بدأت الولاية الثالثة للرئيس شي جين بينغ بخطاب يليق بقوة عظمى، فماذا تغير في الصين منذ عزلها وباء كورونا عن العالم؟ وماذا ينتظر العالم من أمريكا إلى إفريقيا وأوروبا حتى أستراليا في العهد الجديد لبكين؟
صحيفة The Guardian البريطانية نشرت تحليلاً أعدته إيمي هاوكينز، مراسلة الصحيفة في بكين، يرصد مختلف العلاقات الجيوسياسية التي يتعيَّن على الرئيس الصيني شي معالجتها، في غمار سعيه لنشر الرؤى السياسية والاقتصادية لبكين وتعزيز نفوذ بلاده في العالم.
واستهلّ شي جين بينغ ولايته الثالثة في رئاسة البلاد بعد تصويت البرلمان بالإجماع على إعادة انتخابه، ومن المتوقع أن يأتي تعزيز مكانة البلاد وتمديد الانفتاح على العالم الخارجي في صدارة جدول أعمال الرئيس، لا سيما بعد ثلاث سنوات من العزلة التي فرضتها بكين ضمن سياستها الصارمة للحدِّ من انتشار فيروس كورونا.
لكن كثيراً من الأمور تغيرت منذ أن أغلقت الصين حدودها في عام 2020، فقد تعثر اقتصاد البلاد، وبدأت حليفتها روسيا حرباً في أوروبا، وتدهورت العلاقات مع الولايات المتحدة إلى أدنى مستوى لها منذ تطبيعها في سبعينيات القرن الماضي.
العلاقات الصينية الأمريكية
الولايات المتحدة أكبر تهديد للصين، وأبرز منافس وشريك اقتصادي لها في الوقت نفسه. وفي خطاب ألقاه الرئيس الصيني، في 6 مارس/آذار 2023، اتهم شي الولايات المتحدة بقيادة سياسة غربية تسعى إلى "احتواء" الصين، مستخدماً في ذلك مصطلحاً لطالما استعملته الولايات المتحدة في غمار صراعها لوقف المد الشيوعي في العالم.
لكن التنافس الحالي يختلف عن التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة، فصراع القوتين العظميين اليوم يشمل أكبر اقتصادين في العالم، وهما دولتان تجمعهما روابط اقتصادية شديدة التشابك، حيث بلغت قيمة التجارة في البضائع بين البلدين 690.6 مليار دولار في عام 2022، ومساعي البلدين لفك الارتباط بينهما ما انفكت تكبحها روابط التجارة والبحث والتكنولوجيا والثقافة التي تأسست على مدى عقود.
ومنذ أن تولى شي السلطة في عام 2012 وهو يروج أيديولوجيا قومية ترى في الولايات المتحدة تهديداً أساسياً لأمن الصين. وقد تصلَّبت هذه الرؤية بفعلِ النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، ودعم الولايات المتحدة لتايوان. ويقول يون صن، مدير برنامج الصين في مركز ستيمسون الأمريكي للأبحاث، إن الشغل الشاغل للصين في علاقتها بالولايات المتحدة هو الدفع لتقليل الدعم الأمريكي لتايوان.
علاوة على ذلك، يسعى شي إلى تنصيب نفسه في مكانة الزعيم العالمي الجدير بمنافسة الرئيس الأمريكي جو بايدن على مكانته. وفي هذا السياق، أعلنت الصين في 10 مارس/آذار، عن توسطها في اتفاق بين السعودية وإيران لاستعادة العلاقات الدبلوماسية، وقد أشادت بكين بالخطوة وعدَّتها اختراقاً للهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط.
ضاعفت الصين حالياً من خطابها المناوئ للولايات المتحدة في الداخل والخارج، وتلومها على مختلف مشكلاتها، مثل صعوبة التعافي الاقتصادي والنزاعات الإقليمية. وفي الوقت ذاته، تزداد ميول التشدد ضد الصين في أروقة السياسة الداخلية الأمريكية، ما يعني أن احتمالات وقف التدهور في العلاقات بين البلدين تتقلص يوماً بعد يوم.
التحالف بين الصين وروسيا
كانت روسيا شريكاً مهماً للصين منذ نهاية الحرب الباردة، وخاصة بعد أن أسدل البلدان الستار على نزاع حدودي استمر عقوداً بينهما في عام 2005. كذلك فإن موسكو مصدر للطاقة الرخيصة، وداعم لتوسع النفوذ الصيني في آسيا الوسطى، ومورد مهم للأسلحة الصينية، إذ تشير بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام إلى أن 81% من واردات الصين من الأسلحة بين عام 2017 وعام 2021 جاءت من روسيا.
وأهم من هذا وذاك أن روسيا حليف للصين في مواجهة الولايات المتحدة. وذكرت وكالة Reuters أن الرئيس شي من المتوقع أن يزور موسكو الأسبوع المقبل، ويلتقي نظيره الروسي فلاديمير بوتين.
ومع ذلك، يقول ألكسندر غابيف، الزميل البارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إن الرؤية الصينية لموسكو تخلَّلتها بعض الشكوك في السنوات الأخيرة، لا سيما فيما يراه كثير من الخبراء الصينيين نهجاً "محفوفاً بالمخاطر ومتهوراً" لروسيا في سياستها الخارجية.
وأشار فينغ يوغون، أستاذ الدراسات الروسية وشؤون آسيا الوسطى بجامعة فودان الصينية، إلى أن سمات الدعم "المفتوح والمطلق والممتد" لوصف العلاقات الصينية الروسية "قد تلاشت من الخطاب الرسمي" الصيني، إذ ترى بكين أن روسيا أوقعتها في حرجٍ مع الغرب، بينما هي تبذل جهدها للتعافي من تباطؤ النمو الاقتصادي.
كيف ترى أوروبا نمو الصين؟
ترى بكين أن الخطاب الأوروبي المحلي أقل احتداماً برهابِ الصين من خطاب الولايات المتحدة، ومن ثم فهي أقرب ميلاً إلى التعاون التجاري معها للمساعدة في التعافي من الآثار الاقتصادية لجائحة كورونا وسياسات الإغلاق المرتبطة بها. وقد زار تشارلز ميشيل، رئيس المجلس الأوروبي، بكين العام الماضي. ومن المنتظر أن يزورها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني هذا العام.
مع ذلك، فإن الآمال المعقودة على التعاون الصيني الأوروبي تلقت ضربة الأسبوع الماضي، بعد أن أعلنت هولندا أنها ستنضم إلى القيود التي فرضتها الولايات المتحدة على تصدير أشباه الموصلات المتقدمة إلى الصين. وفي سياق الرد على ذلك، حثَّ متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية هولندا على "حماية مصالحها، وعدم اتباع دول معينة [الولايات المتحدة] في إساءة استخدام تدابير الرقابة على الصادرات".
أما بشأن آسيا الوسطى، فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فقد تقدمت الصين لتصبح شريكاً مهماً لدولِه المستقلة حديثاً- كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان- وسبيلاً إلى موازنة النفوذ الروسي في المنطقة.
لكن نيفا ياو، الزميلة غير المقيمة في مركز الشؤون الصينية التابع للمجلس الأطلسي الأمريكي، ترى أنه منذ بداية الحرب في أوكرانيا، فإن منطقة آسيا الوسطى "تبحث عن حلول لا تستطيع الصين تقديمها"، لأن دعم الصين للحرب الروسية بثَّ مخاوف لدى زعماء آسيا الوسطى، من أنه إذا انتشر الصراع شرقاً فإن بكين لن تساعدهم. وتقول ياو إن كازاخستان أكثر دول آسيا الوسطى قلقاً من هذا السيناريو، لذا يتعين على الصين إعادة ضبط سياساتها في المنطقة إذا أرادت الحفاظ على موالاة حلفائها لها.
في الوقت نفسه، يعيش أكثر من 200 ألف من الإيغور في كازاخستان، مع عشائر تركية أخرى، وكثير من هؤلاء لهم صلات بالإيغور الذين أشارت تقارير دولية إلى تعرضهم لحملات اضطهاد جماعية في منطقة شينجيانغ الواقعة في أقصى غرب الصين.
في المقابل، حاولت الصين أن تقدم نفسها في صورة الراعي الاقتصادي والأمني للمنطقة، واستعانت لبلوغ ذلك بمنظمة شنغهاي للتعاون، وهي مجموعة إقليمية تضم كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان.
وتقول ياو إن الصين تبذل وسعها لعدم السماح "بوجود اعتراف إقليمي بأي انتهاكات لحقوق الإنسان في شينجيانغ".
تايوان.. ملف الصراع الأكثر سخونة
كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولة ذات سيادة وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين لا تزال تصرُّ على أنه ستتم استعادة الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر. ولا يعترف بتايوان سوى عدد قليل من الدول؛ إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك. ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يُلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.
وفي هذا السياق، تنظر الصين إلى النظام الديمقراطي ذاتي الحكم في تايوان على أنه محافظة صينية منفصلة، ولم تستبعد استخدام القوة لتحقيق الوحدة، ووصلت التوترات بين بكين وتايبيه إلى ذروتها منذ عقود، في ظل إرسال الجيش الصيني عدداً قياسياً من الطائرات الحربية بالقرب من الجزيرة، في استعراض للقوة لا يخفى على دول المنطقة الأخرى.
وبالتالي فإن موقف الصين من تايوان ثابت منذ أمد طويل، إذ ترى الجزيرة جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الصينية، وهي مقاطعة منشقة يجب ضمها إلى البر الرئيسي، لكن كثيراً من المواطنين في تايوان يرون أنفسهم تايوانيين فقط. ومع ذلك، فإن الحكومات التايوانية تتأرجح في علاقاتها مع الصين بين القرب والبعد.
الرئيسة الحالية لتايوان، تساي إنغ وين، تنتمي إلى الحزب التقدمي الديمقراطي المؤيد للاستقلال عن الصين، لكن ذلك قد يتغير في انتخابات تايوان العام المقبل، وقد يحصل الحزب القومي الصيني (الكومينتانغ)، المؤيد لتوثيق العلاقات مع الصين، على نحو 25 % من الأصوات، فيتساوى بذلك مع نسبة تأييد الحزب الديمقراطي التقدمي.
وتبدي بكين العداء الشديد لكل من يتجرأ على عمل دبلوماسي قد يضفي الشرعية على مطالبة تايوان بالسيادة. وقد بذلت غاية وسعها لفض التحالفات الرسمية بين تايوان وغيرها من الدول تدريجياً، حتى لم يتبق منها سوى 14 دولة.
وقال الدكتور مارك هاريسون، كبير المحاضرين في الشؤون الصينية بجامعة تسمانيا الأسترالية، إن اعتراف تلك الدول بتايوان "يطعن في رواية الحزب الشيوعي الصيني التأسيسية حول وحدة الأراضي الصينية (ومنها تايوان) بوصفها قضية وجودية"، لذلك فهي تعمل جاهدة لإقناعها بتبديل موقفها ونزع اعترافها، وتستخدم لذلك مختلف وسائل الترغيب والترهيب.
وفي هذا السياق، تولي بكين مكانة كبيرة لتأييد دول المحيط الهادئ، ليس فقط لأنها تريد عزل تايوان، ولكن لأن المنطقة لها أهمية استراتيجية للهيمنة العسكرية والتوسع الإقليمي والصيد المربح وحقوق التجارة. وقد نجحت بكين في الضغط على كثير من تلك الدول في السنوات الأخيرة، مثل كيريباتي وبنما وجزر سليمان ونيكاراغوا، وتعهدت لها بزيادة التجارة والمساعدات والاستثمار.
أستراليا.. هل تكون ساحة مواجهة مع الغرب؟
لطالما كانت العلاقات الصينية الأسترالية معقدة، فالصين أكبر شريك تجاري لأستراليا، وتحتاج الصين إلى موارد أستراليا للحفاظ على وتيرة التنمية الاقتصادية، لكن العلاقات بين البلدين توترت في ظل تحالف كانبيرا الوثيق مع الولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الصيني.
تشدَّدت الحكومة السابقة لأستراليا في موقفها من الصين، وسمحت للولايات المتحدة بزيادة حضورها العسكري، وحظرت شبكة "5 جي" الصينية، ووقعت اتفاقيات متعددة الأطراف (مع الولايات المتحدة وبريطانيا) يبدو أن غايتها الوقوف في وجه التوسع الصيني.
ردَّت الصين على التشدد الأسترالي بمجموعة من الإجراءات، منها الحظر التجاري على استيراد النبيذ الأسترالي والفحم والشعير ولحم البقر والكركند، وفرضت بعض القيود على إرسال الطلاب الصينيين إلى أستراليا (يصل عددهم في الغالب إلى 150 ألف طالب في الجامعات الأسترالية، يدرّون على البلاد 12 مليار دولار سنوياً).
لكن يبدو أن بكين اغتنمت الفرصة السانحة بتولي الحكومة الأسترالية الجديدة لاستعادة العلاقات إلى عهدها، فأرسلت سفيراً جديداً، ودفعت إلى استئناف الاجتماعات بين مسؤولي البلدين، وتضمن ذلك اجتماع شي برئيس الوزراء أنتوني ألبانيز، في مؤتمر مجموعة العشرين، في نوفمبر/تشرين الثاني.
وبشكل عام، تحتل منطقة جنوب شرق آسيا مكانة الصدارة في المنافسة العالمية بين الصين من جهة، والولايات المتحدة والقوى الحليفة لها في شرق آسيا، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، من الجهة الأخرى.
يقول إريك أولاندر، رئيس تحرير موقع China-Global South Project، إن بكين تعزز روابط التجارة والبنية التحتية مع دول المنطقة "لربط اقتصاد تلك الدول إلى أقصى قدر ممكن بالعلاقات مع الصين".
وتحاول كل من الصين والولايات المتحدة استمالة إندونيسيا، القوة الاقتصادية الناشئة، لكن استمرار التنافس بين القوتين العظميين سيضطر دول جنوب شرق آسيا إلى الانحياز إلى جانب من الجانبين.
إفريقيا.. ساحة الصراع مع الغرب
عندما أعلن شي عن مبادرة الحزام والطريق في عام 2013، كانت إفريقيا من أولى المناطق التي أغدقتها الصين بالأموال والاستثمارات. وبين عام 2000 وعام 2020، قدَّم المقرضون الصينيون المدعومون من الدولة قروضاً بقيمة 160 مليار دولار إلى البلدان الإفريقية، وبلغ الإقراض الصيني للقارة ذروته في عام 2016، إذ وصل إجمالي القروض في هذا العام إلى 28.4 مليار دولار.
لكن وتيرة الإقراض تراجعت بشدة في السنوات التالية، حتى انخفضت في عام 2020 إلى 1.9 مليار دولار (تأثراً بتداعيات جائحة كورونا). وكان لفشل العديد من مشروعات البنية التحتية الكبرى بالقارة نصيب من هذا التراجع الصيني عن إقراض دول إفريقيا.
من الأمثلة على تلك المشروعات: مشروع السكك الحديدية القياسي في كينيا، وهو مسار بطول 579 كيلومتراً يربط نيروبي بمدينة مومباسا الساحلية. وقد اكتمل المشروع في عام 2019 وتكلف 5.3 مليار دولار، وجاء معظم التمويل بقروض من بنك "الصين للاستيراد والتصدير" وتولَّت شركة صينية أعمال الحفر والبناء. لكن كثيراً من الكينيين اتهموا الصين بإيقاع بلادهم في "فخ الديون"، ويخشون استيلاء الصينيين على ميناء مومباسا إذا تخلفت كينيا عن السداد.
ومع أن الأحداث اللاحقة لم تأتِ بأدلة على صحة هذه المخاوف، فإن بعض الخبراء يزعمون أن جاذبية الاستثمارات الصينية بدأت تتضاءل لدى الدول الإفريقية، في ظل معاناتها لسداد القروض المتراكمة.
وتركز الصين الآن على مشروعات تعدين الليثيوم، لكونه من المعادن شديدة الأهمية في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، وقد ارتفع سعره بشدة، ولذلك اشترت شركات التعدين الصينية مناجم ليثيوم في جميع أنحاء القارة، وخاصة في زيمبابوي.
يقول أولاندر: "تراجعت الأهمية الاقتصادية لإفريقيا تراجعاً كبيراً في السنوات العشر الماضية، لكن أهميتها السياسية ازدادت"، فالدول الإفريقية تميل إلى التصويت في كتلة واحدة بالمؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة، والصين تنتفع من ذلك في بعض الأحيان. ففي أكتوبر/تشرين الأول، صوَّت مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة برفض مناقشة انتهاكات الصين لحقوق الإنسان في شينجيانغ، بعد أن انضمت الدول الإفريقية إلى 19 دولة رفضت الاقتراح.