بعد تسع سنوات من البحث المتواصل، نشرت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي (Giec) تقريرها، الذي حمل اسم "دليل إرشادي لبقاء البشرية"، التابع للأمم المتحدة، حيث قالت لجنة العلماء المشرفين على البحث بأن البشرية ما زالت لديها فرصة، قريبة من الأخيرة، لمنع أسوأ أضرار تغير المناخ في المستقبل. ودعت الهيئة العالم إلى تحرك سريع لمواجهة التحديات المتفاقمة لهذه الظاهرة. ويبدو أن إمكانية إبقاء الاحترار المناخي العالمي تحت عتبة 1.5 درجة مئوية تتضاءل، رغم ذلك يؤكد الخبراء أن "كل عُشر درجة مهم" في هذه المعركة.
احترار مناخي بـ1,5 درجة مئوية في 2030
حذّر خبراء الهيئة من أن الاحترار العالمي الناجم عن النشاط البشري سيصل إلى 1,5 درجة مئوية، مقارنة بعصر ما قبل الثورة الصناعية، اعتباراً من السنوات 2030-2035.
وهذا التوقع صالح في كل السيناريوهات تقريباً لانبعاثات الغازات الدفيئة الناجمة عن النشاط البشري على المدى القصير، مع اعتبار تراكمها خلال القرن ونصف القرن الماضي.
ستكون انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناجمة عن البنى التحتية الأحفورية الموجودة كافية في حدّ ذاتها لدفع العالم نحو احترار بـ1,5 درجة مئوية، ما لم تكن مجهزة بوسائل التقاط.
وجاء في التقرير أن "تخفيضات عميقة وسريعة للانبعاثات من شأنها أن تؤدي إلى تباطؤ واضح في ظاهرة احترار المناخ في حوالي عقدين". وقال رئيس اللجنة هوسونغ لي: "يسلّط هذا التقرير الضوء على الضرورة الملحة لاتخاذ إجراءات أكثر طموحاً، ويظهر أنه إذا تحركنا الآن، فما زال بإمكاننا ضمان مستقبل قابل للعيش للجميع".
"البشرية تمشي على طبقة رقيقة من الجليد"
الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، حذّر، الإثنين، من أن "البشرية تمشي على طبقة رقيقة من الجليد الذي يذوب بسرعة". حتى إن هذا الجليد يذوب بوتيرة أسرع من معدل تسارع الاحتباس الحراري نفسه.
فيما نقلت وكالة AP الأمريكية عن مؤلفة التقرير وعالمة المياه، أديتي موخيرجي قولها: "نحن لسنا على المسار الصحيح، ولكن الوقت لم يفت بعد.. نيتنا هي في الحقيقة رسالة أمل، وليست رسالة يوم القيامة".
في السياق، يذكر وولفغانغ كرامر، مدير الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا (CNRS) بالمعهد المتوسطي للتنوع البيولوجي البحري والقاري، أنه "منذ اتفاقات باريس عام 2015، كان الهدف المعلن للدول هو الحفاظ على الاحترار المناخي أقل بكثير من درجتين مئويتين، مقارنة بعصر ما قبل الصناعي، وبتكثيف الجهود لتقييده عند 1.5 درجة مئوية". مضيفاً: "أعطى ذلك أفقاً مستقبلياً وهدفاً محدداً للسياسات المناخية".
ويضيف الخبير لوكالة فرانس برس، والذي كان أحد المؤلفين الرئيسيين لتقرير سابق للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، نُشر في فبراير/شباط 2022: "اليوم، وبالنظر إلى المسارات المختلفة المحتملة والجهود الضئيلة المتخذة من قبل الحكومات، يبدو من الصعب جداً تحقيق هذا الهدف الثاني".
أرقام كارثية.. لكن لا يجب الاستسلام
بلغة الأرقام، وحسب ما ورد في الملخص البحثي الجديد، فإن فرص الحفاظ على الاحترار العالمي عند 1.5 درجة مئوية، هي مرهونة بتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري بحوالي 45% بحلول 2030 مقارنة باليوم. سيتوقف هذا على تحقيق نسبة انخفاض سنوية مماثلة لما حدث عام 2020 في خضم جائحة فيروس كورونا، عندما كانت الاقتصادات متوقفة في جميع أنحاء العالم.
كان ذلك بمثابة الانخفاض الهائل، لكن في المقابل يبدو أن سكان الكوكب اليوم قد اتخذوا مساراً معاكساً. فوفقاً لهيئة (Giec)، نحن نتجه على كل حال نحو احترار مناخي مقدر بـ2.5 درجة مئوية بحلول نهاية القرن، في حال تم احترام الوعود التي قطعتها الدول، أو بحوالي 2.8 درجة مئوية، إن استمرت تلك الدول في اتباع نفس السياسات الحالية.
رغم كل ذلك، يُجمع الخبراء على أنه لا ينبغي الاستسلام. يوضح وولفغانغ كرامر في هذا الصدد: "لأن ما نقوم به حالياً سيحدد أيضاً حجم التغير المناخي على المدى الطويل". ويرى عالم البيئة بأن "الهدف، دائماً، هو التوصل إلى إبقاء (الاحترار) عند أدنى مستوى ممكن".
يضيف المتحدث: "على أي حال، كان هذا الهدف (2.5 درجة مئوية) مبالغاً فيه، مع ما نراه اليوم: نحن بالفعل عند 1.2 درجة مئوية من الاحترار، ونواجه عواقب تفاقم موجات الحرارة، الجفاف، والفيضانات".
حمّى شديدة تصيب الأرض
لفهم أهمية هذه التباينات الإضافية في درجات الحرارة، يقارن الخبير الأرض بالإنسان الذي يعاني من الحمى. فمن المعتاد أن تكون درجة حرارة الجسم 37 درجة مئوية، لو أضفنا درجة مئوية واحدة فقط لحرارة هذا الشخص، فإنه سيعاني وسيصاب بصداع خفيف. ولو رفعنا حرارته درجتين مئويتين إضافيتين، سيعاني أكثر. لكن عند 3 درجات مئوية إضافية، يمكن أن تصبح حالته خطيرة، خاصة إذا كانت مناعة هذا الشخص ضعيفة.
ينطبق هذا المثال على كوكبنا. لفهم ذلك، يشرح كرامر: "لن تكون العواقب هي نفسها عند بلوغ كل درجة مئوية، وكذلك في الأجزاء المختلفة من العالم. فبالنسبة للفئات الهشة، ستكون العواقب أكبر بكثير من تلك التي يتعرض لها الأشخاص الذين هم في وضع أحسن". يضيف الخبير البيئي: "درجة 1.5 مئوية ستكون دائماً أفضل من 1.6 درجة، والتي ستكون بدورها دائماً أفضل من 1.7 درجة مئوية. كل عُشر درجة مهم".
من جهته، قال المؤلف المشارك بالتقرير الأممي فرانسيس إكس جونسون، عالم المناخ والأراضي والسياسات في معهد ستوكهولم للبيئة، إنه بعد 1.5 درجة "بدأت المخاطر تتراكم". يذكر التقرير "نقاط التحول" حول درجة حرارة انقراض الأنواع، بما في ذلك الشعاب المرجانية، وذوبان الصفائح الجليدية التي لا رجعة فيها، وارتفاع مستوى سطح البحر لعدة أمتار.
التهديد الأكبر يتربّص بالتنوع البيولوجي
عواقب هذه "الحمى" التي تحيط بالكوكب وتهدد سكانه هي عديدة، لعل من أبرزها انقراض التنوع البيولوجي. ويقول كميل بارسيسان، مدير الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا (CNRS): "لاحظنا اختفاء 92 نوعاً من البرمائيات التي قُتلت بسبب تكاثر الفطريات. لدينا الدليل على أن هذه الأخيرة قد تطورت لأن تغير المناخ، قد عدّل النظم البيئية وجعلها توفر ظروفاً مواتية" لانتشار الفطريات. هناك أيضاً مثال صارخ آخر يتمثل في الشعاب المرجانية، فعند درجة 1.5 مئوية يمكن أن يختفي ما بين 70 إلى 90% منها، يرتفع هذا الرقم عند 2 درجة مئوية ليبلغ 99%.
اليوم، ووفقاً لهيئة خبراء التنوع البيولوجي التابعة للأمم المتحدة IPBES، فقد بات لدينا أكثر من مليون من الأصناف مهددة بالانقراض وأن "تغير المناخ في طريقه ليكون أبرز تهديد لها". يضيف الخبراء الأمميين في تقريرهم الذي نُشر في 2021، بأنه "كلما استفحل (التغير المناخي)، ازداد اضطراب النظم البيئية، مع ما يترتب عليه من عواقب على الحيوانات والنباتات".
ظواهر جوية متفاقمة وأكثر تطرفاً من السابق
يتابع الخبير البيئي، وولفغانغ كرامر، بأن "كل درجة مئوية إضافية ستؤدي أيضاً إلى تفاقم الظواهر الجوية وزيادة حدتها". ويشدد كرامر: "مع مزيد من التداعيات ستطال 3.3 مليار شخص يعيشون في المناطق المعرضة للخطر".
ويعمل بعض العلماء منذ بضع سنوات على "علم الإسناد" الذي يهدف إلى دراسة الروابط بين ظواهر الطقس المتطرفة وبين تغير المناخ. من خلال عملهم، أكد العلماء على أن موجات القيظ، الفيضانات أو الأعاصير تزداد في شدتها وحجمها وتواترها بشكل مترابط مع الاحترار العالمي. ويقدر العلماء مثلاً، بأن هذا جعل موجة الحر التي ضربت الهند وباكستان في مارس/آذار، وأبريل/نيسان 2022 محتملة الحدوث بأكثر من ثلاثين مرة.
من جانبه، يرجح غيرهارد كرينر عالم الجليد وأحد مؤلفي الملخص الذي نُشر، الإثنين، وكان موجهاً خصيصاً لصانعي القرار: "في مواجهة هذه التهديدات، يجب أن تسمح جهودنا أيضاً بإبطاء الاحترار قدر الإمكان"، مضيفاً: "هذا الأمر لا يقل أهمية. فكلما تفاقم الاحتباس الحراري بسرعة، تراجع الوقت المتاح للسكان للتكيف معه. سيزيد هذا من مخاطر حدوث الندرة لتوضيح المعنى من المستحسن إضافة لمن تشير هذه الندرة، المجاعات أو النزاعات".
يضيف عالم الجليد إلى كل ذلك، أن بعض التغييرات ستكون لا رجعة فيها، وبالتالي يجب أن يتم تأجيلها إلى "وقت متأخر قدر الإمكان". ويتابع: "الأنواع المنقرضة، مثلاً، لن تكون قادرة على الظهور مرة أخرى"، يتابع كرينر: "لن يكون بمقدور نهر جليدي ذائب إعادة تكوين نفسه. أما بالنسبة إلى ارتفاع منسوب المياه، فهو سيستمر لقرون بسرعة أكبر أو أقل حسب الاحترار".
"نقاط التحول" عواقب وخيمة على الكوكب
هذا، ويحذّر الخبيران من "نقاط التحول". حيث يصر كريمر على أن "هذه الأحداث، من الصعب للغاية معرفة في أي مرحلة من الاحترار المناخي يمكن أن تقع، وبأنه ستكون لها عواقب وخيمة على الكوكب".
على سبيل المثال، هذا هو الحال، في حالة زعزعة الغطاء الجليدي في القطب الجنوبي. ورغم أن احتمال وقوع ذلك اليوم منخفض، فإنه يزداد بسبب الاحترار مع وجود أخطار حقيقية لتسارع هائل في ارتفاع مستوى سطح البحر عند درجات الحرارة ما بين 1.5 و2 درجة مئوية. وفي الواقع، إذا ذابت الأرض المتجمدة (التربة الصقيعية) في القارة القطبية الجنوبية أنتاركتيكا، سينجم عن ذلك إطلاق المليارات من الغازات الدفيئة المخزنة في جليدها. سيؤدي هذا إلى رفع حرارة الكوكب وتسريع وتيرة ذوبان الجليد. من بين الأمثلة الأخرى التي يتم الاستشهاد بها غالباً، تحويل غابات الأمازون إلى سافانا أو حتى ذوبان الغطاء الجليدي في غرينلاند.
يمكن للعالم تجنب كل هذه السيناريوهات، وفقاً لما يطرحه المتخصصان. فمن جانبه، يقول وولفغانغ كريمر إن "لدينا اليوم في المتناول العديد من الحلول المتاحة والفعالة لإبطاء تغير المناخ والحد منه. كما أن العقبات لم تعد في مجال الابتكار، بل في السياسة". بدوره، يخلص جيرهارد كرينر إلى أنه "ستُحدث الجهود التي نبذلها الآن فرقاً كبيراً على المدى الطويل، ويمكن لها أن تجنبنا تلك الأعشار الإضافية من الدرجات المئوية".