تمثل زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى روسيا الصداع الأكبر للولايات المتحدة على الأرجح، فالشراكة بين بكين وموسكو تعتبر تهديداً مباشراً لنظام القطب الواحد، أي للنظام العالمي الحالي الذي تهيمن عليه أمريكا.
وكان الزعيم الصيني قد قام بزيارة إلى روسيا استمرت ثلاثة أيام خلال الفترة من 20 إلى 22 مارس/آذار 2023. وتم الإعلان خلال الزيارة عن اتفاقيات عديدة للتعاون الاقتصادي بين بكين وموسكو، كما تعهدت موسكو بزيادة التجارة الدولية بالعملة الصينية "اليوان".
وفتحت تلك الاتفاقيات الباب على مصراعيه أمام الشركات الصينية لتحل محل الشركات الغربية التي غادرت روسيا منذ بداية الهجوم على أوكرانيا، والذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر".
صداقة شي وبوتين وشراكة الصين وروسيا
موقع أسباب المتخصص بالتحليل السياسي والاستراتيجي، نشر تحليلاً يرصد أهم أهداف ونتائج زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو واجتماعاته مع مضيفه الروسي، والاتفاقيات التي أعلن عن التوقيع عليها، والمآلات الأخيرة من وراء كل ذلك.
فزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ الأولى إلى روسيا منذ بداية حرب أوكرانيا تمثل حدثاً مفصلياً، ويبدو هذا واضحاً جلياً من الغضب الأمريكي المعلن من الزيارة ورفض واشنطن وساطة شي لإنهاء الحرب.
وعلى الرغم من أن شي ونظيره الروسي فلاديمير بوتين قد التقيا أكثر من 40 مرة خلال السنوات الماضية، إلا أن هذه الزيارة تحديداً واللقاءات التي جمعتهما تحمل دلالة خاصة للغاية بالنسبة للنظام العالمي الحالي.
وكان شي قد استبق زيارته إلى موسكو بخطوة غير تقليدية، حيث كتب مقالاً نشر باللغة الروسية بصحيفة روسيسكايا جازيتا اليومية، التي تصدرها الحكومة الروسية، فصل فيه رؤية بلاده، ليس فقط لكيفية إنهاء حرب أوكرانيا، ولكن أيضاً لنظام عالمي جديد. يأتي ذلك بعد أيام قليلة من الخطاب الذي ألقاه شي بمناسبة بداية فترة الولاية الثالثة لرئاسته، والتي شهدت تحولاً جذرياً في قوة الصين ومكانتها على الساحة العالمية، ووُصف خطاب شي بأنه خطاب يليق بقوة عظمى، اختص فيه الولايات المتحدة – دون أن يسميها – بالنصيب الأكبر من الانتقادات.
وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية قد أكد أن زيارة شي إلى روسيا تهدف إلى تعزيز السلام العالمي، في إشارة إلى أن خطة السلام الصينية بخصوص حرب أوكرانيا كانت محل نقاش بين الزعيمين.
كما وصف شي في مقاله الزيارة بأنها "رحلة صداقة وتعاون وسلام"، مضيفاً: "أتطلع إلى العمل مع الرئيس بوتين لنعتمد معاً رؤية جديدة" للعلاقات الثنائية. وأعلن الكرملين أن الرئيس الصيني ونظيره الروسي بحثا الخطة التي اقترحتها بكين لتسوية النزاع في أوكرانيا.
التحدي الذي تواجهه الصين
لكن بشكل عام وبعيداً عن التصريحات المعلنة، فإن الصين تواجه تحدياً جوهرياً في تحقيق توازن بين فوائد تعزيز شراكتها مع روسيا ومخاوف تقويض علاقاتها ومصالحها مع الغرب.
فالصين تحتاج إلى توثيق شراكتها الاستراتيجية مع موسكو، في إطار سعيهما المشترك لإنهاء نظام القطب الواحد، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة ومعسكرها الغربي، كما ترغب بكين في تأمين إمدادات الطاقة وإيجاد مسارات بديلة عن النفط المنقول بحراً والقادم من الشرق الأوسط والذي قد يتوقف في حال تصاعد التوتر بين بكين وواشنطن حول تايوان.
وقد انعكست هذه النقطة بشكل واضح مع زيادة إمدادات النفط الروسي إلى الصين في العام الماضي 44%، وزيادة إمدادات الغاز الروسي بأكثر من الضعف، لكن في المقابل؛ تسعى بكين إلى الحفاظ على علاقاتها مع شركائها التجاريين الأكبر في أوروبا، خاصة بعد أن تسببت سياسات الإغلاق المشددة المتعلقة بفيروس كورونا في تعثر الاقتصاد الصيني العام الماضي.
وفي الوقت نفسه، فإن زيارة شي إلى موسكو بعد أيام من توليه لفترة رئاسة ثالثة للصين دليل بارز على التزام الصين بدعم روسيا دبلوماسياً واقتصادياً في مواجهة الاصطفاف الغربي ضدها منذ بدء الحرب في أوكرانيا، ومع ذلك لا تزال الصين حذرة بشأن التكاليف المحتملة لتعزيز شراكتها مع روسيا والتي يمكن أن تلحق الضرر بمصالحها الاقتصادية الحيوية.
إذ قدم الرئيس الصيني ضمنياً دعماً سياسياً ومعنوياً للرئيس الروسي بوتين بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق الأخير. كانت المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت مذكرة اعتقال بحق الزعيم الروسي على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم حرب بحق أطفال أوكرانيا، وإن كانت المذكرة لا تحمل ثقلاً قانونياً أو سياسياً بطبيعة الحال، كون الدول الكبرى لا تعترف بالمحكمة من الأساس.
كما قدم شي لبوتين دعماً اقتصادياً يرتكز على تعميق الروابط التجارية، لكن الرئيس الصيني لم يعد بتقديم أي مساعدات عسكرية لروسيا، التي تسعى لتغطية احتياجها العسكرية لمواجهة تدفقات الأسلحة الغربية المتطورة للجيش الأوكراني.
وفي هذا السياق، كانت واشنطن قد زعمت في وقت سابق من العام الجاري أن بكين تقدم أسلحة فتاكة تساعد روسيا في ساحة الحرب في أوكرانيا، لكن بكين نفت تلك الادعاءات واعتبرتها معلومات مضللة، وتراجعت واشنطن عن تلك الاتهامات على ما يبدو بعد الفشل في تقديم أدلة تدعمها.
أما بالنسبة لصفقة خط أنابيب غاز "قوة سيبيريا-2" (Power of Siberia-2)، الذي تنتظر روسيا أن يمنحها بديلاً لإعادة توجيه صادرات الغاز من أوروبا إلى آسيا، فقد جاء البيان الختامي لقمة بوتسن وشي خالياً من أي تأكيد على التوصل لاتفاق نهائي بشأن خط الغاز، وهو الأمر الذي يتوافق مع سياسة بكين الحذرة في إبرام عقود طاقة طويلة الأجل.
الصين وروسيا وإنهاء نظام القطب الواحد
كما تأتي زيارة شي إلى روسيا في إطار رغبة بكين في إعطاء دفعة جديدة لخطتها للسلام بين روسيا وأوكرانيا، والتي كانت قد أعلنتها في فبراير/شباط الماضي دون أن تجد استجابة أو رد فعل إيجابياً من جانب الغرب.
لكن النجاح الدبلوماسي اللافت الذي حققته الصين مؤخراً من خلال توقيع اتفاقية استعادة العلاقات بين السعودية وإيران في العاصمة بكين، أظهر الصين كقوة دبلوماسية مهمة في منطقة كانت تعتبر نطاق هيمنة دبلوماسية أمريكية منذ نهاية الحرب الباردة.
لكن على الرغم من أن بعض الدبلوماسيين الأمريكيين المخضرمين ينظرون إلى الصين "كصانع سلام محتمل في أوكرانيا"، إلا أن النجاح الذي حققته الدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط ليس من السهل تكراره في أوكرانيا.
فالولايات المتحدة من المستحيل أن تقبل بأمر كهذا، وهو ما اتضح تماماً من الرفض الأمريكي المسبق حتى لمناقشة المقترح الصيني للسلام في أوكرانيا، كما أن الغرب ينظر إلى الصين على أنها تفتقر إلى مكانة الوسيط المحايد في الحرب الأوكرانية بسبب دعمها الواضح لروسيا، كما أن بكين كانت بعيدة عن جهود الوساطة الجادة منذ بداية الحرب.
يعد تعزيز الشراكة مع بكين جزءاً أساسياً من استراتيجية موسكو لكسر العزلة الدولية التي يفرضها الغرب، وتوفير غطاء دبلوماسي لمواصلة الحرب في أوكرانيا. وترى موسكو أن تنامي العلاقات الاقتصادية مع بكين، والتي حققت مستويات قياسية العام الماضي؛ حيث بلغت التجارة الثنائية 190 مليار دولار، بمثابة شريان الحياة الذي يعوض روسيا عن بعض مبيعات النفط والغاز الطبيعي المفقودة بسبب العقوبات الغربية.
وإضافة إلى ذلك، فإن روسيا تنتظر من الصين توفير بدائل للمكونات الغربية المحظورة والمهمة للآلة العسكرية الروسية مثل أشباه الموصلات ومعدات الجيل الخامس، أي إن العقوبات الغربية تزيد من اعتماد موسكو على بكين وتعمق النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي للأخيرة في روسيا؛ مما سيؤدي إلى استمرار اتساع الخلل في ميزان العلاقة الثنائية لصالح الصين.
لكن في كل الأحوال تمثل الشراكة والتحالف بين الصين وروسيا تهديداً مباشراً لنظام القطب الأوحد، الذي يسيطر على العالم منذ نهاية الحرب الباردة قبل أكثر من نصف قرن، وقد عبرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن عن هذا الأمر بالفعل، حيث اتهمت بكين وواشنطن بالعمل على زعزعة النظام العالمي.
وعلى الرغم من أن العالم يتخبط في مواجهة أزمة تلو الأخرى، بداية من التغير المناخي وديون الدول النامية وجائحة كوفيد-19، بخلاف الحرب الأوكرانية وأزمة تايوان، في مؤشرات على ترنح النظام العالمي، إلا أن إدارة بايدن لا يبدو أنها تريد إحداث أي تغييرات في هذا النظام.
وفي هذا السياق، كانت مجلة Foreign Affairs الأمريكية قد نشرت تحليلاً عنوانه "لا أحد يريد النظام العالمي الحالي"، رصد أسباب الفشل النابعة من حقيقة أنَّ الكثير من الدول لم تعُد ملتزمة بالحفاظ على النظام العالمي الحالي، بما في ذلك تلك الدول المؤسسة له.
ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية عاش العالم في ظل نظامين، الأول هو نظام عالم الحرب الباردة ثنائي القطبية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، والذي لم يكن مهتماً إطلاقاً بكيفية إدارة الدول لشؤونها الداخلية. أما بعد الحرب الباردة فقد سقط النظام ثنائي القطبية، وهيمنت الليبرالية الجديدة ليتشكَّل النظام العالمي الليبرالي الحالي أحادي القطبية، الذي تقوده الولايات المتحدة ويتجاهل السيادة الوطنية والحدود، كلما احتاجت واشنطن إلى فعل ذلك.
لكن التقارب الشديد بين الصين بزعامة شي وروسيا بزعامة بوتين يزعج واشنطن بشدة، وكان أحد أهداف بايدن يتمثل في محاولة منع التحالف بين بكين وموسكو، لكنه فشل فشلاً ذريعاً، بحسب تقرير لمجلة Politico الأمريكية في صيف عام 2021، سلّط الضوء على مخاوف بايدن مما قد ينتج عن "علاقة الصداقة بين بوتين وشي" إذا ما حدث تحالف كامل بين بكين وموسكو، ورصد كيف أن مستشاري بايدن قدموا له تقارير استخباراتية تفصيلية حول طبيعة العلاقة بين روسيا والصين، كجزء من الاستعداد لقمة الرئيس الأمريكي مع بوتين في جنيف، في يونيو/حزيران 2021.
فعلى الرغم من أن العقود الطويلة من العداء، الذي وصل إلى حد الحرب، كانت عنواناً للعلاقة بين روسيا والصين، إلا أن العلاقات بين العملاقين الشيوعيين تطورت تطوراً هائلاً في ظل رئاسة بوتين وشي؛ حتى وصلت إلى هذا التحالف الاستراتيجي، الذي كان بايدن يتمنى ويسعى إلى إفشاله.