قبل 20 عاماً غزت الولايات المتحدة العراق، تحت ذرائع كاذبة تتعلق بأسلحة الدمار الشامل، وأطاحت بنظام صدام حسين، فماذا تحقق للعراقيين من الوعود الأمريكية الكثيرة التي بررت بها واشنطن تلك الحرب؟
كانت الأهداف التي أعلنتها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج دبليو بوش، لغزو العراق، بعيداً عن مبررات الحرب نفسه، تتمثل في جلب الحرية وتحقيق الأمن والديمقراطية والازدهار للعراق وشعبه.
نجحت أمريكا في غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين البعثي ووضعت نظاماً جديداً للحكم في البلاد قوامه الانتخابات وهيكله الديمقراطية، لكن مضمون ذلك النظام جاء مختلفاً تماماً، وترك كثيراً من العراقيين فريسة للإحباط.
والآن وبعد عقدين من الزمان، يقول عراقيون إن قادتهم لم يوفوا حتى الآن بوعودهم لإصلاح الاقتصاد ومحاربة الفساد وتحسين الخدمات العامة المتدهورة ومكافحة الفقر والبطالة.
الديمقراطية ومكافحة الفساد في العراق
كان فرض الديمقراطية والحكم الرشيد أحد الأهداف المعلنة لإدارة بوش، فغزو العراق كان مقدمة للشرق الأوسط الجديد الذي تحدثت عنه وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس، فماذا تحقق بعد 20 عاماً من ذلك الوعد؟
حقيقة الأمر هنا هي أن الغزو الأمريكي للعراق تسبب في مجموعة جديدة تماماً من المشكلات الجوهرية فيما يتعلق بنظام الحكم تحديداً؛ إذ فرض هياكل ومؤسسات غير تمثيلية وعديمة الفعالية؛ وعمَّق انعدام الأمن البشري وقضى على آفاق التنمية الاجتماعية الاقتصادية المستدامة طويلة الأجل، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
بعبارة أخرى، خلق الغزو الأمريكي للعراق أوجه قصور هيكلية وعوائق منهجية قوّضت قدرات الشعب العراقي للتحول إلى الديمقراطية. وفي غضون ذلك، ازدادت المعاناة البشرية مع سقوط مئات الآلاف من الضحايا المدنيين ونزوح أكثر من 9.2 مليون عراقي داخلياً أو تحوّلوهم إلى لاجئين في الخارج.
لم تتحقق المطالب والتطلعات المدنية والسياسية للشعب العراقي. هيمنت الفصائل السياسية على مؤسسات الدولة وحوَّلتها إلى أدوات تخدم المصالح الاقتصادية للنخبة الحاكمة، وهو ما جعل الدولة عاجزة إلى حدٍ كبير عن توفير الخدمات الأساسية.
على سبيل المثال، وفقاً لمراقبين ومحللين، لم يُبن أي مستشفى أو محطة كهرباء جديدة في الفترة ما بين عامي 2003 و 2013 على الرغم من إنفاق 500 مليار دولار من المال العام. خلال نفس الفترة، أكَّد مسؤولون عراقيون أنَّ الدولة دفعت بالفعل 300 مليار دولار لمقاولين مقابل مشروعات لم تكتمل قط.
وفي عام 2021، أعلن الرئيس العراقي أنَّ العراق خسر 150 مليار دولار منذ عام 2003 بسبب عمليات الاختلاس والفساد المستشري في مؤسسات الدولة -لاسيما في قطاع النفط- مشيراً إلى تهريب تلك المليارات إلى خارج البلاد.
هذه النتائج الكارثية للغزو الأمريكي للعراق لم تكن من قبيل المصادفة، فالتدخل الخارجي لم يتضمن في المرحلة الأولية أي تصور لتطورات مستقبلية أو إعادة بناء المؤسسات وتدعيمها، بل كان يفتقر بدرجة كبيرة إلى أي اعتبارات متعلقة بالحكم الرشيد أو المساءلة.
لم يكن تشكيل سلطة الائتلاف المؤقتة (CPA) أو مجلس الحكم العراقي (IGC) -أو حتى الإجراءات التي قادت إلى دستور 2005 الجديد- يهدف إلى وضع مصلحة الشعب واحتياجاته في صميم أولويات النظام السياسي. ففشلت تلك الكيانات في تأسيس نظام سياسي تشاركي قائم على إشراك الجميع أو إرساء أسس الشفافية والمساءلة -وهي ركائز أساسية لنجاح أي عملية تحول ديمقراطي.
وعندما فاض الكيل بالعراقيين وثاروا، في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، كانت للمحتجين مطالب محددة تتمثل في التخلص من الطبقة السياسية التي تتحكم في البلاد منذ الغزو العراقي عام 2003، وتسببت في تدهور غير مسبوق في الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والكهرباء ومياه الشرب وانتشار البطالة، رغم كون العراق دولة غنية بالنفط والموارد الأخرى.
لكن حتى هذه الثورة الشعبية، رغم الثمن الباهظ المتمثل في مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعتقلين، فشلت في تحقيق الهدف الرئيسي منها، والسبب هو النظام الطائفي الذي كرّسته أمريكا بعد الغزو من أسلوب الحكم الفاشل، الذي أدى لتكرار الإخفاقات من جانب الحكومات العراقية المتعاقبة.
فعلى الرغم من التغييرات الشكلية، تُركت الأسباب الجذرية للإخفاقات دون معالجة أو ظلَّت سلطة اتخاذ القرار في أيدي مجموعات عرقية طائفية معينة لم تكن مهتمة أو قادرة على معالجة تلك القضايا؛ لأنَّ ذلك سيحد من سطوتها وهيمنتها.
وما زال العراقيون يبحثون عن وطن
هذا يفسر سبب بقاء العديد من المشكلات المتعلقة بالحكم والإدارة، والتي ظهرت بعد عام 2003، دون معالجة بسبب عدم وجود مؤسسات متجاوبة أو آليات فعَّالة لتنفيذ ذلك؛ لذا، ظهرت عبارة "نريد وطناً" باعتبارها مطلباً رئيسياً وشعاراً لـ "حركة تشرين" الاحتجاجية، والتي أكَّدت على الرغبة والحاجة إلى إحداث تغييرات جذرية في نظام الحكم والإدارة والمؤسسات والإدارات المملوكة للدولة والعملية السياسية بأكملها.
ومع ذلك، حدث تجاهل للدعوات المتكررة على مدى العقدين الماضيين لوقف العنف ومعالجة الثغرات الأمنية وإصلاح المؤسسات للقضاء على الفساد المستشري الراسخ في النظام السياسي. عانى العراقيون من ضعف مستوى الخدمات العامة وارتفاع معدلات البطالة (التي وصلت إلى 36% بين الشباب)، فضلاً عن العديد من التحديات الأخرى.
كان من المحتم أن يؤدي نموذج التدخل الخارجي المشحون بالتوترات والتناقضات إلى مثل هذه التداعيات الوخيمة؛ لأنَّه مصمَّم بطبيعته لخدمة النخبة السياسية وقوات الاحتلال وبعض الجهات الفاعلة الإقليمية المتحالفة معه، لكن ليس الشعب العراقي، الذي لا يزال يواصل بحثه عن وطن بعد 20 عاماً على الغزو الأمريكي لبلاده.
ثمة 4 عناصر واضحة تفسر أوجه القصور. أولاً؛ إكساب الهوية العرقية والطائفية طابعاً مؤسسياً من خلال جعلها أساساً للتمثيل السياسي، كما يتضح في نظام "المحاصصة الطائفية".
ثانياً؛ عدم التوافق حول القضايا الأساسية -مثل النظام الاتحادي- ثَبُت أنَّه يُمثّل إشكالية كبيرة. نتيجة لذلك، لا تزال العلاقات بين الحكومة الاتحادية العراقية وإقليم كردستان شبه المستقل مشحونة بالخلافات.
ثالثاً؛ أدى تشكيل بنية أمنية خارج جهاز الدولة الرسمي إلى ظهور الميليشيات. لم تملأ هذه المجموعات شبه العسكرية الفراغ الأمني فحسب، بل طمست أيضاً الخطوط الفاصلة بين الأمن والحكم. أصبح مجال الحكم والإدارة مدفوعاً بدرجة كبيرة بالأجندة الأمنية بدلاً من الانخراط في عملية التحول الديمقراطي.
وأخيراً، لم يجعل النهج المتبع في الانتخابات من صندوق الاقتراع وسيلة لإحداث تغيير إيجابي. لم يقضِ النظام الانتخابي، ضمن إطاره الحالي، على المحاباة السياسية، ومن ثمَّ لم يتغيَّر التوزيع الطائفي العرقي للسلطة.
الفساد.. أبرز تداعيات الغزو الأمريكي
بعد عقدين من سقوط النظام البعثي في العراق، لا تزال عمليات الإصلاح المؤسسي وإعادة بناء الدولة وتعزيز الديمقراطية عاجزة عن معالجة الأسباب الجذرية لمظالم الشعب العراقي.
إذا كان هناك شيء قد حدث، فهو أنَّ تداعيات الغزو الأمريكي أجبرت العراقيين على التعامل مع مجتمع منقسم بفعل الهويات الطائفية والسياسات والعنف الناتج عن كل ذلك.
ترك الغزو الأمريكي للعراقيين نظاماً سياسياً يساعد على تمكين الفساد ويعفي الأحزاب السياسية من المساءلة. ترك العراقيين يواجهون مآسي صعود ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق (داعش)، ثم زواله. ترك العراقيين يكافحون من أجل التعامل مع العمليات المعقدة لإعادة الإعمار بعد الحرب. لكنه تركهم أيضاً يعانون مع حكومات متعاقبة فاشلة ونظام سياسي معيب.
طوَّرت الحكومات العراقية المتعاقبة خططاً واستراتيجيات لمعالجة مشكلات العراق، لكنها فشلت بوضوح في الوفاء بوعودها.
وفقاً لنتائج استطلاعات الدورة السابعة لشبكة "الباروميتر العربي"، يعتقد حوالي 93% من العراقيين أنَّ الفساد منتشر في المؤسسات والإدارات التابعة للدولة. عبَّر 19% فقط من العراقيين عن ثقتهم في البرلمان، في حين أعرب 26% عن ثقتهم في الحكومة الوطنية و33% في الحكومة المحلية و40% في النظام القانوني (في الوقت نفسه، عبَّر 83% من العراقيين عن قدر كبير من الثقة في القوات المسلحة).
بالإضافة إلى ذلك، يشكو العراقيين من عدم استجابة الحكومة لمظالمهم. قال 20% فقط إنَّ الحكومة تستجيب إلى حدٍ كبير لاحتياجات المواطنين في حين يعتقد 62% ضرورة تغيير نظامهم السياسي (بما في ذلك النظام الانتخابي الحالي).
بناءً على ذلك، وفقاً لاستطلاع شبكة "الباروميتر العربي، يتفق العراقيون على مسألتين: تتمثَّل المسألة الأولى في أنَّ الشيء الوحيد الثابت في بلادهم هو "عدم اليقين"، أما الثانية فهي أنَّ "إصلاح النظام" بات مطلباً فورياً.
لذا، بعد مرور 20 عاماً على الغزو الأمريكي للعراق، وكما ورد في تقرير صدر مؤخراً عن "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" و"برنامج الأمم المتحدة الإنمائي"، تتطلب نقطة البدء الحاسمة لتغيير بعض الديناميكيات المذكورة أعلاه مشاركة جادة في إعادة صياغة العقد الاجتماعي في العراق، الأمر الذي يتطلب معالجة الفساد وسد الثغرات الأمنية وتوفير الخدمات الأساسية وضمان المساواة بين الجنسين والمساواة الاجتماعية لحماية الفئات السكانية الأكثر ضعفاً وتهميشاً.
لا تعد هذه الإصلاحات حيوية لتحسين الحياة اليومية للعراقيين فحسب، بل أيضاً لتلبية احتياجاتهم وتطلعاتهم نحو مستقبل دولتهم ومساعدة الشعب العراقي على تأسيس الوطن الذي ينشده.
ماذا تحقق للعراقيين بعد 20 عاماً من الغزو؟
وإذا كان الغزو الأمريكي للعراق قد تسبب في تدمير النظام السياسي في البلاد لصالح نظام آخر أثبت أنه فاشل فشلاً ذريعاً، وتخريب الاقتصاد في أحد أغنى دول الشرق الأوسط، فقد تسبب أيضا في عدد لا نهائي من المآسي التي طالت العراقيين جميعاً على مختلف انتماءاتهم السياسية والعرقية والطائفية والدينية.
فهذا مسلم شيعي يدعى أحمد ناصر فقد ساقيه عام 2007، حينما كان هو وزميله في فريق لكرة القدم إيهاب كريم، يتسوقان في بغداد لشراء أحذية كرة قدم جديدة قبل بدء موسم الدوري العراقي الممتاز. انفجرت واحدة من القنابل العديدة التي دمرت العاصمة العراقية في سنوات العنف التي تلت الغزو بينما كان الشابان الشيعيان يقفان لتناول شطائر، ليفقد كريم حياته ويفقد ناصر ساقيه.
وقال ناصر، الذي يلعب الآن كرة السلة على كرسي متحرك، ضمن أحد الفرق البارالمبية، لرويترز: "كان من الأفضل لو بقي صدام (حسين)، ما كنت سأفقد ساقيّ… ما كان هذا ليحدث أبداً لأنه لم يكن هناك أي طائفية في ظل حكمه".
أما مهند لفتة، الذي كان يضطر في شبابه إلى تعليق ملصقات لصدام حسين، ليس لأنه يدعمه بل لتجنب تداعيات اعتباره منشقاً مثل والده الذي أُعدم بسبب معارضته للنظام البعثي للديكتاتور، فيقول الآن: "أتمنى أن أقول لوالدي، الذي أُعدم بسبب مبادئه ورفضه لحكم البعثيين، إن من يحكمون البلاد اليوم هم أكثر وحشية".
أما الكردي أراس عبيد، فقد كانت لديه كل الدوافع كي يرغب في الإطاحة بصدام حسين من السلطة بعد أن صار الناجي الوحيد من عائلة مؤلفة من 12 فرداً بعد هجوم بالغاز استهدف مجتمعه الكردي في عام 1988، لكنه يقول الآن إن تخليص الأمة من صدام لم يخلق سوى حالة من الفوضى استغلها آخرون لاستنزاف خيرات البلاد.
وأضاف لرويترز: "في ظل النظام البعثي كانت هناك عائلة واحدة تسرق ثروات البلاد. الآن هناك الآلاف من الصدّاميين ينهبون… لا يمكنني التعامل مع هذا الوضع. انتهت حياتي".
فبعد الإطاحة بصدام، أقام الأكراد منطقة تتمتع بحكم شبه ذاتي في شمال العراق؛ مما جذب استثمارات في النفط والغاز. لكن الخلافات دبَّت بين الحزبين الكرديين بشأن الثروات وعندما أجرى الأكراد استفتاء على الاستقلال عام 2017، أمرت بغداد قواتها بالسيطرة على مساحات من الأراضي وقطع التمويل عن المنطقة. وقال عبيد: "قضيتنا ضاعت بين السياسيين… لقد هُزمنا مرة أخرى".
أما جاسم الأسدي فهو ناشط تعرض للسجن والتعذيب في عهد صدام بسبب رفضه إعلان الولاء لحزب البعث، وعاد إلى ذهنه الشهر الماضي الرعب عندما خطفه رجال مسلحون وعذبوه. وكان الأمر هذه المرة أسوأ.
قال المهندس الهيدروليكي والناشط البيئي (65 عاماً): "مستوى وتقنيات التعذيب التي تعرضت لها فاقت المستويات التي مارسها البعثيون بحق السجناء"، واصفاً كيف تم تعصيب عينيه وتصفيد يديه وضربه بالهراوات وصعقه بالكهرباء ووضعه في حبس انفرادي.