بعد سنوات من التوتر شهدت العلاقات التركية السعودية الإماراتية تحسناً لافتاً، مع تحول أنقرة لساحة استقبال للاستثمارات من الدولتين، وتجلت أبرز مظاهر الشراكة التركية الخليجية المستجدة مؤخراً في وديعة سعودية كبيرة، واتفاقية شراكة اقتصادية بين تركيا والإمارات.
وقال الصندوق السعودي للتنمية، في بيان يوم الإثنين، 6 مارس/آذار حول الوديعة السعودية، إن المملكة العربية السعودية قررت إيداع 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي، واصفاً القرار بأنه "دليل على التزام السعودية بدعم جهود تركيا لتعزيز اقتصادها".
من جانبه، ثمّن وزير الخزانة والمالية التركي، نورالدين نباتي، الخطوة، وقال إنها "نتيجة إيجابية لثقة إدارة المملكة العربية السعودية بالاقتصاد التركي".
وسبق هذا في يوم الجمعة، 3 مارس/آذار، توقيع "اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة" بين تركيا والإمارات العربية المتحدة، في مراسم افتراضية بحضور رئيسي البلدين، رجب طيب أردوغان، والشيخ محمد بن زايد، حيث أعرب أردوغان عن ثقته في رفع حجم التبادل الثنائي إلى 25 مليار دولار خلال 5 أعوام، بينما أكدت حكومة الإمارات أن الاتفاقية ستحقق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية والطموحة.
كانت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للسعودية في إبريل/نيسان 2022، إيذاناً بطيِّ صفحة الخلاف بين الرياض وأنقرة، ثم زار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تركيا في يونيو/حزيران 2022، بينما حدثت خطوات مشابهة مع الإمارات عندما زار الشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات تركيا في نهاية عام 2021، ثم استقبل أردوغان في أبوظبي في فبراير/شباط 2022.
الوديعة السعودية في تركيا تذهب بالعلاقة لما هو أبعد من مجرد تهدئة التوترات
رغم أن تحسن العلاقات بشكل لافت بين تركيا والسعودية والإمارات من جهة حدث خلال العام الماضي، تحديداً، ولكن كان زلزال تركيا وسوريا المدمر، مناسبة أظهرت تضامناً شعبياً وحكومياً سعودياً وإماراتياً مع المأساة التي ضربت تركيا.
وإضافة للعفوية الشعبية والمواقف الإنسانية لمسؤولي البلدين في ظل تقاليد خليجية عامة في دعم الدول المنكوبة بالكوارث، أظهر رد فعل السعودية والإمارات على الزلزال، أن الدولتين تراهنان على الاستثمار في شراكة طويلة الأمد مع أنقرة، على الرغم من حقيقة أن النقاشات حول الوديعة السعودية والاتفاقية مع الإمارات كانت جارية قبل أشهر من زلزال 6 فبراير/شباط.
وجاء الزلزال الذي قال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إن أضراره المباشرة وغير المباشرة قد تتجاوز 100 مليار دولار، في توقيت حساس بالنسبة لأنقرة؛ حيث سبق موسم الانتخابات التركية الأصعب منذ صعود حزب العدالة والتنمية للسلطة عام 2002.
لذلك؛ تعتبر الوديعة السعودية والاتفاقية الإماراتية إشارة لا تقبل الشك حول توجه الرياض وأبوظبي لتطوير العلاقة مع أنقرة، وليس مجرد تهدئة التوترات، حسبما ورد في تقرير لمركز أسباب للدراسات السياسية والاستراتيجية.
هل هي مرتبطة بالانتخابات التركية الرئاسية؟
بالنسبة لبعض المراقبين؛ فإن خطوة الرياض تحديداً لها أجندة واضحة قبل الانتخابات الرئاسية التركية في 14 مايو/أيار، فهي تُظهر أهمية أردوغان من وجهة نظر ولي العهد السعودي، والترحيب السعودي بإعادة انتخابه لضمان مضي التفاهمات التركية السعودية قدماً، خاصة أن الإقراض السعودي لتركيا لا يأتي مع أي قيود، في الوقت الذي تشدد فيه الرياض شروط الائتمان لدول أخرى متعثرة، مثل باكستان ومصر وتونس والبحرين، يمثل بعضها حلفاء مقربين للمملكة، حسب مركز أسباب.
ويقول تقرير مركز أسباب إن القرار السعودي قبيل الانتخابات قد يشير في الوقت ذاته إلى أن الأمير محمد بن سلمان تعمد تنفيذ الاتفاق وعدم الانتظار لما بعد الانتخابات للتأكيد على أن الشراكة السعودية التركية هي شراكة بين الدولتين، ولا ترتبط بهوية الفائز في الانتخابات المقبلة.
كانت وتيرة التطبيع التركي الإماراتي متسارعة وواضحة، وبلغت حد استلام أبوظبي دفعات من صفقة طائرات من دون طيار تركية، والآن يمثل إضافة تركيا لاتفاقيات الشراكة الاقتصادية الشاملة تأكيداً من الإمارات على تمسكها الاستراتيجي بسياسة تصفير المشاكل القائمة على تعزيز الروابط التجارية مع القوى الإقليمية.
سمات الشراكة التركية الخليجية المستجدة
في المقابل؛ كانت وتيرة تعافي العلاقات السعودية التركية أبطأ، لكن الآن بات واضحاً أن تركيا والسعودية، اللاعبين المهمين في العالم الإسلامي والمنطقة، قد اتفقا على أسس لتطوير العلاقات في المدى المتوسط على الأقل.
ومن المتوقع أن نرى تدفقاً في الاستثمارات السعودية ونشاطاً أوسع في التجارة بين الجانبين، بينما ستكون تركيا أكثر التزاماً تجاه تلبية احتياجات السعودية الأمنية، خاصة ما يتعلق ببرامج التصنيع العسكري المشترك، حسب مركز أسباب.
ومع هذا؛ يقول المركز إنه سيكون من المبالغة النظر إلى الشراكة السعودية التركية الناشئة باعتبارها محوراً أو تحالفاً إقليمياً صاعداً؛ حيث سيظل التنافس الجيوسياسي كامناً في علاقة البلدين، خاصة مع الصعود الواسع للدور التركي في المناطق التي تعتبرها السعودية مجال نفوذها الأساسي، في الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي، حسب تقرير مركز أسباب.
تصفير المشكلات بات جزءاً من سياسة الدول الثلاث.. وإليك دوافع الرياض وأبوظبي لهذا التوجه
هناك دوافع متعددة على الأرجح لهذا التوجه السعودي الإماراتي الجديد، فهو على الأرجح، جزء من توجه عام للبلدين يجري تنفيذه بشكل مختلف بينهما، لتصفير المشكلات مع الجوار، أو تقليلها على الأقل (في حال إيران خاصة).
وهو أمر بدأته الإمارات مع طهران مع تبينها أن تعرضها لمناوشات وعمليات إيران العدوانية الغامضة يمكن أن تضر بصورة البلاد كمركز للسياحة والسفر والشركات الأجنبية بالشرق الأوسط.
وهي أمور بدأت تسير في الرياض، عبر تخفيف التوتر مع طهران، وإجراء مفاوضات متباطئة، ولكن مستمرة بين الجانبين بوساطة عراقية.
ولكن التحسن في العلاقات السعودية الإماراتية مع تركيا يبدو أنه يسير في اتجاه أكثر متانة من عملية التهدئة الجزئية مع إيران، المنافس المزمن للبلدين بالمنطقة، والمجاور لهما مباشرة.
وهذا الدافع موجود أيضاً لدى الجانب التركي، الذي سعى بدوره لتخفيف التوتر بدوره مع معظم الجيران، كما ظهر من الحماس التركي للتطبيع مصر، بل وصل الأمر لإبداء الرغبة في التطبيع مع النظام السوري، الذي كان خطاب الرئيس التركي حاداً دوماً تجاهه في ظل دعم تركيا الكبير للمعارضة السورية، وفتح حدود بلادهم لتدفق اللاجئين الهاربين من القصف الإيراني الروسي للمدن السورية بشكل جعل تركيا أكبر مستضيف للاجئين في العالم.
كما أن تركيا التي تعاني من عجز مزمن في الميزان التجاري وميزان المدفوعات تفاقم مع الحرب الأوكرانية، جراء ارتفاع فاتورة استيراد الطاقة، هي في حاجة لاستثمارات وودائع الخليج وأسواقه الثرية.
أسباب الخلاف الأساسية بدأت تخبو، وظل القلق المشترك من إيران
وهناك عامل أصيل وراء آفاق تعزيز الشراكة التركية الخليجية التي بدأتها أنقرة مع قطر، وهي أن أسباب الخلاف التركي مع السعودية والإمارات بدأت تخبو.
فمنذ تولي حكومة حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا، في مطلع هذا القرن، عملت على إعادة توجيه بوصلة تركيا التي كانت منصبة منذ الحرب العالمية الأولى نحو الغرب حصراً.
وبدا أن من ثوابت سياسة حزب العدالة التأكيد على انتماء تركيا الإسلامي، وعلاقتها ودورها بالعالم العربي، وتعزيز علاقتها التجارية معه عبر سلسلة من اتفاقات الشراكة وحتى إزالة التأشيرات مع دول الشام والعراق.
وكان من بين أعمدة سياسة أنقرة العربية، إن صح التعبير، إقامة وثيقة مع دول الخليج، ومنها الإمارات النشطة اقتصادياً، والسعودية أكبر منتج للنفط في العالم، وأكبر أسواق المنطقة، وبلد الحرمين الشريفين.
كما لم تكن مواقف الدول الخليجية وتركيا مختلفة كثيراً تجاه صعود النفوذ الإيراني في المنطقة، خاصة في العراق وسوريا وحتى اليمن، رغم أن أنقرة حافظت على روابط اقتصادية وثيقة واتصالات دبلوماسية رفيعة وتنسيق عسكري وأمني مع إيران حتى في ظل تواجه حلفاء البلدين على الأرض في سوريا.
ولكن الخلاف حول الربيع العربي أثر على هذه العلاقة مع دول الخليج، باستثناء الدوحة التي كان لها وجهات نظر مشابهة لأنقرة.
ورغم توافق تركيا مع السعودية، وبصورة أقل الإمارات في مناهضة نظام الأسد ودعم المعارضة السورية، ولكن سقوط نظام الرئيس المصري السابق محمد مرسي عام 2013، والخلاف حول الأزمة الليبية خاصة مع الإمارات عقد العلاقة التركية مع الرياض وأبوظبي، إضافة لاغتيال جمال خاشقجي.
ولكن أسباب الخلاف تراجعت أو انزوت، وبعد أن هزم الربيع العربي، فإن تركيا خاضت جولة أخيرة حققت فيها مكاسب جزئية لحلفائها في ليبيا سوريا، ضمنت لهم مقعداً في التفاوض، و عدم إقصائهم وذلك خوضها عبر معركة إدلب بشمال سوريا في عام 2019، ودعمها لحكومة الوفاق أمام حفتر المدعوم من مصر والإمارات في رد الهجوم على طرابلس، ومنذ ذلك الوقت دخلت الأزمتان السورية في جمود عسكري بات واضحاً أنه لا يمكن حسمه ميدانياً لأي طرف، ومفاوضات سياسية متعثرة لا تصل لحل، ولكن تسمح أحياناً بتسويات جزئية.
ومع تعسر التحالف العربي في حرب اليمن، وقلق السعودية والإمارات من البرنامج النووي الإيراني الذي حقق تقدماً لافتاً، مع رغبة البلدين في عدم تحمل أعباء أي مواجهة إسرائيلية أو أمريكية مع إيران، وقلق تركيا من النفوذ الإيراني بدورها، فإن البلدان الثلاثة تبدو في حاجة لعلاقة وثيقة للتعامل مع الملفات الشائكة في المنطقة، التي أصبحت فيها الخلافات أقل حاليًا، بينما المصالح هناك كثير منها مشترك.
الأولوية باتت للاقتصاد، وقدرات أنقرة تتكامل مع الرياض وأبوظبي
كما أن الملف الاقتصادي بدأ يصعد كأولوية للدول الثلاث، وهو أمر أفضى أحياناً لتنافس إماراتي سعودي في ملفات عدة، منها المنافسة على استضافة الشركات العالمية والتحول لمركز عالمي للسياحة وصناعات الطاقة والاستثمار الدولي، وحتى حصص إنتاج النفط داخل أوبك.
بالنسبة للإمارات والسعودية، يوفر الاقتصاد التركي رغم مشكلات الليرة (التي استقرت منذ منتصف العام الماضي) فرصاً كبرى، فهو اقتصاد كبير، ومفتوح، ولديه ميزات نسبية كبيرة في مجالات مهمة للدولتين مثل النقل واللوجستيات والمصارف والسياحة والصناعات الغذائية والمنتجات صديقة البيئة.
كما أن اقتصاد تركيا متكامل أكثر منه منافس للبلدين، إضافة لموقع تركيا في مجال نقل المنتجات والطاقة المهم للدول النفطية، خاصة أن الإمارات تعتبر نفسها عملاقاً لوجستياً والسعودية بموقعها الاستراتيجي مؤهلة لنفس الوضع.
إضافة لتميز تركيا أكثر من كل دول المنطقة المنافسة لها بمرونة ظروف وقوانين الاستثمار.
تركيا شريك موثوق لدول الخليج في مساعيها لتصنيع الأسلحة محلياً
كما لدى أنقرة ما يمكن أن تقدمه لدول الخليج في مجال صناعات الأسلحة؛ حيث شهدت صناعتها العسكرية صعوداً لافتاً في السنوات الماضية، وكان أداء طائرات بيرقدار التركية في حرب أوكرانيا أكبر الشهود عليه.
والسعودية والإمارات تبديان رغبة قوية من التحول لاثنين من أكبر مستوردي الأسلحة في العالم لمنتج ولو بشكل جزئي لها على الأقل.
ومن أبرز مجالات التعاون في المجال العسكري، صناعة الطائرات المسيّرة التي تتفوق فيه تركيا بأداء ينافس الإسرائيلية، ويقل قليلاً عن الأمريكية، وأفضل من الصينية، مع أسعار تزيد قليلاً عما تعرضه بكين.
ولدى تركيا استعداد أكبر من معظم منافسيها في مجال صناعة الأسلحة لنقل التقنية والتدريب للراغبين في تجميع وتصنيع منتجاتها العسكرية، ويساعد على ذلك القرب الثقافي بين أنقرة والدول العربية الذي يجعل هذه المهمة أسهل.
وسبق أن نقلت صحيفة ديلي صباح التركية عن مصادر عسكرية قولها إن الإمارات العربية المتحدة والسعودية تأملان الآن في الاستفادة من التقارب مع تركيا لمواجهة التحدي الأمني المتزايد لهما من جانب إيران والقوات التابعة لها، حيث تعرضت الدولتان لهجمات صاروخية وبطائرات مسيّرة يُعتقد أن طهران تقف وراءها.
وتسلمت الإمارات مؤخراً، عدداً من طائرات بيرقدار التركية وسط تقارير بأن محادثات الإمارات مع بايكار تركزت على توريد ما يصل إلى 120 طائرة من دون طيار من طراز بيرقدار.
وفي سبتمبر/أيلول 2022، قال مسؤول تركي رفيع إن السعودية تريد أيضا شراء طائرات مسّيرة مسلحة وإنشاء مصنع لتصنيعها.
لماذا يمثل الإسلاميون الأتراك صديقاً طبيعياً للعرب؟
يمكن افتراض أن هذه الأهداف والمصالح يمكن أن تتحقق للإمارات والسعودية مع حزب الشعب الجمهوري الذي ينافس زعيمه كمال كليجدار أوغلو أردوغان على الرئاسة، مع ملاحظة أن أوغلو لن يكون منافساً أيديولوجياً لدول الخليج ومصر، كما كان أردوغان في بعض الأوقات.
ولكن في الأغلب ما يعلمه قادة الخليج، أن العلمانيين الأتراك كانت أنظارهم دوماً موجهة صوب الغرب فحسب ولا أحد غيره، وهم لا يعرفون ولا يقدرون ولا يريدون الالتفاف للمنطقة العربية، التي ستكون غالباً في ذيل اهتماماتهم إذا أمسكوا بزمام السلطة في أنقرة، إن لم يناصبوها العداء.
كما لا يمكن إغفال أنه قد يكون الحماس الذي يميز حزب الشعب الجمهوري في التطبيع مع الأسد، أمراً يقلق الرياض تحديداً، خاصة أنه قد يتم بطريقة تخدم النفوذ الإيراني في دمشق، ولا تراعي مصالح السعودية، وقد يتسبب في أزمة إنسانية وإقليمية لو نفذت أحزاب المعارضة التركية وعيدها بطرد اللاجئين السوريين من البلاد.
كما أن نهج أردوغان المتفاهم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جزئياً، والمتحدي للغرب أحياناً، يبدو قريباً من النهج السعودي الحالي، وتركيا أبدت تضامنها مراراً مع الرياض في مواجهة الانتقادات الأمريكية والغربية.
ويعلم المطلعون على الشأن التركي أن إسلاميي تركيا حتى لو اختلفوا مع قادة الدول العربية أيديولوجياً أحياناً، فإنهم بحكم الجذور الأيدلوجية والتاريخية يكنون احتراماً للعالم العربي، خاصة السعودية التي لديها مكانة خاصة باعتبارها بلد الحرمين، التي تتبنى الإسلام كنظام للدولة لكل الإسلاميين السنة في العالم، حتى لو اختلفوا معها سياسياً في بعض الأوقات.
ولهذا، فإن وجود حزب إسلامي في سدة الحكم في أحد أكبر بلدان الشرق الأوسط اقتصادياً وعسكرياً، يمثل رصيداً ثميناً للرياض، ويسهل التوصل لشراكات فعالة.