قفزات لافتة في التطبيع الخليجي مع إيران، فبعد زيارة مستشار الأمن القومي الإيراني "علي شامخاني" للإمارات، وجهت السعودية دعوة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة الرياض قوبلت بترحيب إيراني.
ورحب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، الأحد 18 مارس/آذار 2023، بدعوة تلقاها من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لزيارة الرياض بهدف ترسيخ التقارب بين البلدين، كما أعلن مسؤول في الرئاسة الإيرانية.
لكن لم يصدر أي تعليق من الجانب السعودي حول هذه الدعوة أو الرسالة حتى مثول التقرير للنشر.
السعودية تلوّح لإيران باستثمارات كبيرة
من جهته أعلن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أن البلدين اتفقا على اجتماع مقبل لوزيري خارجيتيهما. وأشار إلى "ثلاثة مواقع" مقترحة "لعقد هذا اللقاء" دون تحديدها.
وقال وزير الخارجية الإيراني: "اتفقنا على أن تقوم الفرق الفنية بتفقد سفارتي البلدين والقنصليات التابعة لهما، وبما يتيح لنا التحضير لإعادة فتح السفارتين".
وبعد أيام من الإعلان عن اتفاق إعادة العلاقات بين إيران والسعودية بوساطة صينية، والذي جاء بعد عداء استمر لسنوات، قال وزير المالية السعودي محمد الجدعان، الأربعاء 15 مارس/آذار 2023، إن الاستثمارات السعودية في إيران يمكن أن تحدث سريعاً جداً بعد الاتفاق.
وأضاف الجدعان خلال مؤتمر القطاع المالي في الرياض: "هناك الكثير من الفرص لاستثمارات سعودية في إيران. لا نرى عوائق طالما سيتم احترام بنود أي اتفاق".
وقال الجدعان: "إيران دولة مجاورة، وستبقى جارتنا لمئات الأعوام، ولا أرى أي معوقات عن تطبيع العلاقات وعودة الاستثمارات، ونحن نلتزم بمبادئ الاتفاقية واحترام الحقوق السيادية لكل دولة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية".
زيارة رفيعة لمستشار الرئيس الإيراني للإمارات بصحبة محافظ البنك المركزي
وفي 16 مارس/آذار 2023، قام مستشار الأمن القومي الإيراني "علي شامخاني" بزيارة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث استقبله الرئيس الإماراتي الشيخ "محمد بن زايد".
كما استقبله رئيس الوزراء الشيخ "محمد بن راشد"، فضلاً عن اجتماعه بنظيره الإماراتي الشيخ "طحنون بن زايد" في أبوظبي، في لقاء قالت مصادر إنه يستهدف الدفع بالتعاون الإقليمي، وقالت وكالة إرنا الإيرانية إن "شامخاني" اصطحب معه حاكم البنك المركزي الإيراني، ومسؤول كبير بوزارة الأمن، ومساعد وزير الخارجية لشؤون منطقة الخليج.
استقبال رفيع المستوى لشامخاني في الإمارات
يشير الاستقبال الإماراتي رفيع المستوى لشامخاني إلى تمسك البلدين بمسار إصلاح العلاقات، الذي بدأ مع مراجعة الإمارات لسياستها الإقليمية وقرارها المضي قدماً في سياسة احتواء التوترات، بما في ذلك إصلاح العلاقات مع إيران.
كما يشير لقاء المسؤول الإيراني، خصوصاً مع الرئيس الإماراتي، إلى أن التباينات داخل أبوظبي حول وتيرة التطبيع مع إيران لم تؤثر على اتجاه السياسة الرئيسي، والذي سيتعزز على الأرجح بعد الاتفاق السعودي الإيراني.
البحرين التي لديها أعمق مشكلات مع إيران تخوض محادثات سرية معها
أما التغير اللافت أيضاً في التطبيع الخليجي مع إيران، فهو مع البحرين الدولة الخليجية التي يوجد لديها الخلافات الأكثر عمقاً مع إيران.
فلقد أفادت تقارير بأنه جرت محادثات سرية في الأشهر الماضية بين إيران والبحرين، حيث أكد مصدر إقليمي رفيع، أنه "بعد إعادة فتح السفارتين في طهران والرياض، ومن المحتمل أيضاً أن يحصل تطبيع بين إيران والبحرين، حسب ما ورد في تقرير لمركز "أسباب" للدراسات السياسية والاستراتيجية.
فيما قالت مصادر أخرى: إن المشاورات بين إيران والبحرين تجري دون وساطة، ومن المرتقب الإعلان عن النتائج في وقت قريب حال التوافق على القضايا الخلافية.
وعلق المتحدث باسم الخارجية الإيرانية "ناصر كنعاني" على هذه التقارير قائلاً إن "هناك تحركات دبلوماسية جيدة بشأن البحرين".
وتمثل محادثات البحرين مع إيران وقرب التوصل لقرار تطبيع العلاقات نتيجة متوقعة لقرار السعودية تجاه العلاقة مع إيران؛ حسب تقرير مركز أسباب.
والبحرين لديها مخاوف واسعة تجاه إيران، تشمل من وجهة نظر المنامة، التدخلات الإيرانية في شؤونها الداخلية، ودعم أطراف محلية شيعية معارضة بعضها مسلح، بالإضافة إلى التهديدات الواسعة التي أظهرتها إيران في عموم منطقة الخليج.
لكن إذا كانت الرياض قادرة على التوصل لتفاهمات أمنية مع إيران فإن البحرين أيضاً سيكون عليها ذلك، حسب مركز أسباب.
دوافع التطبيع الخليجي مع إيران
دوافع التطبيع الخليجي مع إيران مركّبة، وهي تأتي في سياق سعي خليجي عام لتصفير المشكلات في المنطقة بدأته الإمارات، بسحب قواتها من اليمن، وتخفيف دورها في ليبيا، والتحسن الملحوظ في علاقتها مع تركيا، وكذلك السعودية التي تحسنت علاقتها بتركيا بشكل ملحوظ أيضاً وصل لوضع وديعة مالية مليارية في البنك المركزي التركي، إضافة لاتفاقها التاريخي لإعادة العلاقات مع إيران بوساطة صينية، وتلميحها لإمكانية تغيير سياستها تجاه نظام الأسد.
يتداخل ذلك مع توجه خليجي تقوده الإمارات والسعودية لعدم ربط نفسها بالتحالفات الغربية حصراً، عبر عدم الانجرار وراء العقوبات والحصار الغربي على روسيا، والإصرار على مزيد من الأواصر مع الصين أكبر مستورد للنفط في العالم، رغم استياء واشنطن.
ويمكن فهم التطبيع الخليجي مع إيران في إطار هذا التوجه، كما أن له علاقة بتوازن القوى بين طرفي الخليج.
فبعيداً عن المبالغة في القوة العسكرية الإيرانية مقارنة بدول الخليج، يظل لدى طهران ميزة تكتيكية في حال الحروب منخفضة الكثافة وغير الرسمية التي تميز المنطقة وتجيدها إيران، فهي تستطيع تنفيذ هجمات غامضة عبر وكلائها في المنطقة أو حتى من أراضيها، مع التبرؤ منها مثلما فعلت في الهجوم على منشأة شركة أرامكو السعودية عام 2019، الذي عطّل 5% من إنتاج النفط العالمي آنذاك، أو كما فعل الحوثيون مع الإمارات من قبل أو عبر استهداف حركة الملاحة في الخليج، وخاصة في مضيق هرمز في عمليات تخريبية صغيرة ولكن مؤثرة يصعب التصدي لها.
ويزيد تأثير هذا الأسلوب الإيراني في ظل حقيقة أن دول الخليج لديها منشآت نفطية حساسة على ساحل الخليج العربي، إضافة لمدنها الثرية التي أصبحت بعضها مركزاً للسياحة والسفر في العالم مثل دبي، ما يجعلها حساسة لأي هجمات تفجيرية أو صاروخية حتى لو كانت فاشلة وتم إسقاطها عبر الأنظمة الأمريكية الدفاعية المتطورة التي تمتلكها دول الخليج.
ولذا فمع تزايد التوتر في الملف النووي الإيراني وتزايد احتمالات توجيه إسرائيل أو حتى أمريكا لضربة عسكرية لطهران، تفضل دول الخليج تهدئة العلاقات مع إيران وتطبيعها.
فأي ضربة إسرائيلية أو أمريكية لو تمت، فإن خيار إيران، الأسهل تنفيذاً، هو الانتقام من دول الخليج الأقرب، حيث سيكون رد الفعل الأمريكي أضعف مما لو استهدفت إيران الأساطيل أو القوات الأمريكية في المنطقة أو حليفتها إسرائيل.
ولذلك فإن من الواضح أن دول الخليج لم تعد لديها حافز، لتشجيع أمريكا للتعامل بحسم مع الملف النووي الإيراني لأن الغرب وإسرائيل باتت لديهم حوافز ذاتية للتصدي بحزم للملف النووي الإيراني بعد وصوله لمراحل مقلقة.
وبالتالي فإن تورط دول الخليج في الملف، أصبح دون داعٍ مع جلبه مخاطر عليها.
ولذا قد يكون ضمن المفاوضات بين إيران ودول الخليج طلب إيران منها أن تقدم ضمانات بأنها لن تسمح باستخدام أراضيها كمنطلق لأي أعمال عسكرية أو أمنية تستهدفها، وهو مطلب حيوي لطهران، ليس فقط في ظل تصاعد عمليات الاستهداف الإسرائيلي مؤخراً، ولكن لضمان تحييد دول الخليج عن أي عمليات محتملة تستهدف إيران إذا فشلت المفاوضات النووية مع الغرب.
دول الخليج تتجه لمقاربة جديدة للتعامل مع التهديدات الإيرانية
هذه التطورات في علاقات إيران مع دول الخليج يمكنها إعادة آليات التعامل مع التهديدات الأمنية الإقليمية؛ حيث سيظل ضمن تعريف هذه التهديدات من وجهة نظر دول الخليج مسائل مثل البرنامج النووي الإيراني، ودعم إيران لكيانات مسلحة يمكنها تهديد أمن دول الخليج.
إلا أن هذه التطورات في المقابل ستعمل على إرساء آليات جديدة للتعامل مع "التهديد الإيراني"، والتي بات من المرجح أن ترتكز أكثر على انتهاج الدبلوماسية وتطوير المصالح الاقتصادية المشتركة، بالتوازي مع تعزيز قدرات هذه الدول كل على حدة، وبصورة مشتركة أيضاً، على ردع هذه التهديدات.
على صعيد آخر، يرجّح مركز "أسباب" أن التطبيع مع إيران لن تكون له تداعيات جوهرية على التعاون الأمني والعسكري بين هذه الدول و"إسرائيل".
اليمن ساحة الاختبار الرئيسية للتطبيع الخليجي الإيراني
ولكن ستكون اليمن على الأرجح هي ساحة اختبار لهذا النهج الجديد من التطبيع الخليجي مع إيران.
فلربما تكون هناك تسوية تختمر من شأنها إنهاء الحرب في البلاد، حيث يمثل هذا ضرورة تمكّن إيران والإمارات، وإيران والسعودية، من إصلاح العلاقات بشكل أكبر، لأن هذا سيعني أن الحوثيين في اليمن قد يشكلون تهديداً أقل للسعودية والإمارات، اللتين تدعمان الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً.
فتأثير الانفراجة بين السعودية وإيران على اليمن قد يكون كبيراً، فربما تُسرِّع من سير محادثات السلام بين الرياض وجماعة الحوثي لإنهاء الحرب.
وتعقد السعودية محادثات سرية مباشرة في سلطنة عمان مع جماعة الحوثي منذ أكتوبر/تشرين الأول، وقد يكون للاتفاق الإيراني السعودي تأثيرات إيجابية على هذه المفاوضات، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
في هذه المحادثات بين الحوثيين والرياض، تريد جماعة الحوثي إنهاء القيود على مطار صنعاء وميناء الحديدة، بالإضافة إلى دفع السعودية جميع الرواتب الحكومية، بما في ذلك رواتب خدمات الجيش والأمن، مقابل مد أمد الهدنة. كذلك تريد جماعة الحوثي من الرياض الانسحاب من الحرب، والتوقف عن دعم حكومة اليمن المعترف بها دولياً في عدن، ودفع الأموال اللازمة لإعادة الإعمار.
وقد تذكّر هذه الشروط بالنموذج الذي كان سائداً في لبنان قبل سنوات، حينما كان الحكم في البلاد هو شراكة مضطربة بين حلفاء السعودية من ناحية وحلفاء إيران ونظام الأسد من ناحية أخرى، شراكة تتيح السيطرة الأمنية لحزب الله وغيره من حلفاء دمشق وطهران على النواحي الأمنية، وتعطي حرية العمل العسكري كاملة لميليشيات حزب الله، مع قيادة حلفاء الرياض للاقتصاد، كل ذلك في ظل تمويل سعودي خليجي، وبصورة أقل: غربي، لاقتصاد لبنان.
وعندما توقفت هذه المعادلة مع استمرار توسع نفوذ حزب الله بشكل أغضب الرياض وواشنطن، توقف الدعم الخليجي للبنان، ويعتقد أن هذا من أسباب الأزمة الاقتصادية الحالية.
لكن المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يعد المجموعة الانفصالية الرئيسية في اليمن، قال إنه لن يشعر بأنه ملتزم بأية اتفاقية إذا تطرقت إلى قضايا الإدارة أو الأمن أو توزيع الموارد في جنوب البلاد.
وقال المجلس إنه ليس لديه "أدنى فكرة ولا إحاطة" حول المحادثات التي تستهدف إنهاء الحرب المستمرة لما يقرب من عقدٍ من الزمن، مشيراً إلى أن اليمن قد يُفرض عليه حكم الأمر الواقع. قال الممثل الخاص لرئيس المجلس الانتقالي الجنوبي للشؤون الخارجية، عمرو البيض: "سمعنا أن هناك اتفاقاً قادماً، ولكننا لا نسمع عنه من أية قناة رسمية".
ولكن من شأن تسارع التطبيع الإماراتي السعودي أن يساهم في دخول الانفصاليين الجنوبيين المدعومين من أبوظبي في التهدئة المحتملة باليمن، وقد ينتهي الأمر بتسوية ثلاثية تضم الحكومة الشرعية المدعومة من السعودية، والحوثيين المدعومين من إيران، والحراك الجنوبي المدعوم من الإمارات.
ولكن تظل تسوية الأزمة اليمنية بقدر أهميتها للرياض، ولكنها صعبة في ظل ما يتسم به الحوثيون من تصلب، وقدرتهم على تحمل الحصار والهجمات العسكرية، وشكوك حول مدى نفوذ طهران عليهم، لأنهم شيعة زيدية وليسوا أتباع نظام الولي الفقيه الإيراني ولا يطيعون أوامره بشكل حرفي مثل حزب الله اللبناني وكثير من فصائل الحشد الشعبي العراقي.
الاقتصاد ورقة قوة رئيسية في يد المفاوض الخليجي
على الجانب الآخر، فإن التطبيع الخليجي مع إيران يتضمن إشارات قوية للتعاون الاقتصادي، وحديث السعودية عن إمكانية تدفق استثماراتها على طهران، وهي مسألة مغرية لإيران في وقت تعاني فيه من حصار أمريكي خانق، ومشكلات اقتصادية متفاقمة، والأزمة الاقتصادية الإيرانية لا تبدو أنها ستجد مخرجاً حتى لو حدث حل لأزمة الملف النووي الإيراني.
وبالتالي التطبيع الاقتصادي الإيراني الخليجي من شأنه توفير فرص كبيرة للاقتصاد الإيراني، ويمثل ورقة تفاوض خليجية مع طهران مقابل أوراق القوة الإيرانية المعروفة.