعد أن تتعرض سلامة أقاليم البلاد للخطر على المدى البعيد، لكن استمرار نشاط حزب العمال الكردستاني وهجماته على سدود دجلة والفرات يُفسد سيطرة أنقرة الكاملة على ضفاف منابع النهرين.
ما يعني أنه يجب على الحكومة التركية أن تحل نزاعها مع الميليشيات الكردية، حتى تتمكن من استغلال أفضلية الماء التي تحظى بها أو تعمل على تحييدها.
تركيا فقيرة في الطاقة قريبة من منابعها.. فهل تستطيع التحول لمحور نقل الغاز والنفط؟
تركيا دولة فقيرة في الطاقة باستثناء بعض الفحم واكتشافات حديثة للغاز، ليست كبيرة.
ولكن البلاد تستقر بين سوقين لإنتاج واستهلاك الطاقة، حيث توجد الدول الأوروبية من ناحية الغرب، وتسعى لتنويع إمدادات طاقتها بعيداً عن روسيا، بينما تقع الدول المنتجة للطاقة الهيدروكربونية في الشرق، وتسعى لتنويع الطرق التي تربطها بالأسواق الأوروبية.
فالطاقة هي من أهم مقومات مصالح تركيا في آسيا.
وتمر الكثير من لوجستيات الطاقة عبر الطرق البحرية حالياً، ولكن لا يستطيع الشرق والغرب الوصول إلى بعضهما البعض بصورةٍ فعالة نظراً لعدم وجود خطوط أنابيب.
يمر الطريق البري الرئيسي بآسيا وآوروبا أم عبر تركيا أو روسيا.
ولذلك تسعى أنقرة لتحويل نفسها إلى مركزٍ إقليمي للطاقة إذا أحسنت استغلال طبيعتها الجغرافية.
يمثل خط أنابيب الغاز عبر الأناضول أول جهد ملموس لتحقيق هذا الهدف.
ويقوم الخط بتوصيل الغاز الطبيعي الأذربيجاني إلى أوروبا، لكن مهمة العثور على مُورِّدين جدد تقع على عاتق صناع السياسة الأتراك.
كما تسعى تركيا إلى تنفيذ خطة تهدف إلى نقل الغاز من آسيا الوسطى (كازاخستان وتركمانستان) لأوروبا، للعمل على حل مشكلة الغاز التي تواجه العديد من دول القارة، جراء الأزمة الأوكرانية، ولكن الخطة تحتاج إلى قدر كبير من الحذر، تحسباً لغضب روسيا، ذات النفوذ الكبير في منطقة آسيا الوسطى.
كما تريد تركيا نقل نفط وغاز الشرق الأوسط وشرق المتوسط إلى أوروبا عبر أراضيها.
وقد تبيّن أن إتمام هدف تحويل تركيا لمركز لنقل الطاقة صعب للغاية؛ نظراً لأن الكثير من جوانبه تعتمد على الشؤون السياسية الإقليمية، إذ إن النزاعات القائمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية وإيران تُعرقل الأنشطة الاقتصادية الإقليمية، ويتعيّن على تركيا إيجاد طرق لحل هذا الجمود إذا كانت تريد تحويل نفسها إلى مركزٍ إقليمي للطاقة.
كما أن الخلافات حول ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط تعرقل خطط تحول تركيا لمركز لنقل غاز المتوسط لأوروبا، وفي الوقت ذاته قوة الأسطول التركي تمنع منافسي أنقرة من إيجاد بديل.
مصالح تركيا في آسيا تبدأ من القوقاز حيث تخوض منافسة مكتومة مع روسيا
يُعَدُّ الأذربيجانيون أكبر جماعة عرقية في منطقة القوقاز بفارقٍ كبير، وهم يتشاركون علاقات ثقافية وثيقة مع الأتراك.
وتقع أذربيجان على الساحل الغربي لبحر قزوين، تتمتع بمساحةٍ كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة، وهي بلد غني بموارد الطاقة من النفط والغاز.
إذا حصلت أي قوة كبرى على موطئ قدمٍ في أذربيجان فسوف تحظى بالقدرة على تقييد تحركات روسيا وإيران والوصول إلى موارد الطاقة الوفيرة في المنطقة.
تُمثل أذربيجان بوابة هذه الثروة والنفوذ بالنسبة لتركيا، لكن أنقرة ليس لديها طريق بري مباشر يربطها مع باكو، بل يجب أن يمر الطريق عبر جورجيا.
وتسعى تركيا وأذربيجان إلى إقامة ما يعرف بـ"ممر زانجيزور"، وهو ممر مقترح وفقاً للاتفاق بين أذربيجان وأرمينيا الذي عقد بوساطة روسيا.
ويفترض أن يربط هذا الممر بين أذربيجان وجمهورية ناختشيفان وهي إقليم أذربيجاني يتمتع بالحكم الذاتي، ولكنه مفصول عن بقية أراضي أذربيجان، بمنطقة أرمينية تدعى زانجيزور، كما أنه ملاصق لتركيا من جهة الغرب، ويعني إقامة هذا الممر ليس فقط السماح للاتصال بين أذربيجان وبقية أراضيها المفصولة عنها بوساطة الأراضي الأرمينية، بل يسمح ذلك بالربط المباشر بين أذربيجان وتركيا.
وتعمل تركيا على تثبيت أقدامها في القوقاز منذ انهيار الاتحاد السوفييتي بالتزامن مع سعي حكومتي تبليسي وباكو للإفلات من قبضة روسيا، وقد أسفرت علاقة المنفعة المتبادلة هذه عن عدد من مشروعات البنية التحتية والطاقة، التي عززت نفوذ تركيا في المنطقة بدرجةٍ كبيرة.
لكن موسكو لا تزال لها اليد العليا في القوقاز، رغم التقدم الذي أحرزته أنقرة لأنها تتحكم في مصير المناطق الانفصالية بجورجيا وأذربيجان، ويسمح هذا النفوذ للروس بإملاء شروطهم السياسية، ليعززوا بالتبعية من سيطرتهم على معابر القوقاز، لكن في حال تبدّل وضع روسيا يوماً من الأيام فسيكون من مصلحة تركيا أن تسيطر على ممري داريال ودربند الحيويين، في جبال القوقاز، ما سيمنح الأتراك أفضلية على الروس.
كما تسعى تركيا إلى تعزيز التجارة فيما تسميه الممر الآسيوي الأوسط، الذي يبدأ من الصين أكبر مصنع ومصدر في العالم، مروراً بكازاخستان، وقيرغيزستان وأوزبكستان، وتركمانستان في آسيا الوسطى، ليعبر بحر قزوين وصولاً إلى أذربيجان ومنها إلى جورجيا قبل أن يتصل بأوروبا عبر السكك الحديدية والموانئ التركية.
ويمكن إرجاع اسمه "الممر الأوسط" إلى أنه يسير في وسط القارة الآسيوية، متجنباً العبور عبر الأراضي الروسية في الشمال، في العقوبات الغربية على موسكو، وكذلك أراضي إيران التي تخضع لعقوبات أمريكية أسبق.
ما مدى نفوذ تركيا في البحر المتوسط؟
أما سلسلة الأهداف التركية الأخيرة في آسيا فتتمثل في تأمين أصول داخل البحر المتوسط، لكن المتوسط يختلف عن البحر الأسود، نظراً لعدم وجود نقاط ثابتة يمكنها قلب الموازين في شرق المتوسط.
ولكن هناك بعض المناطق الجديرة بالاهتمام مثل جزيرتي قبرص ورودس، ولا شك أن الوجود في الجزيرتين سيمنح الأتراك حمايةً أكبر لساحل الأناضول في مواجهة أي هجوم برمائي.
وتُعتبر قبرص تحديداً مُهمةً لأنها بمثابة مركزٍ يُقيد حركة المنطقة الأوسع.
إن الوجود المادي التركي في شمال الجزيرة يسمح لقواتها البحرية بحرية الوصول لشواطئ ساحل الشام.
وفي مقابل جزر اليونان المتعددة والمحيطة بتركيا، وقوة إسرائيل الجوية لدى تركيا ميزة، هي قدرتها على التحكم في الوصول بين البحر الأسود والمتوسط، وهو ما يجعلها شديدة الأهمية لحلف الناتو.
كما استثمرت تركيا بشكل كبير في القوات البحرية لمواجهة تفوق اليونان التاريخي في هذا المجال، وفي ضوء حقيقة أن جغرافيا الأناضول المنيعة وقوة الجيش التركي، وغياب حدود مشتركة مع روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، قللت من التهديدات العسكرية البرية على البلاد، ما أتاح الفرصة لإعطاء أولوية للقوة البحرية.
ويعتقد أن لدى تركيا أقوى سلاح بحرية في شرق المتوسط، وهي تصنع جزءاً كبيراً من سفنها الحربية وغواصاتها (أغلبها بالتعاون مع ألمانيا) وتسعى للاعتماد على نفسها بالكامل في هذا المجال، في ظل امتلاكها صناعة سفن مدنية كبيرة.
تقع تركيا بين الغرب والشرق، وبين الشمال والجنوب، ولهذا تؤثر النزاعات والأنشطة الإقليمية على تركيا عادةً، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ويقول تقرير مركز أسباب "لهذا لا تتمتع تركيا برفاهية عدم الاكتراث، بل يجب عليها أن تتبع سياسةً استباقية لتأمين أهدافها الجيوسياسية في الأناضول والقوقاز والمتوسط، ويجب على تركيا أن توسع وتُحدِّث قواتها الجوية والبرية، حتى تتعامل بشكلٍ فعال مع التحديات على جانبها الآسيوي، لكن يجب عليها أن تحذر من مطاردة أهداف تفوق قدراتها أيضاً.