تحولت منطقة الساحل الإفريقي إلى ساحة ملتهبة للصراع بين القوى الكبرى، فماذا بعد أن حوّلت أمريكا ما تصفها بأنها "مكافحة الإرهاب" إلى التصدي لنفوذ روسيا والصين؟
كانت إدارة الرئيس جو بايدن قد تجاهلت إفريقيا بشكل كامل منذ تولي المسؤولية، في 20 يناير/كانون الثاني 2021، لدرجة أنه على مدى 9 أشهر كاملة لم يقم أي من كبار مسؤولي السياسة الخارجية في الإدارة بأي زيارة للقارة السمراء، إذ ركزوا على زيارة الحلفاء الأوروبيين ودول جنوب شرق آسيا، التي أصبحت أساسية في المنافسة بين أمريكا والصين.
لكن الأمور تغيرت تدريجياً، وقام وزير الخارجية الأمريكي، توني بلينكن، بعدة زيارات إلى إفريقيا، كانت إحداها في أغسطس/آب الماضي، حين أعلن عن استراتيجية أمريكية جديدة للقارة السمراء، تركز على الأهمية المتزايدة عالمياً لإفريقيا.
وعقدت إدارة بايدن القمة الأمريكية الإفريقية في واشنطن، التي شهدت تقديم وعود ضخمة لقادة إفريقيا، مالية وسياسية، رغم تشكيك البعض في مدى التزام واشنطن بالتنفيذ، بسبب أن الهدف الرئيسي هو إزاحة الصين التي تتمتع بأفضلية واضحة داخل القارة السمراء.
من مكافحة "الإرهاب" إلى صراع القوى الكبرى
وفي هذا السياق، تناول موقع Responsible Statecraft الأمريكي كيف انتقلت الولايات المتحدة من مكافحة الإرهاب إلى منافسة القوى الكبرى في منطقة الساحل، حيث عملت واشنطن على عدة جبهات مؤخراً، من أجل التصدي للنفوذ الروسي المتنامي في المنطقة الإفريقية.
وأفادت تقارير بأنَّ مسؤولين أمريكيين، في فبراير/شباط الماضي، شاركوا معلومات استخباراتية مع تشاد، تزعم أنَّ مرتزقة مجموعة فاغنر المرتبطة بالكرملين يتآمرون للإطاحة بالحكومة الانتقالية في تشاد، بل وحتى لاغتيال الرئيس. وقارن تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية بين نهج الإدارة تجاه تشاد- ليس فقط مشاركة المعلومات الاستخباراتية بل أيضاً تسريبها- مع نهج إدارة جو بايدن تجاه أوكرانيا خلال الفترة السابقة على الهجوم الروسي، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر".
ويوم 16 مارس/آذار 2023، زار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن النيجر، وأعلن عن مساعدات إنسانية مباشرة جديدة بقيمة 150 مليون دولار لمنطقة الساحل. وحذَّر بلينكن قائلاً: "رأينا بلداناً تجد نفسها أضعف وأفقر وأقل أمناً واستقلالية نتيجة الارتباط بفاغنر". وفي أعقاب زيارة بلينكن، كانت هناك جولة أخرى من التعليقات في الولايات المتحدة بشأن "حرب باردة جديدة" في إفريقيا.
لكن في الوقت الذي تحاول الولايات المتحدة فيه التصدي للنفوذ الروسي، يبدو أنَّ الاستراتيجية الرئيسية للإدارة هي إعادة توظيف علاقات "الحرب على الإرهاب"، في علاقات تتكيَّف مع "الحرب الباردة الجديدة". يتضمَّن هذا النهج استمرار اختيار التستُّر على العناصر غير الديمقراطية في النظام السياسي في النيجر، والخصائص السلطوية السافرة في النظام السياسي في تشاد، غير أنَّ تجاهل تلك المشكلات أو التقليل من أهميتها يهدد بتعزيز هشاشة تلك البلدان، وهي نفسها الهشاشة التي تجعلها أهدافاً جاذبة لروسيا وفاغنر، بحسب تحليل الموقع الأمريكي.
كانت النيجر وتشاد حتى الآن أسيرتين للولايات المتحدة منذ عقد من الزمن، ففي النيجر، جعل الرئيسان محمدو إيسوفو (في السلطة من 2011 إلى 2021)، ومحمد بازوم (من 2021 إلى الآن) بلديهما شريكاً متحمِّساً، بل وحتى طيِّعاً لواشنطن وباريس وبروكسل وبرلين.
فعمل قادة النيجر مع القوى الغربية بشأن مسائل تتراوح من استضافة قواعد للطائرات دون طيار وقوات، وصولاً إلى قمع الهجرة غير النظامية، وحصدوا مكافآتهم من حيث الإعانات التنموية والمساعدات الأمنية والزيارات رفيعة المستوى وغيرها. وعلى سبيل المثال، تُعَد النيجر مُتلقِّياً رئيسياً للتمويل من "مؤسسة تحدي الألفية" (Millennium Challenge Corporation) الأمريكية.
ويبدو أيضاً أنَّ حكام النيجر يفهمون جيداً أنَّهم يمكنهم أن يَبرزوا في منطقة مليئة بالمستبدين غير المحبوبين، والسياسيين المدنيين غير الأكفاء، ومؤخراً الجنرالات الطموحين، من خلال تقديم صورة للقيادة الديمقراطية ذات الكفاءة. وأثبتت تلك الصورة أنَّها مغرية للمسؤولين الغربيين، فكان بلينكن فقط الأخير ضمن سلسلة من المسؤولين الغربيين الذين يشيدون بالنيجر، باعتبارها "نموذجاً للمرونة، ونموذجاً للديمقراطية، ونموذجاً للتعاون".
ما فرص نجاح استراتيجية أمريكا الجديدة؟
لكن ذلك التأطير يتغاضى عن بعض الحقائق المزعجة، بدايةً من إعادة انتخاب إيسوفو في 2016 بنسبة 92.5% من الناخبين، في حين أمضى خصمه الرئيسي فترة الحملة الانتخابية قيد الاحتجاز. وكلما تقبَّلت واشنطن وباريس وغيرهما نوعاً من الديمقراطية السطحية في النيجر، في حين تتغاضى عن الأنماط الإشكالية الكامنة تحت السطح (مثل الفساد، وقمع حرية التعبير، ووحشية قوات الأمن)، زادت الحكومات الغربية المخاطرة بتشجيع وضع تصبح فيه السلطات في النيجر غير منسجمة مع المشاعر الشعبية على نحوٍ خطير.
وفي تشاد، قدَّم الرئيس إدريس ديبي (في السلطة من 1990 إلى 2021) نفسه كضامن للأمن الإقليمي. أتاح ديبي قواته للمهمات القتالية الخطيرة، بما في ذلك إلى جانب الفرنسيين خلال العملية "سيرفال" في مالي عام 2013، وفي حوض بحيرة تشاد في مهمة لدحر جماعة بوكو حرام عام 2015. وعلى عكس نظرائه في النيجر، لم يبذل ديبي مجهوداً كبيراً للتظاهر بكونه ديمقراطياً، فكان يفوز في الانتخابات بفوارق كبيرة، وكان يُرهب خصومه علانيةً.
وبعدما قُتِلَ ديبي في معركة ضد المتمردين، نظَّم ابنه محمد والعديد من العالمين ببواطن الأمور في النظام انقلاب قصر من نوعٍ ما، فخالفوا الدستور التشادي وأقاموا نظاماً عسكرياً. ونظراً لمكانة تشاد الخاصة باعتبارها حليفاً عسكرياً لباريس وواشنطن، ونظراً لشبكة العلاقات التي صاغها ديبي بعناية مع الاتحاد الإفريقي والقادة الآخرين، عُومِل انقلاب تشاد بصورة مختلفة للغاية عن الانقلابات التي شهدتها مالي (في 2020 و2021)، وبوركينا فاسو (مرتين في 2022)، وغينيا (2021).
أشادت القوى الغربية بمحاولة ديبي الابن عقد سلام مع المجموعات المتمردة المسلحة العديدة في البلاد، وتجاوزت بسرعة القرارات الأكثر إشكالية للسلطات الانتقالية، مثل مد الفترة الانتقالية بصورة أحادية، في أكتوبر/تشرين الأول 2022، ثُمَّ فتح النيران على النشطاء الداعمين للديمقراطية الذين احتجوا على القرار.
بالتالي، تُعَد الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة روسيا في منطقة الساحل، وفي الواقع في أرجاء إفريقيا، استراتيجية من الأعلى إلى الأسفل، إذ تعتمد على اجتذاب حكام بعضٍ من أكثر بلدان العالم هشاشة.
ويعتمد هذا النهج من الأعلى إلى الأسفل، على فرضية أنَّه بإمكان هؤلاء القادة السيطرة على الضغوط الخطيرة داخل مجتمعاتهم. ويبدو أنَّ المسؤولين الأمريكيين ليس لديهم الكثير ليقولوه للمواطنين الأفارقة، وفي الواقع، تبدو واشنطن غير متعاطفة للغاية مع المواطنين الأفارقة المستائين من فرنسا، ولديهم فضول حيال روسيا، أو داعمون صريحون لموسكو و/أو فاغنر.
فبالنسبة للمعلقين في واشنطن، تبني روسيا نفوذاً في إفريقيا من خلال مزيج من تدعيم الديكتاتوريين ونشر الدعاية، ولا يترك هذا التحليل، والذي يبدو أنَّه يعكس تفكير إدارة بايدن ويؤثر عليه، مجالاً كبيراً للنظر في الكيفية التي قد ينظر بها الأفارقة العاديون لفرنسا، أو حتى للولايات المتحدة.
تنجح استراتيجية الاعتماد على شركاء من النخب القليلة المختارة في تعزيز الأولويات الاستراتيجية إلى أن تفقد نجاحها، وكان ذلك هو المصير الذي حلَّ بفرنسا في مالي، حيث تمتَّعت ببيئة متساهلة نسبياً في عهد الرئيس المدني إبراهيم أبو بكر كايتا، حتى أطاح به انقلاب في 2020.
المنافسة على إفريقيا تشتعل بين القوى الكبرى
على أية حال، تُصعِّد إدارة الرئيس جو بايدن حملتها لبناء النفوذ الأمريكي في إفريقيا، حيث تراجعت الولايات المتحدة لصالح منافسيها الرئيسيين فيما بدأ يبدو وكأنَّه حرب باردة جددة، بحسب تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
إذ ستصبح نائبة الرئيس، كامالا هاريس، الأسبوع القادم، أحدث مسؤول أمريكي كبير يزور القارة، ومن المقرر أن تحط في غانا وتنزانيا وزامبيا. وتأتي حملة الانخراط مع القارة الغنية بالمعادن في وقتٍ تُضعضِع فيه الحرب الروسية في أوكرانيا- والمواجهة المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين- الدبلوماسية العالمية. ويسعى كلا الطرفين لاستمالة البلدان غير المنحازة في مناطق مثل إفريقيا.
فقد أثار المسؤولون الأمريكيون مسألة الحرب الأوكرانية مع القادة الأفارقة، وشجَّعوهم على دعم كييف، ولو أنَّ الكثير من الحكومات الإفريقية اختارت أن تبقى محايدة، ولبعضها علاقات طويلة الأمد مع روسيا تشمل مشتريات سلاح.
ويُرجَّح أن يكون مبعث القلق الأكبر لهاريس وزملائها في الإدارة هو التنافس الاقتصادي مع الصين، التي تُعَد أكبر شريك لإفريقيا بفارق كبير، ومن المنتظر أن تتجاوز التجارة 260 مليار دولار هذا العام.
يتضمَّن التنافس الأمريكي الصيني سباقاً لتأمين المعادن الضرورية للطاقة الخضراء- تملك إفريقيا بعضاً من أكبر الإمدادات في العالم- ونزاعاً حول الإعفاء من الديون، مع تصاعُد الأعباء على الدول الفقيرة، جنباً إلى جنب مع معدلات الفائدة. وأسهم الإقراض الصيني لإفريقيا، في تلك البلدان، بتنمية وبناء البنية التحتية. ويلفت القادة الأمريكيون الانتباه إلى الفائدة الباهظة على المقترضين، والصعوبة التي يواجهونها في السداد لبكين.
أحد الأمثلة على ذلك هو تركيز الولايات المتحدة على الترويج للديمقراطية- تعهَّدت مؤخراً بتقديم 165 مليون دولار لدعم الانتخابات النزيهة في إفريقيا- جنباً إلى جنب مع التحذيرات بشأن الدور المزعزع للاستقرار لمجموعة فاغنر الروسية، التي تنشط في بلدان بينها مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى، لكن تواجه الحملة الأمريكية علاقات مُتجذِّرة، فبلدان مثل مصر والمغرب لديها علاقات تجارية وثيقة مع روسيا. وسمحت جنوب إفريقيا للسفن الحربية الروسية والصينية بإجراء مناورات في مياهها.
مثال آخر على ذلك هي دبلوماسية الديون، فرحلة هاريس تشمل زامبيا وغانا، اللتين عجزتا عن سداد الديون منذ انتشرت الجائحة، وتسعيان لإعادة هيكلتها. وتعبِّر الولايات المتحدة وحلفاؤها منذ أشهر عن استيائها من موقف بكين بشأن اتفاقات الإعفاء من الديون لبعضٍ من أفقر بلدان العالم. وعلَّقت الصين، وهي أكبر مُقرِض للبلدان النامية على مستوى العالم، العملية في العديد من البلدان، خشية أن تُشكِّل سابقة من خلال تقديم تخفيضات مباشرة على قروضها.
ولا تتقبَّل البلدان الإفريقية، شأنها شأن الكثير من البلدان الناشئة الأخرى في الشرق الأوسط وآسيا وأمريكا اللاتينية، نهج "معنا أو ضدنا". وقد يؤدي الانحياز إلى طرف إلى انتكاسة للجهود المبذولة لتطوير اقتصاداتها، وتُفضِّل ممارسة الأعمال مع كل من معسكرَي القوى العظمى.
ووفقاً لمسؤول بإدارة بايدن، يدرك القادة الأفارقة الجانب السلبي للاقتراض من الصين، ويتقبَّلون ما تعرضه واشنطن. وقال المسؤول لبلومبرغ إنَّ الولايات المتحدة والصين ليستا وحدهما الساعيتين لبناء النفوذ في إفريقيا، مشيراً إلى قوى أخرى مثل الهند وتركيا والسعودية، التي تريد تعزيز انخراطها هناك.