تتبادل روسيا وأمريكا الاتهامات بشأن إسقاط طائرة تجسس أمريكية في مياه البحر الأسود، وهو الحادث الأكثر خطورة بينهما منذ اندلاع حرب أوكرانيا، فهل أمر الرئيس فلاديمير بوتين بإسقاطها فعلاً؟
كانت الأمور بين موسكو وواشنطن قد وصلت، الأربعاء 15 مارس/آذار، إلى نقطة الصدام المباشر للمرة الأولى منذ شنت روسيا الهجوم على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، وهو الهجوم الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر".
والصدام المباشر هنا جاء بصورة حرفية، إذ أسقطت طائرة روسية من طراز سوخوي 27 طائرة تجسس أمريكية بدون طيار من طراز MQ Reaper ريبر إم كيو، فوق مياه البحر الأسود، شمال غرب شبه جزيرة القرم، التي كانت روسيا قد ضمتها رسمياً عام 2014 بعد إعلان الإقليم الانفصال رسمياً عن أوكرانيا.
البنتاغون ينشر فيديو إسقاط الطائرة
في ظل الاتهامات المتبادلة بين واشنطن وموسكو في هذا الحادث الخطير، يمكن ملاحظة وجود روايات أمريكية متعددة والأمر نفسه من الجانب الروسي. فموسكو نفت أن يكون قد حدث تصادم من الأساس بين طائراتها من طراز سوخوي وبين الطائرة المسيرة الأمريكية، في إشارة إلى أن سقوط الطائرة ربما يكون قد حدث نتيجة لخلل فني.
لكن قيادة البنتاغون في أوروبا رفعت السرية عن فيديو يصور الواقعة ونشرت شبكة CNN الأمريكية مقاطع منه، الخميس 16 مارس/آذار، تظهر أن إسقاط الطائرة الأمريكية قد نتج عما يمكن وصفها بمواجهة جوية استمرت بين 30 و40 دقيقة، وشهدت قيام طائرة السوخوي الأمريكية "برش وقودها على المسيرة الأمريكية مرتين قبل أن تصدمها وتفقدها أحد أجنحتها وقدرتها على التحليق".
وبحسب مسؤولين أمريكيين تحدثوا إلى الشبكة الأمريكية، دون ذكر هوياتهم، فإن الطائرة الأمريكية كانت تقوم بدوريات استطلاع "روتينية في المياه الدولية عندما تحرشت بها طائرة روسية من طراز سوخوي 27 ورشتها بالوقود مرة ومرتين قبل أن تصطدم بها".
وأكدت تلك المصادر أن مركز التحكم في المسيرات الأمريكية نجح في حذف السوفت وير الخاص بالمعلومات التي كانت الطائرة قد جمعتها، وهي معلومات استخباراتية حساسة بطبيعة الحال كون الطائرة مخصصة للتجسس، قبل أن يتمكن مركز التحكم في إسقاط الطائرة في مياه البحر الأسود شمال غرب شبه جزيرة القرم.
كان الجيش الأمريكي قد أعلن أن "الحادث" نجم عن تصادم في الجو بعد أن اقتربت مقاتلتان روسيتان من طراز (سو-27) من إحدى طائراتها المسيرة من طراز (إم.كيو-9) ريبر، وكانت في مهمة استطلاع فوق المياه الدولية. وذكرت واشنطن أن المقاتلتين اقتربتا من الطائرة المسيرة وسكبتا الوقود عليها قبل أن تحطم إحداهما مروحة الطائرة المسيرة لتسقط في البحر.
لكن موسكو نفت وقوع أي تصادم وقالت إن الطائرة المسيرة تحطمت بعد "مناورات خطيرة"، وأضافت أن الطائرة حلقت "عمداً وبشكل استفزازي" بالقرب من المجال الجوي الروسي مع إغلاق أجهزة الإرسال، وسارعت موسكو بالدفع بالمقاتلتين لتحديد هويتها.
كان بيان أمريكي صادر عن البيت الأبيض قد أكد أن الطائرات الأمريكية ستواصل القيام بمهامها في المجال الجوي الدولي، وطالب البيان روسيا بأن تضبط سلوكيات طياريها.
وجاء في البيان: "تتبع هذه الحادثة نمطاً من الأفعال الخطيرة التي يقدم عليها الطيارون الروس عندما يحدث تفاعل مع الطائرات الأمريكية وطائرات الحلفاء في المجال الجوي الدولي، بما في ذلك فوق البحر الأسود. هذه الأفعال العدوانية من جانب الطواقم الجوية الروسية تتسم بالخطورة ويمكن أن تؤدي إلى حسابات خاطئة وتصعيد غير مقصود"، بحسب موقع Vox الأمريكي.
هل أمر بوتين بإسقاط طائرة التجسس الأمريكية؟
يرى جيمس "سبايدر" ماركس، الجنرال الأمريكي المتقاعد، أن قرار إسقاط طائرة التجسس الأمريكي قد صدر عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً. ورداً على سؤال من شبكة CNN بشأن إذا ما كان يعتقد أن إسقاط الطائرة نتج عن قرار لحظي اتخذه الطيار الروسي أم أن ذلك كان تنفيذاً "لأوامر عليا"، قال ماركس: "أعتقد جازماً أن قرار إسقاط الطائرة جاء بأوامر عليا".
وشرح الجنرال الأمريكي اعتقاده بالقول إن "مثل هذه الأمور في الدولة الأوتوقراطية الاشتراكية (يقصد روسيا بطبيعة الحال) تتسم بالصرامة. فلا أحد من الطيارين بإمكانه اتخاذ قراراً خطيراً كهذا (إسقاط الطائرة) من تلقاء نفسه، بل لا بد أن يتم ذلك من خلال التسلسل القيادي (الذي يوجد بوتين في قمته بطبيعة الحال)".
أما عن الدافع وراء اتخاذ مثل هذا القرار الخطير، فيرى الجنرال الأمريكي أن بوتين "يتصرف من خلال ما يمكن وصفها بالمنطقة الرمادية. فالحرب في أوكرانيا تشهد دعماً هائلاً من جانب واشنطن وحلف الناتو لكييف، وروسيا لا تريد أن تصطدم مباشرة بالناتو أو بالقوات الأمريكية، ومن هنا يأتي وصف المنطقة الرمادية".
ويفسر ماركس ذلك بقوله إن "المنطقة الرمادية هنا تعني اتخاذ قرار مثل إسقاط طائرة أمريكية في مجال جوي تعتبره واشنطن والناتو مجالاً دولياً، بينما تعتبره روسيا مجالها الخاص، فتصل رسالة موسكو ومفادها أن هناك أنشطة بعينها لن يسمحوا بها، وفي الوقت نفسه يكون هناك هامش للمناورة من خلال الإنكار والحديث عن المجال الجوي الخاص".
ويبدو أن هذا بالتحديد ما حدث في أعقاب إسقاط الطائرة، حيث تم تبادل الاتهامات دون أن يحدث تصعيد خطير في الموقف. ففي مؤتمر صحفي خلال زيارة رسمية لإثيوبيا الأربعاء، وصف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الحادث بأنه عمل "طائش" و"غير مأمون"، لكنه لم يتطرق إلى الدافع وراءه.
والواضح هنا هو أن واشنطن تريد تهدئة الأمور، فقد قال المتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس، في حديثه إلى شبكة (إم.إس.إن.بي.سي)، إن الحادث من المرجح أن يكون عملاً غير مقصود من جانب روسيا.
وقال جون كيربي، المتحدث باسم البيت الأبيض، إن المسؤولين الأمريكيين أبلغوا السفير الروسي أناتولي أنتونوف بأن موسكو يجب أن تكون أكثر حذرة. وقال كيربي "مفاد الرسالة: لا تفعلوا ذلك مرة أخرى".
نيكولاي باتروشيف، أمين مجلس الأمن الروسي، من جانبه قال: "يواصل الأمريكيون القول بأنهم لا يشاركون في العمليات العسكرية. هذا أحدث تأكيد على أنهم مشتركون بشكل مباشر في هذه الأنشطة، في الحرب".
وقال أنتونوف في بيان إن "النشاط غير المقبول للجيش الأمريكي بالقرب من حدودنا يثير القلق"، متهماً واشنطن باستخدام طائرات مسيرة "لجمع المعلومات الاستخباراتية التي يستخدمها نظام كييف فيما بعد لضرب قواتنا المسلحة وأراضينا". ودعا واشنطن إلى "الكف عن القيام بطلعات جوية قرب الحدود الروسية"، بحسب رويترز.
ما قصة البحر الأسود؟
يمكن القول إن لب القصة هنا وهدف الرسالة الروسية من إسقاط الطائرة الأمريكية يتعلق بالأساس بالبحر الأسود. فقد طالبت موسكو واشنطن بالابتعاد تماماً عن مجالها الجوي بعد تحطم الطائرة في البحر الأسود.
فروسيا تعتبر أن البحر الأسود عبارة عن منطقة روسية بالكامل، وليست مياهاً دولية، منذ أن ضمت شبه جزيرة القرم عام 2014، بينما لا تعترف أمريكا وحلفاؤها الغربيون بهذا التوصيف من الجانب الروسي.
السفير الروسي لدى واشنطن، أناتولي أنطونوف، واجه الإعلام الأمريكي بشأن حادثة إسقاط الطائرة بالقول: "هذه طائرة مسيرة هجومية متعددة الاستخدامات يمكنها حمل 1700 كغم من المتفجرات. قولوا لي أنتم كيف ستتصرف وزارة دفاع أي دولة إذا ما اقتربت طائرة كهذه من حدودها؟"، بحسب ما نقل موقع روسيا اليوم.
وفي ظل استمرار الحرب في أوكرانيا واستمرار الدعم الأمريكي والغربي لكييف، إضافة إلى عدم الاعتراف بالحدود التي تقول روسيا إنها ضمن أراضيها (شبه جزيرة القرم بالأساس)، يصبح من الوارد جداً أن يتكرر مثل هذا الاصطدام بين الطائرات الروسية والطائرات الأمريكية، علماً بأن هذا الحادث لم يكن اصطداماً غير مقصود.
فالطائرات الروسية تحركت نحو الطائرة الأمريكية عندما اقتربت الأخيرة من المجال الروسي، بحسب رواية موسكو، وبالتالي فإن الرسالة هنا مباشرة، والسؤال هنا: ماذا لو تكرر الأمر لكن بين طائرات أمريكية ليست مسيرة هذه المرة وطائرات روسية؟ هذا السيناريو، الوارد الحدوث بطبيعة الحال، يعتبر أسوأ سيناريو ممكن وهو شاخص أمام الجميع منذ بدأت الحرب قبل أكثر من عام.
إن لحظة إسقاط الطائرة الأمريكية بدون طيار قد تكون اللحظة الأخطر منذ اندلعت تلك الحرب الجيوسياسية بين روسيا والولايات المتحدة على الأراضي الأوكرانية، وهي اللحظة التي يبدو أن كييف تتمناها. فقد استغلت كييف ما حدث وقالت إن الحادث يُظهر أن موسكو مستعدة "لتوسيع نطاق الصراع" لجر دول أخرى.
وكتب أوليكسي دانيلوف أمين مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني على تويتر أن روسيا تزيد المخاطر؛ لأنها تواجه "حالة الهزيمة الاستراتيجية" في أوكرانيا. فعلى الرغم من تقديم إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مساعدات بعشرات مليارات الدولارات لأوكرانيا في صورة مساعدات عسكرية، فإنها تقول إن قواتها لم تشارك بشكل مباشر في الحرب. لكن موسكو تقول إنها تصارع في مواجهة القوة المشتركة للغرب.