يعتبر جهاز الأمن الوطني المصري حالياً، والذي كان يُطلق عليه في السابق جهاز أمن الدولة، ميراثاً مباشراً لمحاولات بريطانيا القضاء على حركات مناهضة الاستعمار، وذلك في حقبة 1919 وما بعدها.
تتبع كايل جاي أندرسون، الأستاذ المساعد في قسم التاريخ والفلسفة بجامعة ولاية نيويورك، أولد وستباري. في مقال لموقع Middle East Eye البريطاني جذور تأسيس الدولة البوليسية في مصر، والذي أشار إلى أنه أنشئ في عهد الاحتلال البريطاني.
واستهل أندرسون مقاله بالحديث عن الرغبة القوية التي تدفعه للمقارنة بين ثورة مصر عام 1919 وبين ثورة "الربيع العربي" عام 2011. حيث رسم العلماء السياسيون أوجه التشابه بينهما من ناحية دور الحركات الشبابية، ونشاط الشبكات المجتمعية، وتثبيت الدساتير الجديدة.
وبحسب المقال، فإن السلطات المصرية الحاكمة الآن قد ورثت وطوّرت آليات كالثورة المضادة والقمع، بعد إنشائها في الأصل على يد الدولة الاستعمارية البريطانية -رداً على الأشكال المتشددة من النشاط المناهض للاستعمار في سنوات ثورة 1919.
ومنذ عام 2013، قدّرت جماعات حقوق الإنسان اعتقال عشرات الآلاف من السجناء في مصر بواسطة رجال قسم الأمن الوطني بوزارة الداخلية، قبل إيداعهم سجن طرة سيئ السمعة، ومحاكمتهم أمام محاكم أمن الدولة بحسب أندرسون.
وذكر أندرسون أن الحكومة الاستعمارية البريطانية هي التي أسست أول جهاز لأمن الدولة في مصر عام 1911. كما كان الطبيب البريطاني هاري كروكشانك هو من حوّل المستشفى العسكري القديم في طرة إلى سجن للأشغال العامة.
الاغتيالات
أرجع أندرسون جذور جهاز أمن الدولة المصري إلى وقت الاستجابة البريطانية لاغتيال رئيس الوزراء بطرس غالي، في عام 1910. إذ كان منفذ الاغتيال، إبراهيم الورداني، من أبناء ضابط شرطة كبير متوفى في إحدى المحافظات.
واستخدم الورداني ميراثه لتمويل دراساته في لوزان، وباريس، ولندن. ثم سافر إلى جنيف وتعرف هناك على الزعيم القومي المصري محمد فريد. وعاد الورداني إلى مصر عام 1909، لينضم إلى الحزب الوطني الخاص بمحمد فريد، ثم يبدأ في ممارسة السياسة كمهنة بكل جدية، وفقاً لأندرسون. وانضم الورداني كذلك إلى تنظيم سياسي سري له علاقة بالحزب الوطني، ويُعرف باسم "جمعية التضامن الأخوي". حيث كان الورداني أمين صندوق التنظيم، ورأس لجنة الفدائي شبه العسكرية داخله.
ووقع الاختيار على بطرس غالي كهدفٍ للاغتيال؛ إذ كان غالي موظفاً خدم الحكومة الاستعمارية منذ وقتٍ طويل، وكان يشغل منصب رئيس الوزراء آنذاك بحسب المقال.
وحدث الاغتيال بعد ظهر الـ20 من فبراير/شباط عام 1910، أثناء صعود غالي إلى عربته بعد زيارةٍ لوزارة العدل. حيث استل الورداني مسدساً وأطلق على ظهره 6 رصاصات. واخترقت الرصاصة السادسة كبد رئيس الوزراء ومعدته، ليفارق الحياة في اليوم التالي.
ووصف أندرسون هذه الحادثة بأنها كانت أول حادثة اغتيال سياسي في تاريخ مصر الحديث، لكنها لن تكون الأخيرة.
جهاز أمن الدولة
لم يحاول الورداني الفرار بعد إطلاقه النار على غالي، حيث قبض عليه سائق غالي وحرس وزارة العدل، ثم أُرسِلَ إلى نيابة القاهرة للتحقيق معه. وخضع الورداني للتحقيق بواسطة 3 مجموعات من ضباط الشرطة، حيث استجوبته المجموعة الأولى مع الأشخاص المعروفين بارتباطهم به، بينما فحصت المجموعة الثانية أوراقه وأوراق شركائه، في ما اعتقلت المجموعة الثالثة الأشخاص المذكورين في تلك الوثائق للتحقيق معهم.
وجرت محاكمة الورداني مع 8 آخرين بعد التحقيقات، بينما اكتشف المحققون وجود "جمعية التضامن الأخوي"، لكن المحكمة برّأت الأعضاء الآخرين، لعدم وجود بنود تُجرِّم التآمر في القوانين المصرية آنذاك. وأدانت المحكمة الورداني نفسه، قبل إعدامه في 28 يونيو/حزيران.
ثم قرر المستشار البريطاني لوزارة الدفاع المصرية أن هناك حاجة لتشكيل مكتب خاص للاستخبارات السرية، وذلك من أجل جمع المعلومات عن التنظيمات السرية المصرية. وأوضح أندرسون أن الشرطة استُخدِمَت لتفريق الاحتجاجات المناهضة للاستعمار من قبل، لكنها كانت تحتاج لقوة تحريات حقيقية يمكنها مواجهة الحركات السرية المناهضة للاستعمار.
فصدرت التعليمات لحكمدار القاهرة جورج هارفي بتشكيل منظمة استخباراتية داخل الشرطة. وكان هارفي رجلاً عسكرياً شارك في معارك إخماد ثورة عرابي، وغزو الدولة المهدية في السودان. وذكر المؤرخ إليعازر تاوبر أن هارفي كان مؤمناً بأن "القوة يجب قتالها بقوةٍ أكبر منها". ولهذا استهدفت مجموعته الشباب المصري المنخرط في العمل السياسي، بحسب أندرسون.
الاستبداد البوليسي
استقدم هارفي محقق شرطة من بورسعيد يُدعى جورج فيليبيديس، لمساعدته في قيادة جهازه الاستخباراتي السري. وذكر أندرسون أن فيليبيديس كان مسيحياً من سوريا، وشكّل شبكةً من المخبرين بقيادة ضباط شرطة في ثيابٍ مدنية. وأعدّوا تقريراً يضم 26 من التنظيمات السرية في مصر. لكن تاوبر يرى أنهم كانوا يعانون من الارتباك عادةً، ويفسّرون الأسماء المتغيرة للتنظيمات على أنها منظمات مختلفة، فضلاً عن إخفاقهم في الإلمام بطبيعة العلاقات بين الجماعات الرئيسية والتابعة.
علاوةً على ذلك، أدت ممارسات البوليس السري الجديد إلى خلق بعض الحوافز الضارة من وجهة نظر أندرسون. إذ كانت المكافآت المالية تعني أن المخبرين يمكنهم تقديم تقارير لا تحتوي على أي حقائق، لمجرد الحصول على مبالغ كبيرة من المال. بينما استغل مخبرون آخرون حماسة الضباط المفرطة، وبدأوا في تغذيتهم بمعلومات كاذبة. وفي النهاية، أصبحت وحشية أساليب الاستجواب التي يتبعها البوليس السري معروفة، وادعى كثير من الشهود أنهم اعترفوا تحت تأثير التعذيب.
وتُعَدُّ "مؤامرة شبرا" خير مثالٍ يُثبت تأثير تلك الممارسات على سير التحقيقات في رأي أندرسون. ففي يوليو/تموز عام 1912، تلقت الشرطة تقريراً من شابٍ يزعم أنه متورط في مؤامرة. وأدى التحقيق إلى عملية مراقبة في حي شبرا بالقاهرة، حيث تنصتوا على المتآمرين الثلاثة وهم يناقشون خططهم لقتل رئيس الوزراء الجديد والقنصل العام البريطاني.
واعتقل البوليس السري محمد عبد السلام، أحد المتآمرين. فأنكر التهم الموجهة إليه لمدة 22 يوماً، قبل أن يعترف في النهاية. ووفقاً لملك البدراوي، "فقد انهار وبكى قائلاً إن الشرطة هددت زوجته بارتكاب أفعالٍ مروعة".
وعندما جرت المحاكمة في أغسطس/آب، استمرت شهادة فيليبيديس لأكثر من ساعةٍ كاملة. وأدانت المحكمة المتآمرين الثلاثة، الذين حُكِمَ على كل منهم بالسجن 15 عاماً. بينما أمضى "زعيم" المؤامرة المُفترض، إمام واكد، فترة سجنه في محجر سجن طرة.
وقد أُدين فيليبيديس بتهمة الرشوة بعد هذه القضية بأربع سنوات. بينما "ذكر مصدر موثوق أن فيليبيديس اعترف بعد الحكم عليه بأن الشرطة هي التي لفّقت تلك القضية"، وفقاً لملك البدراوي.
المخبر سيئ السمعة
كان لقب مخبر الشرطة الأسوأ سمعةً في ذلك العصر من نصيب محمد نجيب الهلباوي، بحسب أندرسون. حيث عمل الهلباوي في مدرسةٍ بالإسكندرية، وكان معروفاً لدى أجهزة الاستخبارات السرية بميوله القومية.
وتم حل فرع جمعية التضامن الأخوي في القاهرة بعد اغتيال غالي، لكن فرع الإسكندرية واصل أنشطته. وأوضح أندرسون أن جهود فرع الإسكندرية تحورت حول مساعدة الدولة السنوسية في ليبيا، وذلك في حربها ضد الإيطاليين.
لكن أحد قيادات فرع القاهرة قرّر إعادة التركيز على الاغتيالات كتحرُّكٍ سياسي، واندمج مع لجنة الإسكندرية بعد عودة من منفاه الاختياري عام 1914. وتمثّل هدفهم في اغتيال السلطان حسين كامل الذي قبل السلطنة في واقعةٍ مثيرةٍ للجدل، عندما أعلن البريطانيون الأحكام العرفية مع بداية الحرب العالمية الأولى. ووقع الاختيار على الهلباوي البالغ من العمر 24 عاماً لتنفيذ الاغتيال.
وبناءً عليه، تم استئجار شقة مطلة على الطريق الرئيسي المؤدي لقصر السلطان في رأس التين. وأثناء خروج السلطان لصلاة الجمعة في التاسع من يوليو/تموز عام 1915، أشعل الهلباوي فتيل قنبلة بسيجارةٍ كان يدخنها أمام النافذة. لكن السيجارة فشلت في إشعال الفتيل، ولم تنفجر القنبلة بعد أن ألقاها الهلباوي.
فبدأت الشرطة في استجواب الحشود الموجودة، بحسب أندرسون. وذكر عدة شهود عيان أنهم شاهدوا رجلاً يُلقي شيئاً ما من الطابق العلوي في إحدى البنايات.
ثم عُرِضَت مكافأة قدرها 500 جنيه لمن يُدلي بأي معلومات تؤدي لاعتقال الجناة. ونجحت الشرطة في القبض على تسعة أشخاص بنهاية أغسطس/آب، ومثل سبعة منهم أمام محكمة عسكرية خاصة انعقدت بموجب الأحكام العرفية. بينما ثبتت إدانة الهلباوي والشاب الآخر الذي استأجر الشقة فقط، وفقاً لأندرسون.
شاهد الدولة
أوضح أندرسون أن الشرطة عاملت المعتقلين معاملةً فظيعة؛ إذ تعرّض شريك الهلباوي للتجويع، وكان محتجزاً داخل زنزانة مظلمة ليس بها سوى بساط متسخ للاستلقاء عليه. وأعطوه دلواً يحتوي على ماء شبه مالح ليشرب منه، ودلواً أكثر اتساخاً ليقضي فيه حاجته. وقال إنه قضى 32 ساعة دون طعام ذات مرة. بينما مرض أحد المتهمين الآخرين، محمد عنايت، داخل السجن في تلك الفترة. ورغم الإفراج عنه في النهاية، لكنه توفي بسبب مرضه بعدها.
وواجه الهلباوي سجنه بثبات في البداية، لكنه لم يتلق أي زيارةٍ من أعضاء جمعية التضامن الأخوي داخل سجنه لفترة، فبدأ يُضمر لهم العداء، بحسب أندرسون.
وإثر الإفراج عنه في فبراير/شباط عام 1924، وبعد قضاء نحو 10 سنوات في الأشغال الشاقة بمحجر طرة، أقنعه حكمدار الشرطة توماس راسل بأن يتحول إلى شاهدٍ للدولة. فبدأ الهلباوي يتسكع مع دوائره القومية القديمة، وسمع أن شقيقي زميله القديم عنايت اشتهرا بفضل حملة اغتيالاتهما خلال الأيام العاصفة لثورة 1919.
ثم نفذ الأخوان عنايت عملية اغتيال السير لي ستاك في 19 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1924. وعندما نقل مسؤول الشرطة خبر الهجوم إلى الهلباوي، هرع الأخير إلى مقر الجمعية ليجد الأخوين عنايت يناقشان مآثرهما هناك.
وسرعان ما أُلقي القبض على الأخوين عنايت بناء على المعلومات التي قدمها الهلباوي، وأدت التحقيقات حول أنشطتهما إلى دق المسمار الأخير في نعش جمعية التضامن الأخوي عام 1926. وشهدت مصر فترة هدوء ملحوظ على مستوى الاغتيالات السياسية بعدها بحسب أندرسون.
إحلال المركزية في الدولة البوليسية
ذكر أندرسون أن التحقيقات في حملة اغتيالات عنايت بعد ثورة 1919 أدت إلى إعادة تنظيم أجهزة أمن الدولة والاستخبارات.
وحتى تلك الفترة، كانت كل مدينة وبلدة كبيرة تحتوي على رئيس شرطة خاص، وكان كل منهم يتصرف باستقلالية كبيرة ولديه فريقه الخاص من المحققين والمخبرين. ثم جرى تدشين قسم خاص جديد داخل وزارة الداخلية في فبراير/شباط عام 1920، من أجل إحلال المركزية في عملية جمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية الشرطية من جميع أنحاء البلاد.
وأعلن البريطانيون استقلال مصر أحادياً في فبراير/شباط عام 1922، لكنهم "احتفظوا" بحقهم في حماية الجاليات الأجنبية داخل مصر. وبهذا استمر المسؤولون البريطانيون في إدارة الاستخبارات السرية داخل البلاد. لكن أندرسون أفاد بأن اغتيال ستاك سلّط الضوء على أوجه قصور البوليس السياسي، مما أدى لإغلاق قسم الاستخبارات الخاصة في شرطة القاهرة عام 1925، ونقل ملفاته إلى وزارة الداخلية.
ولم يجر "تمصير" منظمة الاستخبارات السرية داخل وزارة الداخلية حتى توقيع المعاهدة البريطانية المصرية عام 1936. لكن عملية التمصير كانت تعني أن رؤساء الشرطة البريطانيين قد حلّ محلهم رجال من مصر نشأوا داخل المنظومة نفسها، من وجهة أندرسون.
واختتم أندرسون مقاله قائلاً إن إنهاء الاستعمار سيظل حلماً لم يتحقق داخل مصر، وذلك في غياب الإصلاحات الكاملة للدولة البوليسية، ودون علاجٍ لميولها الاستبدادية.